يتعرّض المسيحيون في العراق إلى جريمة جماعية، بدأت بحملة نسف عدد من الكنائس، وتطوّرت إلى اغتيال عدد من رجال الدين، إلى ان وصلت الآن إلى التهجير الجماعي.
ما كان لهذا التطور الخطير ان يحدث لو ان القيادات الاسلامية السياسية والروحية داخل العراق وخارجه تصدّت لجريمة الاعتداء على بيوت الله التي »يذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله..« كما جاء في القرآن الكريم. صحيح انه لم يكن السكوت عن تلك الجريمة تواطؤاً، ولكن الصحيح أيضاً ان ربط الاعتداء على الكنائس بمخطط الاعتداء على المساجد والحسينيات كان خطأً جسيماً. فالمسيحيون العراقيون لم يكونوا طرفاً في الصراع المذهبي الذي اعتقد المحتلّ الأميركي ان تفجيره يعزّز من حاجة العراق إلى وجود القوات الاميركية وتالياً إلى استمرار الاحتلال.
كان يمكن ان يوظف موقف اسلامي سني ـ شيعي موحّد دفاعاً عن حرمة الكنائس المسيحية لاقامة جسر بين الطائفتين، وبالتالي بين الطوائف المتعددة في العراق. ولكن ذلك لم يحدث. الذي حدث هو محاولة تبرير الاعتداء على الكنائس على أنه وجه آخر من أوجه الصراع الداخلي الذي اتخذ طابع الفتنة المذهبية والطائفية. ومن المؤسف انه في الوقت الذي تجري فيه محاولات جادة وبنّاءة للقضاء على تلك الفتنة، ولإعادة العلاقات الاسلامية ـ الاسلامية في العراق إلى ما يجب ان تكون عليه على قاعدة »انما المؤمنون أخوة«، تنهمر معاول الهدم على الوحدة الوطنية العراقية من بوابة تهجير المسيحيين.
لا شك في ان هذه الوحدة لا يمكن ان تقوم وان تستقيم ما لم يطمئن المسيحيون إلى مصيرهم ركناً أساسياً من أركان المجتمع العراقي سياسياً واقتصادياً وثقافياً. غير انه اذا سمح لجريمة التهجير بأن تحقق أهدافها فان ذلك لا يعني فقط خسارة العراق لركن اساسي من أركان بنيانه الوطني، ولكنه يعني فوق ذلك أموراً عديدة اخرى لا تقلّ خطورة وسلبية. ذلك ان نجاح الارهاب، أياً كانت هوية القائمين به، في تهجير المسيحيين من العراق، من شأنه ان يشجع أمثالهم من الارهابيين على القيام بعمليات تهجير مماثلة تستهدف المسيحيين في دول عربية اخرى ـ وربما غير عربية.
من هنا فان الدفاع عن المسيحيين العراقيين كمواطنين لهم ما لغيرهم من الحقوق وعليهم ما على غيرهم من واجبات، هو دفاع عن الوحدة الوطنية في العراق، وعن الوحدة الوطنية في كل دولة عربية اخرى، وخاصة لبنان وسورية ومصر والأردن والسودان، وبالتالي هو دفاع عن الأمن القومي العربي.
كذلك فان الدفاع عن حقوق المسيحيين هو دفاع عن العلاقات الاسلامية ـ المسيحية التي تواجه في الوقت الحاضر الكثير من التحديات الخطيرة في العالم الاسلامي وفي العالم.
وهو في الوقت ذاته دفاع عن حقوق ومصالح وحتى عن الكرامات الشخصية للمسلمين ـ المهاجرين من دول العالم الاسلامي ـ إلى الدول غير الاسلامية (اميركا ـ استراليا ـ كندا ـ أوروبة..الخ) سواء للاستيطان فيها أو للعمل او للدراسة أو حتى للسياحة.
فالجريمة التي تستهدف المسيحيين العراقيين ليست جريمة محلية، لذلك لا يجوز التعامل معها بعلاج موضعي محدود. انها جريمة ذات طبيعة وبائية قابلة للتوسع والانتشار. والمجتمعات العربية لا تتمتع مع الأسف الشديد بقدر كاف من المناعة الثقافية الدينية لمقاومتها.. فاذا ما نجحت في العراق، فانه من العسير صدّها في العديد من الدول الاخرى التي تعاني أساساً من تصدعات طائفية في بنيتها الوطنية. ان ما يتعرّض له المسيحيون العراقيون من معاناة ما كان ليقع لو توفر أحد الأمرين:
الأمر الأول وجود مظلَّة غربية (اميركية ـ أوروبية) لحمايتهم. فلا هم طالبوا بهذه المظلة، ولا هم يريدونها، ولا هي عُرضت عليهم. فجريمة التهجير التي تتوالى فصولاً تجري تحت سمع وبصر قوات الاحتلال الاميركية التي لم تجد اي حافز أو مبرر للتدخل من اجل رفع الظلم عن المسيحيين. ربما لأنهم مسيحيون مشرقيون. وربما لأنهم يرفضون مثل هذا التدخل من حيث المبدأ والأساس. اما الأمر الثاني فهو وجود ثقافة اسلامية سمحة بين عامة الناس تعكس ما هو اكثر من احترام الاسلام لحقوق المسيحيين، تعكس الايمان بالمسيحية رسالة من عند الله، اضافة إلى حقوقهم كمواطنين.
واذا كان الأمر الأول ـ المظلة الغربية ـ مرفوضاً شكلاً وأساساً، فان الأمر الثاني ـ التربية الثقافية الاسلامية ـ هو واجب الوجوب. ولكن لان الواقع ليس كذلك، ارتكبت جريمة الاعتداء على المسيحيين، وارتكبت سلسلة جرائم الاعتداء المتبادلة بين المسلمين أنفسهم سنّة وشيعة، عرباً وأكراداً وتركمان..
يؤكد هذا الواقع المرير معاناة العراق من احتلالين، وليس من احتلال واحد. احتلال خارجي يتمثل بالقوات الاميركية، واحتلال داخلي (داخل القلوب والعقول والنفوس) يتمثل في كراهية الاخر المختلف دينياً ومذهبياً وعنصرياً. والاحتلالان يتكاملان في اداء مهمة واحدة وهي تمزيق العراق.. ونشر عدوى التمزيق إلى المجتمعات العربية الأخرى !!. لذلك لا يمكن مقاومة الاحتلال الخارجي بالاحتماء أو بالاستقواء بالاحتلال الداخلي. ان ما يتعرّض له المسيحيون العراقيون يسدي خدمات كبيرة للاحتلال الاميركي ويصطنع له المبررات الوهمية. اما مقاومته الحقيقية فتبدأ بمقاومة ثقافة رفض الآخر ومحاولة الغائه. واذا كانت مقاومة الاحتلال الاميركي جهاداً، فهي جهاد أصغر، اما مقاومة النفس الأمارة بالسو، فهي الجهاد الأكبر!!.
من الواضح ان الأصولية هي سبب من أسباب الهجرة المسيحية من الشرق. فمع الخلل في اسس المواطنة، تأتي الأصولية بما هي خروج عن اصول الشريعة والفقه الاسلاميين، وبما هي تطرف وغلوّ وتزمّت واحتكار للحق وللحقيقة، لتضيف عاملاً اساسياً إلى العوامل السياسية والاقتصادية المسبّبة للهجرة التي تعاني من آثارها الخطيرة مجتمعاتنا الوطنية.
وهذه الهجرة هي في حد ذاتها سبب من أسباب الاسلاموفوبيا في الغرب. فهي تحمل رسالة إلى الغرب بأنه لا يمكن التعايش مع الاسلام. وان الاسلام يرفض الآخر. ولذلك فان رد الفعل الغربي يتجلبب بالمنطق الذي يقول: اذا كان الاسلام يرفض الآخر، فكيف يقبل بنا؟ ولماذا نقبل به؟. من الواضح ان الهجرة المسيحية من الشرق لا يقتصر ضررها على تفكيك نسيج المجتمعات الوطنية وعلى هدر كفاءات ثقافية وعلمية واقتصادية كبيرة، ولكنها تؤذي الحضور الاسلامي في الغرب وتنعكس سلباً على العلاقات الاسلامية ـ المسيحية في المجتمعات الغربية: أوروبة ـ اميركا الشمالية ـ استراليا تحديداً، وهو الأمر الذي يعزز مشاعر رفض الاسلام والتمييز ضد المسلمين.
ان الاسلاموفوبيا بمعنى كراهية الاسلام، عن جهل به، تطلق ردات فعل في الدول الاسلامية يكون المسيحيون المشرقيون ضحاياها. وذلك لخطأ عدم التمييز بين الغرب والمسيحية. ونتيجة لذلك تؤدي ردات الفعل هذه إلى مزيد من الأصولية، ليس في الشرق فقط انما في الغرب ايضاً. ومن شأن ذلك توجيه ضربات اضافية إلى العلاقات الاسلامية ـ المسيحية في الشرق وفي الغرب على حد سواء. من هنا لا يمكن أو لعله لم يعد ممكناً معالجة اي ظاهرة من هذه الظواهر الثلاث بالمفرّق، ان كلاّ منها مسبب للآخر ومكمّل له. إن وقف نزف الهجرة المسيحية ـ وهو هدف اسلامي مسيحي مشترك ـ لا يتحقق من دون ان تتراجع الأصولية المتطرفة ـ علماً بأن الأصولية ليست السبب الوحيد للهجرة ـ والتراجع هنا مرتبط بتراجع الاسلاموفوبيا ـ علماً أيضاً بأن الهجرة المسيحية ليست السبب المباشر ولا الوحيد للاسلاموفوبيا ـ. هذا الترابط على وهنه، يُلقي على المسيحيين وعلى المسلمين العرب والشرقيين مسؤولية استثنائية لتعزيز العلاقات الاسلامية ـ المسيحية. فالمسيحيون مؤهلون لأن ينقلوا إلى العالم صورة بناءة عن تعايشهم مع المسلمين، ولكن حتى يتمكّنوا من القيام بذلك لا بد ان تكون اوضاعهم في مجتمعاتهم الوطنية أوضاعاً سليمة وبناءة. وهي لا تكون كذلك من دون ان ينعموا بحقوق المواطنة كاملة. والمسلمون مؤهلون لمساعدة مواطنيهم المسيحيين من اداء هذا الدور ولكنهم لا يستطيعون ان يفعلوا ذلك اذا لم تكن اوضاعهم في مجتمعاتهم الوطنية اوضاعاً سليمة وبناءة ايضاً. وهي لا تكون كذلك من دون كبح جماح التطرف والغلو واستئصال ثقافة رفض الآخر وتعزيز ثقافة احترام الحريات الخاصة والعامة بما يحقق المواطنة الكاملة في الحقوق والواجبات. ان مجتمعاتنا العربية تشكو من قلة في الديمقراطية ومن تخمة في التطرف والغلو وما تعجز اللاديمقراطية عن معالجته في مجتمعات التنوع الديني والمذهبي والعنصري يساهم التعصب في اذكاء ناره. ان حقوق المواطنة ـ بما فيها من حريات دينية تتعرض للانتهاك بغياب الديمقراطية، ولكنها بحضور التطرف والتعصب والغلو يذهب الانتهاك إلى حد الإلغاء . وهذا ما يحدث في العراق. وهو ما يدفع المسيحيون العراقيون ثمنه الباهظ.