المتغيرات الاجتماعية في العالم الإسلامي ستقود إلى تحولات سياسية كبيرة يقول صموئيل هنتنغتون، صاحب نظرية «صراع الحضارات» الشهيرة، إن الآخرين أساؤوا فهمه، وأن الكثير مما كتبه جرى تحويره أو تفسيره بما لا ينسجم وما يعتقده أصلاً. لكن هنتنغتون ما يزال رغم كل شيء مصراً على أن الثقافات هي الخلفية العميقة للصراعات التي نعيشها اليوم، وأن لا شيء أكثر من نزعات الهوية بمقدوره
أن يشحن المشاعر في زمننا هذا.. وهنا مقابلة يشرح فيها المفكر الأميركي رؤيته لأميركا والإسلام، وما يحدث في العالم من متغيرات. نظريتك حول «صراع الحضارات» تقول ان السياسة العالمية اليوم ناتجة عن نزاعات كامنة عميقا بين ثقافات وأديان متباينة. وجدت هذه الاطروحة رواجا، نتيجة هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001، والحرب على الارهاب، ودائما ما ينظر إليها على أنها موجهة ضد الاسلام، من جانب الغرب. هل تشعر بأن اطروحتك اسيء استخدامها منذ 11 سبتمبر؟ وهل يمكن ان تجعل هذا الرأي اكثر اعتدالا؟ ـ وجهة نظري هي ان العلاقات بين الدول خلال العقد المقبل ستعكس الالتزامات والعداء الثقافي بين هذه الدول أكثر من أي عوامل أخرى. من الواضح جدا ان السلطة ستستمر في لعب دور مركزي في السياسة على الصعيد العالمي، كما هو الحال دائما. ولكن عادة ما يكون هناك شيء خلف النزاعات. ففي أوروبا القرن الثامن عشر هيمنت قضايا مثل المسائل ذات الصلة بين الملكية مقابل الحركات الجمهورية الناشئة في اميركا اولا ثم في فرنسا. وفي القرن التاسع عشر تضمنت القضايا التي كانت مطروحة في الساحة دولا تنظر الى نفسها من خلال القومية. أما في القرن العشرين، فقد احتلت الآيديولوجية صدارة القضايا والاهتمامات، وكان ذلك نتيجة الثورة الروسية. فقد كانت عندنا الفاشية، والشيوعية والديمقراطية الليبرالية اللتان تنافستا مع بعضهما البعض. باتت الديمقراطية الليبرالية مقبولة، نظريا، حول العالم، لذا فإن السؤال الحقيقي هو: ما الذي سيصبح محط تركيز السياسة العالمية خلال العقود المقبلة؟ لا تزال حجتي تتلخص في أن الهويات الثقافية والانتماءات لن تلعب دورا فقط، وإنما ستعلب دورا رئيسيا بين الدول. كتبت ما يلي: «ظل الستار الحديدي على مدى 45 عاما الخط الفاصل الرئيسي داخل اوروبا. هذا الخط تحرك عدة مئات من الأميال باتجاه الشرق. وهو الآن يفصل بين الشعوب المسيحية الغربية من جانب والشعوب الاسلامية والأرثوذوكسية من الناحية الثانية».. هل تعتقد ان مثل هذا الفصل بين الغرب والإسلام يعني ضمنيا وجود نسق واحد داخل هذه المجموعات؟ ألا تعتقد ان ذلك يتجاهل واقع ان هناك جاليات اسلامية تعيش داخل العالم الغربي؟ ـ هذا استنتاج خاطئ تماما. لم اشر الى ان الغرب كله شيء واحد. من الواضح ان هناك مجموعات متباينة داخل الغرب ومجموعات متباينة داخل الاسلام. هناك طوائف مختلفة وجماعات مختلفة ودول مختلفة. لذا فالاسلام ليس شيئا واحدا متجانسا، والغرب كذلك ليس شيئا واحدا متجانسا على الإطلاق. اعتقد انه ليس من الفائدة في شيء ان نتحدث عن وجود كيانين، إلا ان هناك خصائص مشتركة داخل كل منهما. الناس في كل مكان يتحدثون عن الغرب والإسلام، وافترض ان ذلك له علاقة بالواقع وله معنى ايضا، وبالتأكيد ان محور هذه المواقع هو الخلافات في الدين. هل هناك أي نقطة للتوفيق بين طرفي هذا «الستار الحديدي» الجديد؟ ـ كما ذكرت، كل طرف لديه انقساماته الداخلية. الدول الغربية تتعاون مع الدول المسلمة، والعكس. من الخطأ ان نفكر على اساس ان هناك طرفين منسجمين يواجهان بعضهما بعضا. السياسة الدولية تظل غاية في التعقيد، وللدول بالطبع مصالح متباينة ستقودها الى تكوين ما قد يبدو في نظر البعض اصدقاء وحلفاء يتسمون بالغرابة. فالولايات المتحدة تعاونت، ولا تزال تتعاون، مع عدة دكتاتوريات عسكرية في مختلف الدول. من الواضح اننا نفضل ان تصبح هذه الدول ديمقراطية، لكننا نتعامل معها لأن لنا مصلحة في ذلك، سواء كان ذلك التعامل مع باكستان او أفغانستان او أي دولة اخرى. قلت إن الحضارة بتغيرها في اميركا، اتجهت نحو التركيز على الليبرالية ـ الديمقراطية كآيديولوجية؟ ـ ظلت هذه باستمرار الايديولوجية الاميركية. منذ ثورة القرن السابع عشر باتت لأميركا آيديولوجية ديمقراطية ـ ليبرالية ودستورية، على الرغم من انني احاول تجنب استخدام مصطلح آيديولوجيا لوصف ذلك. اتحدث عن معتقدات وقيم اميركية. عندما نذكر كلمة آيديولوجيا، تكون في ذهن الشخص الشيوعية، التي كانت عبارة عن آيديولوجية ونظام معتقدات صيغ بعناية. فعندما يقرأ الشخص المانيفيستو الشيوعي يعرف ما هو محوره الاساسي. ولكن لدينا مجموعة ليست مترابطة من القيم والمعتقدات التي ظلت مستمرة على مدى قرنين ونصف تقريبا، وهذا في حد ذاته امر مثير للدهشة. من الواضح ان التغييرات والتعديلات حدثت، نتيجة للتنمية الاقتصادية وحركة التصنيع والموجة الهائلة من المهاجرين الذين اتوا الى هذا البلد والأزمة الاقتصادية والكساد والحروب العالمية. إلا ان نواة وأساس مجموعة المعتقدات الاميركية ظلت مستمرة. وإذا عاد الى عالمنا اليوم واحد من الذين صاغوا بيان الاستقلال، فلن يصاب بالدهشة ازاء ما يقوله الاميركيون، وما يعتقدونه ويعبرون عنه في تصريحاتهم وبياناتهم الرسمية. سيكون الأمر كله عاديا. كيف يتعامل العالم الاسلامي في سياق عالم أقبلت غالبيته على الديمقراطية الليبرالية، ولو كان ذلك نظريا؟ ـ رأينا على الاقل، بدايات لتغيرات اقتصادية واجتماعية مهمة في العالم الاسلامي، اعتقد انها ستقود في الوقت المناسب الى تغير سياسي اكبر. المجتمعات الاسلامية، كما هو الحال في المجتمعات الاخرى، اصبحت مجتمعات حضرية على نحو متزايد، كما ان الكثير منها اصبح صناعيا. ولكن بما ان لكثير من هذه الدول نفطا وغازا، لا يوجد لديها دافع للتغيير، مع ان عائدات الموارد الطبيعية تمنحهم القدرة على التغيير. فدول مثل ايران بدأت تطوير جانب صناعي. هل تعتقد ان «الحضارة الاسلامية» ستصبح اكثر انسجاما في المستقبل؟ ـ من المؤكد اننا رأينا تحركات في هذه الاتجاه. هناك بالتأكيد عدة حركات سياسية اسلامية في مختلف الدول تحاول اجتذاب مسلمين من مختلف المجتمعات، لكنني اشك في انه سيكون هناك أي نوع من الانسجام الحقيقي في المجتمعات المسلمة كنظام سياسي واحد يدار بواسطة مجموعة او قادة منتخبين او غير منتخبين. لكن يمكننا ان نتوقع تعاون قادة المجتمعات المسلمة مع بعضهم بعضا حول الكثير من القضايا، مثلما تتعاون المجتمعات الغربية مع بعضها. لا استبعد احتمال أن تطور دول مسلمة نوعا من التنظيم اشبه بالاتحاد الاوروبي. لا اعتقد ان هذا احتمال غالب، لكنه ممكن الحدوث. كتبت تقول إن «الثقافة الاسلامية بمقدورها أن تشرح، بالتفصيل، سبب فشل الديمقراطية في معظم العالم الاسلامي» وبالرغم من ذلك فجزء كبير من العالم الاسلامي به نظم ديمقراطية مثل إندونيسيا ومالي والسنغال بل والهند، بعدد سكانها الضخم من المسلمين. ما هي العلاقة، او عدم العلاقة؟ ـ لا أعرف الاجابة على هذا السؤال لأنني لست خبيرا في الشؤون الاسلامية، ولكن يلفت النظر البطء النسبي الذي تحركت فيه الدول الاسلامية، ولا سيما الدول العربية، نحو الديمقراطية. ربما يكون تراثهم الثقافي وآيديولوجيتهم مسؤولة عن ذلك. وربما تكون الخبرة الاستعمارية التي تعرضوا لها عاملا في المعركة ضد السيطرة الغربية، بريطانياً او فرنسياً أو غير ذلك. الكثير من هذه البلاد كانت، حتى فترة متأخرة، مجتمعات ريفية تحكمها صفوة من ملاك الاراضي. واعتقد انهم يتحركون نحو التمدن ونظام سياسي اكثر تعددية، وهو ما يحدث في كل بلد اسلامي. ومن الواضح زيادة مشاركتهم مع المجتمعات غير الاسلامية. والعامل الاساسي الذي سيؤثر على عملية انتشار الديمقراطية، بالطبع، هو هجرة المسلمين لأوروبا. ما رأيك بشأن الحجة التي طرحها أخيرا زميلك في جامعة هارفارد ستيفن وولت، وجون ميرشيمر من جامعة شيكاغو، من ان السياسة الخارجية الاميركية متأثرة بطريقة غير متوازنة بالجماعات الموالية لإسرائيل التي لا تعمل من اجل افضل المصالح للولايات المتحدة.. هل تعتقد بأن وجهة النظر تلك ذات قيمة؟ ـ اعتقد انها وجهة نظر يجب على الاشخاص الآخرين الاهتمام بها بجدية. لا اعتقد انهما جدليان. ولست مقتنعا تماما بوجهة نظرهما، والعبارة التي لفتت انتباهي هي «غير متوازنة». لا اعرف كيف نحكم على ذلك. السياسة الخارجية الاميركية تتأثر في كل مجال بالجماعات العرقية بطريقة او اخرى، بالإضافة الى الجماعات الاقتصادية والإقليمية. لقد كان هناك لوبي آيرلندي أثر على السياسة الخارجية الاميركية لقرن ونصف القرن، وفي بعض الاحيان جعل علاقاتنا ببريطانيا العظمى صعبة للغاية. وتوجد جماعات ضغط اخرى مماثلة. واللوبي الاسرائيلي ليس فريدا. ربما يختلف عن جماعات الضغط الأخرى لأنه يركز على قضية واحدة ـ وهي بقاء اسرائيل والترويج للمساعدات لها. هل تعتقد، كما يشير الكثير، ان السبب وراء عدم الاستقرار في الشرق الاوسط مرتبط مباشرة وبصفة اساسية بالتوتر بين اسرائيل والفلسطينيين؟ ـ من الواضح انه كانت هناك خطوط فاصلة بين الاسرائيليين والفلسطينيين، ولكن هناك الكثير من الخطوط الفاصلة الاخرى عبر السنوات، بين اسرائيل ومصر، والصراع بين العديد من التجمعات الدينية في لبنان، وبين البعثيين وحركات المعارضة.. هناك العديد من النزاعات تدور في الشرق الاوسط. يطرح العديد تركيا كجسر بين العالم الغربي والعالم الاسلامي، هل ترى ذلك؟ ـ سأضع الكثير من الخطوط تحت ذلك. لدى تركيا مصالحها الخاصة، ومن الناحية التاريخية غزت تركيا معظم العالم العربي، وكان على العرب الدخول في معارك تحرير للتخلص من الاتراك، هذا في الماضي. قد لا يؤثر هذا بالضرورة على ما سيحدث، ولكنه موجودة في ذاكرة الناس. زميلك امارتيا شون من جامعة هارفارد ينتقد نظريتك حول الحضارة، ويقول «الهوية ليست قدراً»، وان كل فرد يمكنه تشكيل وإعادة تشكيل هويته وفق اختياره. ويقول ان نظرية «صدام الحضارات» تسعى الى «نمذجة البشر» وحشرهم في «خيار واحد» أو في «صناديق الحضارة»، ما هو رأيك في المواطنين الذين لديهم هويات متعددة؟ ـ اعتقد ان امارتيا أخطأ تماما. أنا لم اقل ذلك، واعرف ان الناس لديها هويات متعددة، ما قلته في كتابي هو ان اسس التواصل والتنافر بين الدول قد تغيرت عبر الزمن. ففي العقود المقبلة ستلعب قضايا الهوية، أي التراث الثقافي واللغة والدين، دورا مركزيا في السياسة. وقد شرحت هذه الفكرة لأول مرة قبل عشر سنوات، ومعظم ما قلته تحقق خلال تلك الفترة. كيف تحاور اشخاصا لديهم هويات متعددة، مثلا مسلم او يهودي يعيش في الولايات المتحدة ولديه هويتان. كيف تحاوره؟ ـ هم الذين يتوصلون الى تفاهم، وقد حدث ذلك في القرنين او الثلاثة قرون الماضية على الاقل. فعندما تتزايد هجرة الاشخاص والأقليات العرقية والدينية تتطور مجموعة من القواعد وكذلك اللغة التي يمكن للمجتمع الاكبر قبولها والأقليات ايضا. فالمجتمع الاكبر عليه قبول درجة من الاستقلالية بالنسبة للاقلية: حق ممارسة شعائرهم وأسلوب حياتهم، ولدرجة ما استخدام لغتهم. والعديد من الاسئلة الصعبة المتعلقة بدور الاقليات العرقية تتركز على اللغة. الى أي مدى يجري تعليمهم بلغتهم او اللغة الوطنية؟ إلى أي مدى يصبح المجتمع، رسميا او بطريقة غير رسمية، دولة بلغتين؟ وهل تستخدم لغة واحدة في الاجراءات العامة، في المحاكم والتشريع، والفرع التنفيذي، والسياسة؟ هذه قضايا، كما نعرف، يمكن ان تصبح في غاية الحساسية. كيف ترى ان الاصولية ـ الفكرة الراديكالية بأن هويتك افضل من الآخرين ـ تؤثر على السياسة العالمية اليوم؟ هل تعتقد بوجود راديكالية معينة مرتبطة فقط بالإسلام، او هل تعتقد بأنها موجودة في كل الاديان؟ ـ اعتقد ان الاصولية هي ما قلته: هذا التوجه الراديكالي نحو هوية الشخص وثقافته مقارنة بهوية الآخرين وثقافتهم. ان الاتجاهات والحركات الاصولية موجودة في كل المجتمعات والحضارات. وهنا في الولايات المتحدة لدينا حركات اصولية اتخذت توجهات عدائية نحو المهاجرين واستيعابهم في مجتمعنا وثقافتنا. ولذا فهذه الاتجاهات منتشرة. المشكلة هي حين تنفلت هذه التوجهات الاصولية وتصبح عاملا مسيطرا في المجتمع، وهو ما يمكن ان يقودنا ليس فقط الى قمع الاقليات بل وحتى الدخول في حروب مع مجتمعات مجاورة ذات ثقافات مختلفة. ولذا فمن المهم محاولة السيطرة على هذه التوجهات ومنعها من التطرف. لماذا يوجد مزيد من التوتر بين المسلمين وغيرهم من الجماعات في المجتمعات الاوروبية، بالمقارنة بالولايات المتحدة، حيث يبدو المسلمون اكثر تكيفا؟ كيف يرتبط ذلك بنظريتك حول الهوية والثقافة فيما يتعلق بالجاليات «الإسبانية» في الولايات المتحدة؟ ـ قبل كل شيء، هناك فرق كبير بين المسلمين في أوروبا وأميركا، وهو ان عدد المسلمين في اميركا اقل بالمقارنة بعددهم في اوروبا. ثانيا، هؤلاء الذين يعيشون في الولايات المتحدة اتوا عبر آلاف الاميال من المحيطات، ولم يعبروا الحدود سيرا على الاقدام، او عبروا البحر المتوسط في قوارب صغيرة. ليست لدينا حدود مع دول اسلامية، بينما اوروبا لديها مثل هذه الحدود، ويبدو هذا الفارق الاساسي. كيف يقارن وضع المسلمين في اوروبا بوضع الإسبانيين في الولايات المتحدة؟ توجد خلافات اساسية، لان الولايات المتحدة كانت دائما بلدا للمهاجرين. الإسبان الذين اتوا الى هنا قدموا بصفة اساسية من المكسيك وجنوب أميركا. وهم ينتمون للمذهب الكاثوليكي، وهو مذهب اميركي. فثلث عدد سكاننا من الكاثوليك، ولذا فليس لذلك نفس التأثير على المسلمين الذين هاجروا لأوروبا. وهم يتحدثون الاسبانية او البرتغالية، وهي لغات اعتدنا عليها، ولذا لا يبدو انها تمثل نفس نوعية المشاكل التي يمثلها المسلمون الذين يتحدثون العربية في أوروبا. الخلاف الاساسي بالنسبة لنا فيما يتعلق بهجرة الإسبان هو انها ضخمة، وتأتي من دول مجاورة وليس عبر الاطلسي او المحيط الهادي. وهو ما يتسبب بمشاكل مختلفة لنا بالمقارنة بالماضي، وهو امر مختلف غاية الاختلاف من الموقف في اوروبا، حيث نشاهد مهاجرين يدينون بديانات غير اوروبية يأتون من دول مجاورة.