لا نبتعد عن واقع الحال إذا قلنا نشب الماضي مخالبه في أدمغتنا نشوب مخالب الباز في خاصرة طريدته، يشد علينا بنصوصه وأحداثه، تلك التي تحولت إلى مقدساتٍ يرمى بالردَّة مَنْ سعى مفتشاً بين تلافيفها، عمَّا يفيد النَّاس في معاشهم وإنسانيتهم على العموم. مازلنا نستاف أتربة مواضع الحوادث الغابرة، وهي مدافة بدماء الأشرار والأخيار على حد سواء. نُحنَّي بها أكفنا بركةً ويمناً! تحولت تلك الأتربة وحوادثها إلى مطبوعات في العقول، لم تخل من رؤساء وجدوها رافعتهم إلى الرئاسة، وشيدَّوا منها ألف ألف مسجد "ضِرَار"، ترهات مَنْ مسَّها مسَّ السماء، وهي ليس كذلك.
أتذكر جيداً، في العام الذي أرخ فيه الأميركان الصعود إلى القمر (يوليو 1969)، أُفتتح ضريح جديد في أطراف منطقتنا، وظهر في أحد الأصباح الشتوية تخفق فوقه الخرق الخضراء، مع أن المكان كان لا يصلح لدفن الموتى، فهو عبارة عن جزرٍ مكبوسة بالبردي والقصب، وربما يُضطر إلى رمس الأطفال فيها، أولئك الذين تُعسر فيهم أمهاتم، أو يموتون متسممين من آلة قطع حبل السَّرة، ووسط هذا الحال تنبه أحدهم إلى إشادة ضريح، فالجمهور الهالك لا يملك سوى الأمل براية خضراء وعجينة من الحنَّاء، التي كانت تصدرها مدينة الفاو العراقية، واشتهرت بحِنَّة البصرة، عند أهل الكويت، وحيث تصل صادرات الفاو عبر ماء الخليج.
لكن، ما الذي جعلهم يحتفلون بركز الراية على سطح القمر، وسط حَيرتنا ونحن لا نمتلك إلا الحَيرة والاستغفار من الصعود إلى القمر! وبالمقابل مَا الذي جعلنا نركز الراية، وفي الوقت نفسه، على ضريح موهوم! أراها مفارقة بليغة، أن تترك تلك الشعوب تاريخها التعسفي، من ضحايا القول في دوران الأرض وكرويتها، ومخالفات اللاهوت بكل مقالاته وشروطه، وينتفضون لصالح الحياة البشرية وكرامة الإنسان، والخلاص من الاستعباد الديني، وما يصحبه عادةً من استعباد سياسي قاسٍ (قالها الشيخان: الكواكبي والنائيني)، ونترك نحن فُسحاً في ديننا وتاريخنا، ونتكلس على أوهام لا تسمن ولا تغني من جوع! لم يمنع الدين عندما يؤخذ بالمعقول، ومن دون إخضاعه للمصالح، المعتزلة من مناقشة أمر الجاذبية، واستخدموا التفاحة مثالاً، قبل إسحق نيوتن (اكتشفها 1687) بحوالى ثمانمائة عام. ومن مناظراتهم فيها، وأحدهم كان أبو هاشم الجبائي (ت 323هـ): «إن المولد للهُويِّ (السقوط) ما فيه من الثقل، يدل على ذلك أن الهُويَّ يقع بحسب ثقله، حتى إذا كانت ريشة فارق في حالها الهُويُّ حال التفاحة، وإن كان رفع اليد لا يختلف على أن تنحيّه عنها ليس لها بالتوليد في جهة الاختصاص ما ليس بغيرها» (النيسابوري، مسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين).
لم يمنع التدين العقلاني، لا المغالي، قاضي القضاة أبا علي التنوخي (ت 384 هـ) من تمجيد تنشئة المعتزلة لأبنائهم تنشئة عقلانية بالقول: "من بركة المعتزلة أن صبيانهم لا يخافون الجن"(نشوار المحاضرة). وعندما أقول قاضي القضاة أعني أن الرجل كان على منزلة في دينه. كذلك لم يمنع التدين المعقول، الساند للإنسان في ملاحقة الزمن ومستجداته، أن يكون راكز الراية على القمر مسلماً من أهل البصرة، وليس ابن البصرة بعد عشرة قرون، من مطارحات المعتزلة على أرضه، يقابل الصعود إلى القمر وركز الراية على سطحه بركز الراية على ضريح موهوم.
كذلك لم يمنع الدين "إخوان الصفا وخلان الوفا" (القرن الرابع الهجري) من محاولة التأسيس الفكري لليبرالية، قبل الثورات الإنجليزية والأميركية بقرون عديدة. قال إخوان الصفا وليس "الإخوان المسلمون"، مثلما أجد البعض يتوهم بينهما، ولا أعلم هل هو مجرد توهم أم قصد مقصود، فكلام مثل هذا عند الأخيرين جاهلية وردَّة: "وبالجملة ينبغي لإخواننا أيدهم الله تعالى أن لا يعادوا علماً من العلوم، أو يهجروا كتاباً من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب. لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم جميعاً، وذلك هو النَّظر في جميع الموجودات بأسرها الحسية منها والعقلية، من أولها وآخرها" (رسالة عِشرة إخوان الصفا). وأهل الصفا في قولهم التالي كانوا مع إشاعة الثقافة الإنسانية: "العلوم كلَّها شريفة فيها عزٍّ..." (رسالة ماهية الإيمان). وكي لا يُحملهم البعض ما لا يحتمل نظرهم فرسائلهم تُستهل بالعبارة: "الحمد لله وسلام على عِباده...".
أقول: إذا كانت الراية يركزها فوق الضريح الموهوم شخص أو مجموعة أشخاص أو عشيرة، فنجدها الآن مركوزة بيد أحزاب ومنظمات وعبر قنوات فضائية، فضحت التخلف المعشش في أعماقنا، والنابذ لإضاءات تاريخنا. فالبصرة التي أنجزت وجود المعتزلة وإخوان الصفا تُطارد فيها اليوم الفرق المسرحية، وينتشر فنانوها بين دروبها، علَّهم يجدون حائط مبكى لفرش أعمالهم! وقد أخذت المساجد والحسينيات تضيق بجماعة ثقافية تتحدث بالأدب، وأحذية وأخماس بنادق تنزل على رؤوس إعلامييها من حمايات وكلاء الدين ووكلاء الوزارات في الوقت نفسه، والحال اتساع في خريطة الأضرحة الموهومة وتضييق في خريطة مَنْ يريد التذكير بالمعتزلة وإخوان الصفا، وهما أبناء البصرة الأصائل.
لا أمتلك المعالجة، بقدر ما أمتلك الحَيرة، وعلى الحكومات ووجهاء الشعب من فقهاء وعلماء دين، أن يبحثوا عن أسباب سهولة استدراج الحوادث المنبوذة، حتى في زمنها، إلى حاضرنا، وستبقى تهدد آخر ذرة عقل فينا "إذا لم ينَّلها مصلحون بواسلٌ .. صريحون في ما يدعون كُفاة". والإصلاح ليس في القراءة والكتابة، فمئات من الأميين أثقف ألف مرة من دعاة الثقافة، ولا عبر برامج فضائية محسوبة، إنما في الاقتصاد وعبر التعليم العلمي تقوده وزارة كفؤة، وتقليص فوضى التعليم الديني عبر مئات الحوزات ومدارس المشيخات.
وإلا سيتكرر نموذج جند السماء، وقاضي السماء، وأنصار اليماني، وأم عنقود. كانت الأخيرة جنَّية أشيع عنها أنها تخنق النَّاس ببغداد والموصل (القرن الخامس والسابع الهجريان)، بينما كان المرض يفترسهم، كنت كتبت عنها في أكثر من مقال وكتاب، وكانت المناسبة ظهورها في أيامنا هذه، ولكن عبر الفضائيات التي لا تخلو في برامجها اليومية من تجديد ضريح أو صومعة، بل المعتقدون بوجودها أمسوا رؤساء جامعات، وعمداء كليات، ووكلاء وزراء، ومستشارين، وسفراء.. فتأمل شساعة المسافة ما بين صعودهم إلى القمر وفتحنا الضريح الموهوم، رمز عقلنا المأزوم.