بعد فوز أوباما رئيساً للولايات المتحدة (الرقم 44)، كيف سيتصرف بشأن الملف العراقي، لاسيما استمرار الماراثون بشأن الاتفاقية العراقية الأمريكية؟ ورغم التحذيرات الأمريكية والتعديلات العراقية على نص الاتفاقية الأمنية المرتقبة بين بغداد وواشنطن، فالساعات تمضي سريعة مثقلة باتجاه لحظة الحسم الأخيرة.
فالولايات المتحدة من جهتها حسب وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري هددت بوقف المساعدات والتسهيلات الأمريكية للحكومة العراقية بما فيها الحمائية والعسكرية والسياسية، إذا لم توقع الحكومة العراقية على الاتفاقية قبل 31 كانون الأول (ديسمبر) ،2008 وستضطر إلى سحب جنودها من العراق، إذ لا يمكنها إبقاؤهم من دون غطاء قانوني، إلاّ إذا تم تمديد القرار 1546 الصادر في 8 حزيران (يونيو) العام ،2004 والقرارات الأخرى ذات الصلة بما فيها القرار 1770 العام (2007)، لفترة قادمة، والاّ فإنها ستعرّض جنودها والمتعاقدين معها إلى إشكالات ومساءلات قانونية، طالما لا يوجد اتفاق ينظم استمرارهم وحركتهم وعلاقتهم بالسلطات المحلية، سواءً كان اتفاقاً دولياً (قرار جديد من مجلس الأمن) وهو أمر مستبعد أو تمديد القرار الحالي لسنة أخرى أو لستة أشهر مثلاً، أو اتفاقية مع الحكومة العراقية، وهو ما ترغب فيه واشنطن، لأنه سيؤهلها لتقنين احتلالها العسكري وتحويله إلى احتلال تعاقدي، وفق معاهدة سياسية وأمنية وعسكرية شاملة.
ولأن ميزان القوى مختلٌ بالأساس، فهناك طرف قوي ومحتل وطرف آخر ضعيف ومحتلة أراضيه، فستكون شروط الاتفاق غير متكافئة، لاسيما وأن المركز الدولي للفريقين المتعاقدين مختلف تماماً، فالولايات المتحدة التي غامرت وقادت غزواً لاحتلال العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل وعلاقة النظام السابق بتنظيم القاعدة والإرهاب الدولي، ومن ثم دعوتها لنموذج ديمقراطي أرادته أن يعمّ المنطقة، تفشل فشلاً ذريعاً رغم نجاحها العسكري الحاسم بالإطاحة بالنظام السابق، لكن مشروعها الامبراطوري في الشرق الاوسط، يتوقف الآن على “البقاء” في العراق.
ولهذا، فهي تفعل كل ما في وسعها لإرغام الحكومة العراقية على التوقيع على الاتفاقية المنشودة، وإلاّ فقد تضطر إلى الرحيل ومعها ستتهاوى خطتها الاستراتيجية، ولعل هذا الخيار ليس هو الاتجاه الراجح، ولذلك فقد تضطر إلى تغيير الطاقم “الحاكم” في العراق، بإحداث تصدعات داخلية، من شأنها الإتيان لاحقاً بفريق يرضخ سلفاً بالتوقيع على الاتفاقية كما تريد وترغب، وما زيارة رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني إلاّ إشارة واضحة إلى إمكانية إيجاد كتل وتجمعات، وقسم منها جاهز بالأساس لتأييد التوقيع على الاتفاقية، تحت عنوان التصدي للخطر الإيراني أو إضعاف جماعة طهران.
وإذا كان مثل هذا الأمر كلام حق في الظاهر، فإن جوهره يراد به باطل، حيث تسعى واشنطن بالأساس لنقل صيغة الاحتلال العسكري التي مضى عليها خمس سنوات وثمانية أشهر، إلى احتلال تعاهدي طويل الأمد وبصيغة قانونية وسياسية، وهو ما تضمنته رسالة الرئيس الأمريكي بوش إلى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي.
أما الحكومة العراقية، فإنها لا تستطيع وليس بإمكانها ضمن مواصفاتها والظروف السياسية التي تعيشها والمصاعب التي تعاني منها رفض الاتفاقية، لأن الأمر لا يتعلق برغبة أو موقف فحسب، بل هو يتعلق بمصيرها ومستقبلها، خصوصاً وهي التي تقرّ أن قوات الأمن والجيش (العراقية) لا تزال غير مؤهلة بالكامل لتسلّم مقاليد الأمور، لاسيما الدفاع عن العملية السياسية ضد التهديدات الخارجية أو التهديدات الداخلية، بما فيها أعمال الإرهاب والعنف، الاّ انها تحاول تحسين بعض شروط وربما هوامش الاتفاقية.
ورغم أن الجدل يطول ويحتدم والمواقف تتقارب وتتباعد، لكن الجوهري في الأمر أن هناك ثلاثة اتجاهات أساسية تحكم الموقف العراقي وهي متعارضة وغير موحدة. الأول وهو الموقف الرافض ويضم الكتلة الصدرية وهيئة علماء المسلمين والمؤتمر التأسيسي وقوى وشخصيات مختلفة ومتنوعة من اليسار والقوميين والإسلاميين وصولاً إلى قوى المقاومة المسلحة.
أما الموقف الثاني فيتمثل بالقوى الممانعة مبدئياً أو تكتيكياً، وهذه تشمل كتلة الائتلاف وجبهة التوافق بالدرجة الأساسية، وهي محكومة بضغوط داخلية وخارجية، ومعها قوى أخرى تتذبذب بين الرفض والممانعة.
أما الموقف الثالث فهو الذي يتمثل بموقف القيادات الكردية أساساً، ومع قوى لا تعبّر صراحة عن تأييدها الواضح، مثلما تفعل الحركة الكردية.
وإذا عدنا لمشروع الاتفاقية التي تنشر لأول مرة، فقد بذل الباحث جهوداً مضنية مع جهات رسمية وغير رسمية للاطلاع على نصها فلم يفلح، حتى حصل على النص الذي عرض للمناقشة المحدودة مؤخراً، وهو يتضمن إضافة إلى مشروع الاتفاقية حول ما سمي “الوجود المؤقت للقوات الأمريكية في العراق”، رسالة من الرئيس بوش إلى رئيس الوزراء المالكي واتفاق الإطار الاستراتيجي لعلاقة صداقة بين العراق والولايات المتحدة.
احتوت الاتفاقية على ديباجة و31 مادة، وأكدت الديباجة أهداف الاتفاقية ولخصتها بتعزيز الأمن المشترك والمساهمة في السلم والاستقرار الدوليين، ومحاربة الإرهاب، والتعاون في مجالات الأمن والدفاع وردع التهديدات الموّجه ضد سيادة وأمن العراق ووحدة أراضيه. وتضمنت عدداً من المبادئ التي أكدت على السيادة والتفاهم والتعاون المشترك وعدم الإضرار بسيادة العراق على أرضه ومياهه وأجوائه، كما أكدت ان البلدين شريكان لهما سيادة ومستقلان ومتكافآن.
وإذا ما أردنا إخضاع هذه المبادئ والأهداف التي احتوتها الاتفاقية للقانون الدولي الاتفاقي والعرفي ولمعاهدة فيينا، فسنلاحظ شكلياً أنها حاولت إيجاد نوع من التوافق معها، لاسيما التأكيد على السيادة والاستقلال والتكافؤ والأهداف التي تنسجم مع ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي المعاصر، لكنها من الناحية العملية أعفت أفراد القوات المسلحة الأمريكية وأفراد العنصر المدني كما أسمته من الخضوع للولاية القضائية العراقية، رغم أنها دعت إلى التزامهم باحترام القوانين والاعراف والتقاليد والمواثيق العراقية، (م-3) ولكن ماذا لو لم يلتزم هؤلاء؟ الأمر الذي سيعفيهم من المساءلة أمام المحاكم العراقية، وهذا اخلال أساسي بصيغة المعاهدات المتكافئة. ولا شك أن عنصر الإكراه واضحاً، لاسيما ابتزازات وتهديدات الادارة الأمريكية فيما إذا لم توقّع الحكومة العراقية على الاتفاقية، فإنها ستسحب دعمها ومساعداتها، خصوصاً لحماية العراق من التهديدات الخارجية والداخلية، الأمر الذي يدخل في أحد عيوب الرضا والإرادة الحرة بالتوقيع على الاتفاقية ويصنّفها في عداد الاتفاقيات المفروضة والإكراهية.
أما بخصوص حق الدفاع عن النفس، الذي أعطته الاتفاقية للقوات الأمريكية فيمكن تبريره بالحرب الوقائية أو الاستباقية، ولعل قصف منطقة البوكمال السورية مؤخراً، لم يكن سوى نموذج، إضافة إلى ما قامت به القوات الأمريكية في اليمن وباكستان وكلها أدرجتها في إطار الحرب الوقائية لمكافحة الإرهاب الدولي، أما بشأن المدنيين فإن ما حصل في العراق وأفغانستان كان اقرب إلى العقوبات الجماعية ضد السكان المدنيين، وهو ما يمكن اعتباره جريمة حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ومثل هذه الاتفاقية تعفي هؤلاء من أية مساءلة، لاسيما إذا دخلت ضمن “حق الدفاع عن النفس”.
أما الكلام الإنشائي حول ان العمليات تنفذ تماشياً مع السيادة أو المصلحة الوطنية فهو كلام غير قانوني وغير ملزم، لأن الحكومة العراقية لا يحق لها تقديم أفراد القوات المسلحة الأمريكية إلى القضاء في حالة مخالفتها.
أجازت الاتفاقية لحكومة العراق (استناداً إلى تقييم الأحوال) الطلب من الولايات المتحدة إبقاء قوات معينة لأغراض التدريب ومساندة قوات الأمن العراقية. وسوف تطبق اتفاقية خاصة يتم التفاوض بشأنها والتوقيع عليها من قبل الطرفين، أو طلب الحكومة العراقية تمديد الفترة المحددة، ومثل هذا الأمر سيكون عامل ابتزاز جديداً تفرض من خلالها واشنطن ما تريد في إطار اتفاقية غير متكافئة.
هل سيفي الرئيس الجديد بما قدّمه في برنامجه الانتخابي أم ستبقى الوعود حبراً على ورق؟