من هذه الزوبعة المفتعلة ، هل تُريد منها حقاً فك الحصار عن غزة ؟ وهل تُريد حقاً مساعدة شعبها المسكين على الحياة والعيش الكريم ؟ ، أتمنى من كل قلبي ان تكون نواياها صادقة في هذا المجال ، ومن منا لايتمنى ذلك ، ولكننا نشك لأن ماوراء الأكمة ماوراءها .
فتاريخ تركيا العثماني والطوراني على حد سواء لايبشر بخير ولايدل على حُسن النوايا تجاه مجمل قضايا العرب وقضايا المسلمين ، والأتراك في نظرتهم للعرب شعوبيون ، وهم طائفيون تجاه غيرهم من أهل الملل والنحل ، وتاريخهم حافل بالدم وبالكراهية للعرب وللأقليات الأخرى ، وسجل أعمالهم بشع غير محمود في سالف الأيام والسنيين .
نعم إن مساعدة شعب غزة على الحياة أمر نبيل ، بل هو واجب شرعي وأخلاقي ، ولكن المهم في تحقق ذلك هو : بعدم الخلط بين الإرادة الخيرة وبين مايُريده الأتراك بالفعل ، في اذهان البسطاء من الناس الذين تغريهم الدعايات المضللة والأفكار المزيفة ، ويجب الإشارة إلى إن محبة تركيا لشعب غزة غريبة نوعاً ما ، لكونها أتت بعد عجزها من الدخول في منظمة الإتحاد الأوربي ، والذي كان بسبب عجزها في معالجة الإختلالات الناشئة بفعل سجلها في ميدان حقوق الإنسان ، وموقفها من شعب كردستان وحزب العمال كل ذلك وغيره يحوُل دون تحقيق حلمها في عضوية الإتحاد الأوربي ، ولشعورهم بخيبة الأمل هذه ، قالوا : فلنيمم وجهنا إذن شطر العرب فهؤلاء التعساء سيصفقون لنا كما يصفقون لكل وافد من غير جلدتهم ، وفي ذلك سنضرب كل عصافير الشجر برمية واحدة .
لأن تركيا تشعر بإن التقرب صوب العرب سيغيض الأوربيين ويدفعهم لإعادة النظر في موقفهم منها ، كما إن التقرب من العرب بما هو هو له مغانم و مكاسب كثيرة مادية ومعنوية ، فتركيا عند العرب مطلوبة بذاتها لمواجهة إيران الشيعية الصفوية التي تتمدد في الخليج وبلاد الشام ، ولا أحد في المنطقة العربية بقادر على أن يفعل لها شيء ، وتركيا وحدها بما لها من تاريخ عدائي وصراع مع إيران تستطيع وقف ذلك التمدد الإيراني ومواجهته في المنطقة العربية ، هكذا يظن العرب وهكذا يعتقدون .
هذا الإتجاه في السلوك العربي كان يُعمل عليه بالخفاء والعلن منذ وقت ليس بقريب ، حين بدء الإعلام المرتبط بالبرجوازية العربية في تهئية الأجواء للتعريف بالثقافة التركية ، عبر التركيز على المسلسلات التركية وبكثافة مثيرة للسخرية في التلفزة العربية وخاصة في تلفزيونات عرب الصحراء ، وهذا العمل كان يُقصد منه التعريف بتركيا وتقريب الذهن العربي إليها من جديد ، وتعويده للقبول بها كواحدة من مؤوسسات العقل العربي ، كما إن تركيا تشعر بان لها عند العرب حضوة ومقام كبير وهذا ما لاتجده عند الأوربيين ، فالعرب يريدون منها ان تُدير الصراع مع إيران نيابة عنهم ، لذلك يغرونها بالمال وفتح الأسواق العربية لمنتجاتها ، كما إنه لا مشكلة لدى العرب فيما لو تقدمهم الأتراك في القيادة والزعامة ، فلقد كانوا لهم ولاة أمر وخلفاء .
وتركيا تظن إن هذا التوجه سيحرج الأوربيين مما يدفعهم للتغاضي وعدم التركيز في سجلاتها تجاه حقوق الإنسان وحقوق الأقليات ، وسيدفعهم لقبولها عضواً في الإتحاد الأوربي هذا ما تسعى له وتتمناه ، فكل ماتُريده هو هذا وبان تكون جزءاً من منظومة العالم الغربي ، وهذه الضوضاء المفتعلة لا ربط لها ولا دخل لها بأماني العرب وتمناياتهم ، والمؤسف ان بعض السذج من العرب يصفق لهذا الخلط واضعاً مستقبله بيد عزيمة تركيا وموقفها الإعلامي المثير للأشمئزاز ، ظهر هذا في لحن القول عند بعض الكتاب والعاطفيّ المزاج من أنصاف وأبعاض المثقفين .
فمن منا يتذكر لتركيا الحديثة موقفاً يمكننا الإعتزاز به والإفتخار ، أليس هي من وقفت بقوة من اجل تدمير العراق وسد منافذ الحياة عليه ؟ أليس هي التي قطعت وتقطع بين الفينة والأخرى الماء عن نهري دجلة والفرات ؟ من منا لا يتذكر قتلها اليومي وإختراقاتها الدورية لحدودنا الشمالية بحجة مطاردة مسلحي حزب العمال الكردستاني !! ومن منا لا يتذكر سرقاتها لنفطنا وتهريبها لأثارنا و ثرواتنا الأخرى ، تركيا هذه تعشعش وتعيش على دمانا وعلى أموالنا ، ونحن بعد كل هذا نسبح بحمدها ونقدس بل ونعتبرها العون والمنقذ لنا من إيران .
تركيا هذا السمسار والعراب بين إسرائيل وسوريا ، لن يكون بمقدورها صُنع السلام لأنها عاجزة على صُنعه في بلادها ، وتركيا هذا الراعي لعملية تفريغ إيران من أسلحتها ومن قوتها العسكرية والأمنية ، لن تكون قادرة على ترويض المنطقة لكونها تعيش أزمة حكم وسياسة داخلية ، وما التصفيات لكبار القادة والمسؤولين إلاّ دليل وشاهد على ذلك ، وقديماً قيل - فاقد الشيء لا يعطيه - .
فالعرب ليس حقل تجارب للفاشلين ، لأن العرب يستطعيون من غير تركيا ان يصُنعوا السلام والأمن ، لكن هذا مرهون بتخلصهم من عقدة الحقارة والشعور بالنقص ، والعرب قادرين على صُنع مستقبلهم من دون وصاية من أحد ، ولكن بشرط الوضوح والشفافية والإنفتاح على بعضهم وإعتماد الديمقراطية خياراً في الحكم وفي كل شؤون الحياة ، وشعب غزة يستطيع ان يتفاعل مع الحياة حين يمتلك إرادته ، من غير حماس ومن غير مشروعها في بناء الدولة الإسلامية .
وشعب فلسطين شعب حر وشعب كبير ، وليس من السهل تضييع حقوقه نزولاً عند رغبة بعض المقامرين وقطاع الطرق والمتحالفين مع الغير ، شعب فلسطين كان واقعياً في خياراته مع أبو عمار ، وهي خيارات اجمع العرب على صحتها في بيروت ، وكلما نقول ها قد تقدم قطار السلام خرج إلينا من ينغص على شعب فلسطين حياتهم ويستدرجهم للموت والدمار عنوة ، مرةً يأتي هذا من بين أحضان الزعامات العربية الهشة ، ومرة ثانية يأتينا من بين أطماع إيران وحلمها القديم في التمدد بعيداً ، ومرة ثالثةً في التصديق بأحلام تركيا ووعودها في ان تكون مع العرب عوناً ونصيراً ، مع إنه حلم - كحلم أبليس في الجنة - .
أقول : لندع تركيا لأهلها ولشعبها ، ولندع الفلسطينين أحراراً يختارون بين السلام واللاسلام ، من غير إيحاءات وإغراءات ووعود كاذبه ، لندعهم مرةً واحدةً أحراراً يختارون الصحيح من غير تدخل أو أنانية من أحد ، ولندع منظمة التحرير تجرب بالفعل ، ولندع أبو مازن يختار الحياة وصُنع السلام والأمن والمستقبل ، لندعه ولنقف خلفه وإلى جانبه من غير تشكيك أو إفتعال للأزمات ، ومن غير إعتماد على نوايا الأغيار ووعودهم ، فحسب ظني إن العرب وغير العرب لايريدون للفلسطينيين السلام والأمن والوئام والإستقرار ...