من الشورى إلى المستبد العادل... تأويل النص الديني لإجهاض حلم الدولة العربية الحديثة
تأسست التجربة السياسية الإسلامية في فضاء شرقي ؛ يقوم على الفردانية و الاستبداد ؛ كأدوات في الحكم ؛ و من هنا ارتبطت جميع الأدبيات السياسية الإسلامية بفضائها زمانيا و مكانيا ؛ و نسجت على منواله دون أن تخترق النموذج السائد .
و لعل محاولة بسيطة للنفاذ إلى جوهر هذه التجربة ؛ لتبين عن الكثير من بذور الاستبداد السياسي ؛ الذي أسس له النص الديني كتابا و سنة ؛ و كرسه الفقهاء إجماعا و قياسا .
إن الحكم في الإسلام – كما أكد فقهاؤه - لا يستقيم بالشركاء ؛ و أنه لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا ؛ و التاريخ الإسلامي من ألفه إلى يائه هو تاريخ استبداد خلفائه و ملوكه و سلاطينه – يؤكد الأستاذ عز الدين العلام-
إن النظام السياسي الإسلامي من هذا المنظور هو كغيره من الأنظمة السياسية الأخرى التي تنتمي إلى مرحلة تكونه؛ يرتبط بالفكر السياسي السائد في المرحلة ؛ و يضيف إلى ذلك أنه يؤول النص الديني ؛ و يحوله إلى أداة في الصراع السياسي . و بناء على هذا فإن ما نسميه بالدولة الإسلامية هو مزيج يجمع بين ثلاثة عناصر أساسية هي :
1- العنصر القبلي ؛ و قد كان متجسدا في التنظيمات القبلية التي كانت موجودة قبل الدعوة الإسلامية ؛ و استمرت بعدها .
2- العنصر الفارسي الساساني : و يتمثل في كافة الأنظمة الإدارية و السياسية التي ورثها العرب ؛ و بواسطتها بنوا أجهزة دولتهم الوليدة .
3- العنصر الإسلامي : و تمثل في كافة المنظومات الأخلاقية و الثقافية المولودة مع مجيء الدين الجديد .
و إذا توقفنا عند هذه العناصر المختلفة ؛ و التي اندمجت ضمن نسق سياسي ؛ يغري ظاهريا بالأصالة و الفرادة ؛ لكنه يخفي جوهريا ارتباطه بالفكر السياسي المؤسس للمرحلة ؛ و الذي يتداخل فيه النظام القبلي العربي ؛ بالنظام السياسي و الإداري الفارسي ؛ بالإضافة إلى الأدبيات السياسية الإسلامية التي لم تؤسس لشيء جديد مخالف للمكونين السابقين ؛ بل على العكس من ذلك نسجت على منوالهما ؛ و عملت على تكريسهما ؛ عبر إضفاء المشروعية الدينية عليهما .
و سواء تعلق الأمر بالنظام القبلي القائم على زعيم القبيلة ؛ بما يجسده من عصبية قبلية ؛ تمكنه من السيطرة على الرأسمال المادي و الرمزي معا و توريثه لخلفه ؛ أو سواء تعلق الأمر بالنظام السياسي الفارسي ؛ الذي يجسد دولة الاستبداد الشرقي ؛ المتمركزة حول الزعيم ذو البعد الإمبراطوري ؛ أو سواء تعلق الأمر بالأدبيات الأخلاقية و الثقافية الإسلامية ؛ التي تقوم على الأحادية و تحرم كل تعددية ؛ بل تعتبرها خرقا للنظام السائد و تأسيسا للخلافات و الفوضى .
في كل هذه المرجعيات التي نهلت منها –ما يسمى بالدولة الإسلامية- نجد تكريسا واضحا لثقافة الاستبداد ؛ بمفهومها الشرقي القديم ؛ الشيء الذي يجعل (الدولة الإسلامية) تجربة سياسية شرقية ؛ تنظر للاستبداد و تمارسه باعتباره نظاما سياسيا ؛ لكن هذه التجربة تختلف في كونها أسست لمشروعية الاستبداد من منظور ديني .
فلذلك لا نتفاجأ إذا وجدنا جميع التنظيرات السياسية الإسلامية –في أرقى تجسيداتها- لا تخرج عن صياغة مفهوم الاستبداد ؛ و إن حاولت أن تضفي عليه نوعا من المشروعية ؛ حينما ربطته بالعدل ؛ و نحن نتساءل : هل يمكن للاستبداد و العدل أن يجتمعا معا تحت سقف واحد ؟؟؟
إن مفهوم المستبد العادل الذي تربطه هذه الأدبيات بالخليفة عمر بن الخطاب ؛ ظهر في فترة كانت تسعى خلالها الجماعة الإسلامية إلى الحفاظ على تماسكها ؛ حتى لا تتشتت بعد موت الرسول ؛ خصوصا و قد تولدت صراعات خطيرة حول من يمتلك مشروعية خلافة الرسول ؛ لذلك تقلد عمر بن الخطاب الخلافة بعد موت أبي بكر الصديق باعتباره عمر الذي كان يصيح في قريش بعد إسلامه :" من أراد أن تفقده أمه فليتبعني خلف هذا الجبل " و لذلك فقد كان يمتلك رأسمالا رمزيا باعتباره الزعيم القوي و الشجاع الذي تحدى قريش و الذي نصر الرسول و الذي انتفض في صلح الحديبية عندما حذفت صفة رسول الله من الاتفاقية ؛ و أبقي فقط على الاسم (محمد بن عبد الله) .
كل هذا الإرث الرمزي هو الذي مكن عمر بن الخطاب من التأسيس لمفهوم المستبد العادل في الثقافة الإسلامية ؛ بل و ممارسته طيلة سنوات حكمه ؛ باعتباره الزعيم السياسي (الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم) أي –بلغة سياسية حديثة- إن أوامره لا تناقش و لا يتداول بشأنها ؛ بل يجب أن تطبق بحرفية تامة .
و في علاقة مباشرة بمفهوم المستبد العادل ذو الأصول السياسية الشرقية القائمة على الاستبداد ؛ راج في الأدبيات السياسية الإسلامية مفهوم الشورى ؛ الذي ارتبط في البدايات الأولى للدعوة بمشاورة الرسول لصحابته في شؤون الدين الجديد (و أمرهم شورى بينهم) ؛ لكن هذا المفهوم سيرتبط بتأسيس نظام الخلافة في الإسلام ؛ و الخليفة كما أسلفنا من قبل هو المستبد العادل ؛ الذي يعرف كل شيء في أمور الدنيا و الدين ؛ فهو يؤم الناس في الصلاة (الإمام : المعرفة العميقة بالدين ) ؛ و في نفس الآن يؤمهم في شؤون الدولة (الإمام :الذي يحتكر شؤون الدولة لنفسه ) .
و كما يختار هذا الإمام الديني فقهاء يستشيرهم في شؤون الدين ؛ فهو يختار كذلك فقهاء آخرين (فقهاء البلاط) يستشيرهم في أمور الدولة ؛ و هو في كلا الحالتين يمتلك حرية اختيار من يشاء ؛ و التخلي عن مشوروة من يشاء ؛ من دون نظام أو قانون يحكمه في اختياراته هذه . و لذلك فالخليفة باعتباره ذلك المستبد العادل لا يختار من رجال الدين (المستشارين) إلا من يزكي قراراته في الدين و الدولة ؛ و هكذا يصبح هؤلاء المستشارون ؛ كما تصبح الشورى ؛ ليست البتة (أمرهم شورى بينهم) و لكن على العكس من ذلك تصبح أداة لتكريس الاستبداد ؛ عبر تزكية سلطة الخليفة /المستبد العادل .
بعد هذا العرض الموجز يمكن أن نتساءل :
هل يمكن بناء دولة عربية حديثة تقوم على الدستور و المؤسسات و المواطنة في ظل هذا المتخيل السياسي الذي يقوم على الاستبداد المدعم بالنص الديني ؟
هل بناء الديمقراطية في الثقافة العربية يقتصر على استعارة المؤسسات السياسية الغربية من أحزاب و حكومة و برلمان ؛ أم إن الأمر يتجاوز ذلك بكثير؛ بحيث يجب أن يرتبط بتفكيك البنية الفكرية التقليدية القائمة على الأحادية و تقديس (ولاة الأمور) و محاربة التعددية و الاختلاف ؟
هل يمكن أن ننجح في بناء دولة مدنية حديثة في ظل عودة المكبوت الديني في أبشع صوره ؛ مرتبطا بعصور الانحطاط و الاستبداد ؟
هل يمكن للمحاولات التي تقوم بها أمريكا و أوربا أن تنجح في نشرالديمقراطية في العالم العربي ؛ مع تكريس الثقافة الرسمية السائدة ؛ لمتخيل الاستبداد الشرقي/ الإسلامي ؟
هل تقبل الأنظمة العربية القيام بثورة ثقافية حقيقية ؛ تدعم من خلالها قراءة التراث السياسي الإسلامي قراءة نقدية ؛ مع علمها المسبق بأن نتيجتها ستهدد مصالها ؟
ما هي وظيفة المثقف العربي التنويري في ظل هذه الآفاق الثقافية و السياسية الحالكة في ثقافتنا العربية ؟ هل يقبل بوظيفة فقهاء البلاط ؛ عبر تدعيم ثقافة الاستبداد ؟ أم يجب عليه أن يحمل المشعل ؛ من منظور نقدي يقوم بتفكيك المنظومة الثقافية التقليدية ؛ و في نفس الآن الدفاع بشراسة عن قيم الحداثة ؛ من ديمقراطية سياسية ؛ و ليبرالية فكرية ؛ و علمانية دينية ؛ و اقتصاد السوق المنفتح ؟
هوامش:
1 – عز الدين العلام تحرير الكلام في تجربة الإسلام – منشورات دفاتر سياسية – ط :1 – 2008 – ص: 42
2- نفسه – ص: 56