العرب اونلاين - نجارى جيلالي: أمضى العرب والمسلمون زمنا طويلا وهم يتأرجحون ويتنازعون فيما بينهم حول مسائل الدين والدنيا، إلى أن بلغ بهم الصراع حدّ التراشق حينا والمواجهة العنيفة أحيانا أخرى.
ولم يعد الصراع بين السلفية والعلمانية مضمرا أو مقتصرا على الجدل فحسب، بل بلغت الخصومة بين الطرفين أشدها، فاتهّم العلمانيون السلفيين بالجمود والنكوص والرجعية، واتّهم السلفيون العلمانيين بالتغريب والانسلاخ عن الأمة والارتباط بالغرب حدّ العمالة.
وبين هذا وذاك، بقيت أحوال الأمة الإسلامية تراوح مكانها وساد خطاب العنف وانحسرت مساحات العقل والتنوير التى بها خرجت أمم الغرب إلى سماوات الإبداع والحرية والعدل.
فى هذا الحوار الذى أجريناه مع الدكتور حسن حنفى إجابات عن العديد من الأسئلة التى تتعلق بجوهر الدين الإسلامى وسماحته واستقراء لكثير من الظواهر التى ساءته وجعلت أمة الإسلام تتقهقر وتوصم بالإرهاب.
ظهرت فى فكرنا العربى المعاصر عدة ثنائيات مثل السلفية والعلمانية، الدين والدولة، الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، الإيمان والإلحاد، الدين والعقل، الله والطبيعة، النفس والبدن، الدنيا والآخرة، الرجل والمرأة. ألا يعدُّ هذا الأسلوب انغلاقا فى الفكر أدّى إلى نشوب معارك زائفة بين المسلمين؟
- لا، كل الثقافات فيها هذه الثنائيات. ففى الثقافة اليونانية تجد ثنائية الصورة والمادة، العقل والمعقول، الحركة والسكون، الكم والكيف. وحتى فى الحضارة الغربية الحديثة أو ما يسمى بالعصور الحديثة، ظهرت ثنائيات أخرى مثل الإنسانية والواقعية، الروحية والمادية، الكلاسيكية والرومانسية، الشكل والمضمون... إلخ. فلا غرابة أن تظهر فى ثقافتنا العربية الإسلامية مثل هذه الثنائيات، ولكن القضية أو السؤال الجدير بالطرح هو ما هى العلاقة بين الطرفين؟ لقد كانت العلاقة عند ال
يونانيين علاقة حاو بمحوي، ولكننا نلاحظ أن العلاقة عند الغرب قد أخذت طابع [إما / أو] وهذا منطق يعتمد على المواجهة بين طرفين، وعليه رأينا فى تاريخ الغرب الصراع بين المثالية والواقعية وبين الكلاسيكية والرومانسية.
بعد ذلك رأينا ظهور طرف ثالث تمثّل فى الكلاسيكية الجديدة والرومانسية الجديدة والمثالية الجديدة والواقعية الجديدة والتى جاءت لتفسر بعض معانى وجوانب الطرف الآخر.
نحن عندنا العلاقة بين الطرفين ليست علاقة تشابك ولا علاقة توال وتوسط ولكنها علاقة تعارض وهذا هو الخطر فى هذا المنطق. الناس يتصورون بأن الله والطبيعة متعارضان مع أن الذى يقرأ القرآن الكريم يجد أنه أكبر كتاب قرب الطبيعة وأن النظر فى الطبيعة عند الفلاسفة هو مقدمة للإلهيات.
لو أخذنا النفس والبدن لوجدنا أننا نضعهما فى منطق التعارض من حيث أن البدن له مصير والنفس لها مصير آخر، البدن يفنى والنفس تبقى والأمر ذاته بين ثنائية الله والإنسان.
المطلوب منا ليس إلغاء هذه الثنائيات، إذ أنها تعبر عن وضع الإنسان فى العالم، بين القديم والجديد وبين النزعات المثالية والنزعات الواقعية، ولكن تصحيح العلاقة هل هى علاقة تضاد أو هى علاقة تكامل؟ لأننا لو تصورنا المسائل فى هذا الاتجاه أى فى علاقة تضاد، فسينشأ لا محالة الصراع بين كافة الأطراف، أى بين السلفيين والعلمانيين، بين الأصالة والمعاصرة، بين القديم والجديد، وهذا هو الحال اليوم فى العالم العربي.
أما إذا كانت العلاقة تكاملية وأن كلا الطرفين وجهان لشيء واحد، بهذا الأسلوب فقط بإمكاننا أن نرد للعالم توازنه وللإنسان وحدته لأن البشر فى نهاية المطاف نفس وبدن والحياة دنيا وآخرة. فلا مجال للتصارع ولا للغلبة لطرف على حساب طرف آخر إثارة وأثرة ولكن فى نفس الوقت من خلال التكامل العضوى بين الطرفين. أنا أصيل ومعاصر فى نفس الوقت، فيّ من القدماء والمحدثين.
أنا نفس وبدن فيّ من الله لأننى خُلقْتُ من روحه وفيّ من المادة بطبيعة الحال. المطلوب اليوم هو تصحيح العلاقة وليس إلغاء السؤال.
دعنى أعود بالسؤال من سماء التنظير إلى أرض الأزمة. ما الذى حدث لتنزلق الشريعة الإسلامية، وهى شريعة وضعية قامت أصلا على رعاية المصالح العامة وتأسست فى واقع الناس وحياتهم، إلى انحسارها وبقائها فى مدارات الشكل فقط؟
- الخوف!. فى حقيقة الأمر الشريعة هى من صنع الفقهاء والمشرعين. صحيح أن الكتاب والسنة فيهما المبادئ العامة، لكن مجموع القوانين من وضع الفقهاء.
يجب الإشارة إلى أن الفقهاء قديما كانوا يفرقون بين السياسة الشرعية فى العبادات والمعاملات، ولو أخذت الأحكام السلطانية لوجدت أن الباب الأول فى الوزارة. فالقضية قضية حكم بالدرجة الأولى. وكذلك الأمر مع ابن القيم.
إذن، لقد كان الفقهاء القدماء - نظرا لشجاعتهم- يدخلون على الشريعة من أبواب الحكم، السياسة والاقتصاد والمعاملات والتجارة والإقطاع "القطاع العام وهى المراعى التى كانت تعطى للفقراء" والركاز "أى ما هو فى باطن الأرض من معادن وخيرات".
نحن عرفنا النفط، ولكنه ملك من؟ وهل النفط يُمتلك؟ هذه هبة من عند الله، لا يملكها فرد ولا جماعة ولا قبيلة.
والآن يتعرضون لقانون الأحوال الشخصية وإلى الحلال والحرام وإطالة الذقون واللحى واللبس الأبيض والجلباب والقبعة والخف ولا يتعرضون لما يسمى بالحلول، أى قانون العقوبات كالقطع والرجم والسجن والتعذيب. عندما خاف الفقيه وسيطرت الدولة على أسباب الحياة انكمش الفقه ودخل فى الشكليات وغالى فيها وترك مصالح المسلمين.
معلوم فى التاريخ أن الفقهاء نوعان: نوع أخذ الحلّة والجبّة والركب والمنزلة لأنه فقيه السلطان ونوع ثان دخل السجن ومورست عليه أنواع التعذيب لأنه أفتى بما لا يهوى السلطان. وهكذا نجد فى تاريخنا من الفقهاء الذين سُجنوا ومنهم ابن حزم وابن تيمية والعز بن عبد السلام.
نحن اليوم نعيش مرحلة خوف من السلطان، لأنه يستغل الموارد الطبيعية والثروات ويوظفها لصالحه وصالح طبقته ولم يتجرأ أحد من الفقهاء على أن ينبهه إلى أن المال مال الله وأن الإنسان مستخلف فيما أتاه الله، له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار ولكن ليس له حق الاحتكار ولا الاستغلال ولا الاكتناز.
أين هذا الفقيه الذى يمكن أن يقول ذلك لدول النفط. أين الفقيه الذى يقول لهم يا قوم تضعون أموالكم فى البنوك الأمريكية والأوروبية بالمليارات وأهالى الصومال والتشاد ومالى وبنغلاديش يموتون جوعا وفقرا وقهرا؟ هذه أموال المسلمين وليست أموالكم. وكل ما فاض عن حاجة الإنسان هو ملك للأمة.
ليس فقط أموال الزكاة، "والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم. قلنا يا رسول الله: أفى المال حق غير الزكاة؟ قال نعم". من هنا نستنتج أن كل ما زاد عن حاجة الإنسان هو حق للمحتاجين، حيث يمكن استثماره فى التنمية وبناء المصانع والقضاء على البطالة. بطبيعة الحال، نحن نحتاج إلى فقيه الأمة وفقيه الشعب وليس إلى فقيه السلطان.
حال المسلمين اليوم، دكتور حسن حنفي، يدعو إلى الرثاء، خصوصا فيما يتعلق بمسائل الدين ودعوات الانغماس فيه. إلى أى مدى يمكن أن تشكل العودة إلى الدين خطورة على الوعى والثقافة؟
- يتوقف الأمر على فهمنا للدين. ماذا يعنى الدين؟ لو كان الدين كما تصوره اليوم بعض الحركات الإسلامية المحافظة "التنفير – منع حرية الفكر – رفض التعددية – امتلاك الحق ورفض الرأى الآخر"، لو كان فهم الدين على هذه الشاكلة فإن النتيجة بطبيعة الحال ستفضى إلى ما هو عليه الحال اليوم من اضطهاد للعلماء والمفكرين والأدباء مثلما حدث مع نصر حامد أبوزيد أو نجيب محفوظ وغيرهما كثير.
أما إذا كان فهمنا للدين هو أنه مع حرية الفكر "سيد قطب، وهو أديب وشاعر، له مقال رائع عنوانه: الإسلام حركة إبداعية فى الفن والحياة" فإن الإسلام سيكون بألف خير.
وهناك كم هائل من التصريحات الواضحة فى الإسلام التى تؤكد حرية الفكر "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" وقوله تعالى "أفلا تفكرون – أفلا تنظرون – أفلا تعقلون" وبالتالى دعوة القرآن إلى حرية الفكر وإعمال النظر، بل إن الشكّ عند الجبّائي، وهو من علماء المعتزلة، أمر ضرورى حيث يقول بأن النظر ليس هو أول الواجبات وإنما الشكّ هو أولها.
مثال سيدنا إبراهيم – عليه السلام - شاهد كبير على هذا الأسلوب "بلى، ولكن ليطمئن قلبي". للأسف الشديد لقد أخذنا اليوم الإسلام بهذه الروح المتعصبة وأبعدنا الجانب العقلى فيه وبالتالى لم يبق لنا إلا الانفعال والتعصب.
وفى نفس سياق حديثنا، أذكر أن أحد كبار الفلاسفة الألمان فى القرن الثامن عشر وأظنه ليسنج قال: "لو أعطونى الحقيقة فى يمينى والبحث عن الحقيقة فى يسارى لاخترت يساري". إن عظمة الإنسان تكمن فى البحث وفى الكشف وفى الوصول من المقدمات إلى النتائج ولذلك ترك لنا الوحيُ القرآن والإسلام فى خطوطه العريضة، وترك مكانا للاجتهاد والاستنباط والمشاهدة والبراهين.
بل إن الأشاعرة يقولون بأنه حتى وإن تظافرت كل الحجج النقلية لإثبات أمر بأنه صحيح ما أثبتته، إذ لن يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية. إن حجة عقلية واحدة تساوى آلاف النصوص لأن النص متشابك ويحتاج إلى منطق لغوي، فيه التقديم والتأخير وخاص وعام وأمر ونهي.
وبهذا الشكل يكون النص بحاجة إلى عمل كبير ليتضح ويُضبط ويتحول من متشابك إلى مختص، أما العقل فبديهى رياضى منطقى يستطيع أن يوصلك إلى اليقين. فى المنطق الإسلامي، ونحن نردُّ على اليونان، اعتمدنا على قاعدة ملخصها "ما لا دليل عليه يجب نفيه".
إن فهمنا للدين على منوال الجماعات الحالية، يعرّض الإسلام والمسلمين إلى خطر كبير، يمسّ أساسا حرية الفكر والأمن الاجتماعى وسلامة الدولة. ولكن لو فهمناه كما فهمه المعتزلة والفلاسفة والفقهاء الأوائل من أهل الاستنارة لكان الدين الإسلامى أحد عناصر التقدم. إن ميزة الدين وقوره فى قلوب الناس وهو ليس محتاجا إلى دعوة لا بالاشتراكية ولا بالرأسمالية ولا بالليبرالية أو القومية.
المسلمون فى عمومهم لهم تاريخ طويل من ثقافتهم العريقة. الشيء الذى ينقص فعلا هو تحريض عملية التأويل والتخمين والربط بين ما يعتقدونه وبين مصالحهم. أما الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، فلا تفهمها إلا النخب.
لابد أن قراءتها تمت من خلال كتب صعبة جدا وليس لها إلا تاريخ حديث حيث أنها وليدة القرن الماضي. من هنا يمكن القول بأن الإسلام كتراث شعبى بحاجة إلى من يعيد فهمه حتى يصبح مرتبطا بحياة الناس.
لكن واقع المسلمين اليوم معاكس تماما، إذ أن بعض المفكرين يرون أن الإسلام فى الوقت الراهن لا يستطيع الانسجام مع مفهومى الحرية والديمقراطية بسبب تنامى تيارات إسلامية ذات نزعة أصولية راديكالية ترفض التعامل مع الآخر. كيف تنظرون إلى هذه الإشكالية؟
- عندما نتكلم عن الإسلام، يجب أن نفرق بين مستويين: الإسلام من حيث هو كما نعرفه ونقرأه ونعرضه للناس فى الكتاب والسنة والإسلام باعتباره متغيرا سياسيا أو ما يسمى بالإسلام السياسي، فهو ظاهرة اجتماعية وسياسية نشأت فى الأربعة عقود الأخيرة لظروف معينة. لقد كانت الحركة الإسلامية متصدية للاستعمار فى القرن التاسع عشر ومنها خرجت كل حركات التحرر الوطنى خاصة فى المغرب العربي.
أذكر أنى كنت فى باريس أثناء حرب التحرير الجزائرية، وكنت ألتقى ببعض الجزائريين الذين كانوا يحملون فى جيبهم الأيمن القرآن الكريم وفى جيبهم الأيسر صورة جمال عبد الناصر. وبهذا الشكل كان الوطن والدين شيئا واحدا ومتماهيين.
ولما نجحنا فى حركات الاستقلال جاءت الدولة الوطنية حصيلة الاستقلال فسيطر عليها العلمانيون وأبعدوا عنها الإسلاميين وهذا ما حدث فى حالة مصر، حيث زج جمال عبد الناصر فى سنة 1954 بالإخوان المسلمين فى السجون وشنق السيد قطب 1965 وحل الجماعة.
وعندما جاءت الجمهورية الثانية وأرادت التخلص من الناصريين أخرجت الإسلاميين من السجن سنة 1971. وبعد ارتماء السادات فى أحضان أمريكا والصلح مع إسرائيل بإمضاء اتفاقية كامب دافيد ومعاهدة السلام انقلبت الحركة الإسلامية عليه وصفّته جسديا وبدأت تستأسد فى الحياة السياسية.
إذن، الإسلام السياسى هو ظاهرة نفسية واجتماعية وسياسية غير شرعية. إنها خريجة سجون تريد أن تظهر نفسها على الساحة وتعرضها على الناس، فتراها تلقى قنبلة هنا وأخرى هناك لتظهر على صفحات المجلات والصحف. فى هذه النقطة يلتقى الإعلامى والإرهابى فى نفس الخط، على اعتبار أن الإعلامى يكون رفيقا للإرهابى حيث يروج للعنف الإرهابى ويقدمه للناس.
على أية حال، يجب ألا نخلط بين الإسلام من حيث أصوله وبين الإسلام السياسي.
هناك مثال عن الإسلام السياسى مثله الأفغانى الذى وقف فى وجه الاستعمار الخارجى وقاومه ووقف فى وجه القهر الداخلى وقاومه أيضا.
أما الآن، فالإسلام يواجه الدولة القاهرة، دولة القمع والفساد والتابعة للولايات المتحدة الأمريكية، تلك التى صالحت الأعداء، ويقدم نفسه على أنه الحل لكل المعضلات والمشاكل مثلما يتضح ذلك من خلال الشعارات التى يرفعها "الإسلام هو الحل" أو" الإسلام هو البديل".
ومن خلال هذه الحالة السيئة للغاية، نقول بأن الإسلام السياسى لا يمثل الإسلام الأصيل، ومن هنا أقول لابد من تغيير ظاهرة الإسلام السياسى عن طريق إعطاء الشرعية للحركات الإسلامية حتى تمارس نشاطها فى الحياة طبيعيا وتكون لها كلمتها اليومية وجريدتها وحزبها الرسمى لتدخل فى حوار مع باقى التيارات الأخرى لتشكيل ائتلاف وبرنامج وجبهة وطنية لأنه اتضح اليوم وبشكل جلى فى كل الوطن العربى عدم قدرة أى تيار لوحده أن يأخذ الأغلبية.
لابدّ من حكومة ائتلافية وجبهة وطنية تضم الإسلاميين والليبراليين والمستقلين.
يجب أن ننسى العداء بين الإسلاميين والناصريين وننسى العداء بين الإسلاميين والليبراليين أثناء اغتيال حسن البنا ونأخذ مصطلحات الوطن بعين الاعتبار ونسمح بالتعبير للجميع وحتما سنتوصل إلى اتفاق واجماع على مقاومة الاستعمار فى فلسطين وعلى الاتفاق على مبدأ حرية المواطن ووحدة الأمة. فى رأيى هناك إمكانية ومساحة للاتفاق بين هذه التيارات.
عفوا دكتور، ولكنى أود أن أعود إلى شق السؤال الخاص بالحرية والديمقراطية. هناك فى الحركات الإسلامية فى الوطن العربى من يرفع شعارات تقول بأنه لا ديمقراطية فى الإسلام وهذا يسيء إلى صورة المسلمين فى العالم أجمع؟
- هذه شعارات ترفعها التيارات المغالية لكن يجب التركيز على ما كتب عن الشورى والديمقراطية. تعرف الديمقراطية بأنها حرية الاختيار وفى تعريف الفقهاء نجد أن الإمامة "أى السلطة" هى عقد وبيعة واختيار.
أى أنها عقد اجتماعى بين الحاكم والمحكوم وبيعة أى أنها اختبار حر من المحكوم للحاكم واختيار أى الانتقاء بين مجموعة من الحكام المقترحين. الخلاف يكمن فى مسألة الديمقراطية وهل هى رئاسية أم برلمانية أم هى مرحلية؟.
ونفس الشيء بالنسبة إلى أهل الحل والعقد إذ هم تطور فقهى قديم تجلى مثلا فى بيعة الرضوان أو البيعة الكبرى حيث اختار الحاضرون من يمثلهم. إذن الحرية فى الإسلام هى حرية اختيار والشورى أو الديمقراطية هما النظام السياسى الإنساني.
أما الذين يقولون لا حرية ولا ديمقراطية ولا اشتراكية ولا علمانية ولا قومية ولا ليبرالية فهؤلاء هم الذين ما يزالون يشعرون بآلام التعذيب فى السجون لأن الذين عذّبوهم هم الناصريون والليبراليون والماركسيون. شعارات الحركة الإسلامية الداعية إلى الحاكمية لله كلها شعارات سلبية، أى أنها ترفض حاكمية البشر والإيديولوجيات العلمانية.
فمن يحكم إذن؟
- لا يوجد حل إيجابى لدى الحركة الإسلامية لأنها ما تزال فى حالة الرفض النفسي. لابد من إعطائها بعض الوقت لتتمكن من الدخول فى العمل الشرعي. الحركات الإسلامية غير شرعية لحد الآن، للأسف ما زالوا تحت أثر التعذيب والرفض والتهميش.
يجب تحويلهم إلى مواطنين صالحين أولا ثم نصبر عليهم بعض الشيء حتى يتغيروا نفسيا ولسوف يقبلون بالحوار مع الآخرين. أنا درستُ برامج الإخوان الأخيرة فى مصر والأردن واليمن فوجدت أنها انطوت على تحولات عميقة على مستوى الخطاب. هذه البرامج تقول بالحرية وفيها الاعتراف بالمواطنة وليس بالذمة واعتراف بالديمقراطية وليس بالحاكمية واعتراف بالمجتمع المدنى وأهميته. النقطتان الوحيدتان اللتان لم يتزحزحوا عنهما هما قضية عدم جواز إمامة المرأة ومسألة تطبيق الشريعة الإسلامية.
المهم هو أنهم فى هذه البرامج الجديدة خطوا خطوات باتجاه المجتمع.
أعود لأقول وأؤكد أن التفاعل مع الواقع مسألة جوهرية وهذا ما دفع بى إلى تأسيس اليسار الإسلامى وأن مكانى فى الإخوان يدفعنى إلى تأسيس جناح تقدمى مستنير ومكانى الآخر فى العلمانيين يدفعنى لتأسيس تيار ثقافى وطنى يشارك فى الأحداث العامة.
نحن نظلم الناس أحيانا عندما لا ندرك أنهم ضحايا وأن الظروف السياسية والاجتماعية هى التى أنتجتهم. أنا أعرفهم لأنهم طلابى فى الجامعة وجيرانى فى السكنى وأستمع إليهم.
هم ضحايا وليسوا جناة هم أبرياء وليسوا مجرمين. إنما فقط الظروف الاجتماعية والسياسية هى التى دفعتهم إلى مثل هذا التصرف.
فى سياق حديثكم أشرتم إلى تيار اليسار الإسلامي. من وجهة نظركم، لماذا لم يجد مشروع اليسار الإسلامى الصدى الإيجابى فى العالم الإسلامي؟
- لا، على العكس تماما، فأنا أرى أن تيار اليسار الإسلامى ما يزال موجودا فى ماليزيا واندونيسيا وفى السودان. أنا لا أستطيع أن أقول إن التيار غير موجود على الإطلاق. هو موجود ويحمل تسميات متنوعة، إذ يسميه البعض إسلاما مستنيرا والبعض الآخر الإسلام العقلانى وهناك مثلا فى إندونيسيا تيار كبير واسمه الإسلام الليبرالي.
وكل هذه التسميات هى مرادفات لتيار اليسار الإسلامي. أما لماذا لم يجد له هذا التيار قاعدة عريضة، فلأن العالم الإسلامى يعيش حالة استقطاب شديدة. إما أن تكون سلفيا محافظا وأحاديا أصوليا وإما أن تكون علمانيا تقدميا عقلانيا ليبراليا ماركسيا قوميا.
إن المساحة بين التيارين تكاد تكون منعدمة خاصة فى ظل ضعف الدولة وتبعيتها مما أدى إلى اشتداد الاستقطاب بين التيارين وكل منهما يظن نفسه أنه وريث الدولة المتهالكة. لذلك لا توجد مساحة للحوار بين الطرفين. لكن مهما يكن فإن تواجد اليسار الإسلامى ما يزال قائما فى العديد من مناطق العالم، مثل تركيا.
صحيح هو لا يملك قاعدة شعبية عريضة تدافع عنه وهذا راجع لعدم امتلاكه لمنبر خاص به.
نحن مضطرون فى حالات إلى استعمال منبر الإسلاميين، وهم يريدون أن تكون معهم كليا، أو استعمال منبر العلمانيين، يريدون أن تكون معهم كليا،. للأسف لا نملك منبرا مستقلا. أنا حاولت تأسيس مجلة وتكفلت بكتابتها وطبعها وتوزيعها وهذا أمر صعب جدا كما ترى.
باعتباركم أحد دعاة الإصلاح الدينى فى الوطن العربي. ما هى الجوانب التى يجب أن يطالها الإصلاح من وجهة نظركم؟
- هناك جوانب عملية ونظرية فى آن واحد. فى صدارة الجوانب النظرية إعمال العقل على اعتبار أن العقل هو أساس النقل. والاعتراف بالاجتهاد وأنه لا أحد يمتلك الحقيقة مطلقا.
حتى القرآن والسنة فى حاجة إلى هذا الإعمال من حيث أحكام المتشابه وبيان المُجمل وإلى آخر ما قال به علماء الإسلام والفقهاء. هناك أيضا الاعتراف بالرأى الآخر وحق الاختلاف والاعتراف بالتعددية الفكرية والسياسية.
أنظر إلى ما يقوله القرآن فى هذا المجال، إذ أنه بصريح العبارة يشير إلى عدم امتلاك طرف لوحده للحقيقة.
يقول تعالى "وإنا أوإياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين". لم يحكم القرآن الكريم بأننى على هدى وأنك على ظلال، قد تكون أنت المحق وقد أكون أنا المحق. إن الله قد ترك الآية مفتوحة حتى يتسنى الحوار بين البشر.
المسألة الثانية تتعلق بالمصالح: كل الفضائيات المخصصة للدين تتكلم عبر لسان المشايخ عن الرقية وإطلاق اللحى ومسائل الحيض والنفاس ولا يتكلمون فى مصالح الأمة.
يتكلمون إما فى الغيبيات وإما فى العقائد وإما فى العبادات وهذه الكل يعرفها ولا أحد يجهلها.
من منا يجهل الملائكة والجنة والنار والصراط. خطب الجمعة جعلت من هذه الأمور مسلمات. أن نترك المسائل الرئيسة كالفساد والقهر وضياع مصالح الناس فهذا حياد عن المهمة الأساسية للدين.
أنظر معى للكوارث والمصائب التى تلمُّ يوميا بالمسلمين ولا أحد يشير إليها.
أنظر إلى كيفية تسيير المال العام "بيت المال" الذى وظيفته أساسا هى رعاية مصالح الناس من تعليم وعناية طبية وإسكان وتوفير فرص العمل. إذا قربنا بين الشريعة والمصالح استقامت أسباب الحياة وإذا فرطنا اختل النظام.
أنظر إلى قولة أبى ذر الغفارى "عجبت لمن لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرا سيفه". أعتقد أنه بهذه الطريقة وبهذا الخطاب السياسى الجديد يمكن للجماهير الإسلامية أن تحقق هويتها.
العلمانية تريد أن تهمش الإسلام والسلفية تريد أن تهمش المصالح.
أنا أتجه فى عملية الإصلاح إلى هذين الجانبين، النظرى والعملى فى آن معا والحمد لله أن كتاباتى تؤثر اليوم فى لبنان "حزب الله تحديدا" وفى إيران وتركيا وماليزيا وإندونيسيا وأواسط آسيا وفى اليمن وفى الوطن العربى عموما لأنها تجمع بين المطلبين: أنا لى رئتان وعينان وقدمان ولا أستطيع أن أستغنى عن أحدهما.
طال أمد الأزمة العربية لأكثر من 200 سنة والآن تشرئب الآمال والهامات سلفية وعلمانية على حد سواء إلى نهضة عربية جديدة. كيف يمكن الإقلاع إليها؟
- ما حدث منذ مائتى عام لم يكن كله سلبيا وفشلا، حيث حصلنا على مكسبين الأول هو التحرر الوطنى والدولة الوطنية.
صحيح أننا بدأنا نخسر الدولة الوطنية ولكن لا يجب أن ننسى أننا فى ظرف عشرين سنة قضينا على استعمار دام مائتى سنة ومثال الجزائر فى هذا الصدد أنصع مثال.
الحمد لله أصبحنا دولا مستقلة ولكننا فرطنا فى الاستقلال وفى الدولة الوطنية وقمنا بما لم يقم به الاستعمار من قبل من استغلال واحتكار وقهر وهذا عيبنا الشنيع.
صحيح أن قضية فلسطين ما تزال مطروحة منذ 1948 غير أنه وبالمقابل المقاومة تزداد شراسة. فى العراق كذلك المقاومة ترفض الاحتلال وتقاومه بكل ما تملك. خسرنا العراق لأننا خيرنا بين الدكتاتورية والاحتلال.
إن العيب فينا لأن جزءا من الدول العربية فى مؤتمر القاهرة كان مع التدخل الأمريكي، ولفيف من الجيوش العربية حاربت العراق إلى جانب القوات الأمريكية بدعوى تحرير الكويت!!. على أية حال انجازنا هو التحرر من الاستعمار، والاستقلال.
الإنجاز الثانى هو تنمية الموارد وتراكم الثروات وخاصة ثروة النفط التى تقدر بتريليونات الدولارات.
هناك زراعة وتطوير للصناعة وهناك الجامعات وهناك نمو ديموغرافى هائل.
كان عبد الناصر يقول هناك 150 مليون عربى والآن هناك 350 مليون عربى وبإمكاننا أن نكون لوحدنا مثلما قال مالك بن نبى "كومنولث إسلامي". لدينا مخزون نفطى هائل وموارد مالية ضخمة ولدينا أعمال وأسواق ولدينا عقول.
إن الذين يبنون أمريكا الآن هم الثلاثون بالمائة من العقول العربية والإسلامية. هذا مكسب عظيم يجب الاستثمار فيه بالشكل الصحيح.
هذه ليست أول مرة يقع فيها العلم العربى تحت الهيمنة الاستعمارية، فلقد تعرض العرب لغزو التتار والمغول والقضاء على بغداد واحتلالها والوصول إلى الشام، وأيضا الحروب الصليبية وغيرها ولكن استطعنا أن نقاوم وأن نسترد حريتنا واستقلالنا.
ولكن اليوم لو نظرت إلى عيون الشباب وإلى بعض مظاهر التمرد والغضب عند العمال وعند الطلاب وعند المواطنين ولو نظرت إلى الإنترنيت وما يحتويه من مدونات وصفحات تطفح بالغضب ونقد الأوضاع الحالية لأدركت أن الانفجار قادم وأن الحطب الجاف تلزمه شرارة لتشتعل النار فى كل الوطن العربي. مشكلتنا أن الدولة الوطنية التى حاربنا من أجلها تحولت إلى دولة قاهرة ليس فيها تداول على السلطة، يحكمها فريق اجتمع فيه أصحاب المال والسلطة وهم لا يراعون مصالح الناس إذ أنهم عند أقرب هزة، كعادتهم سيهربون إلى الخارج. نحن فى حاجة إلى خيال سياسى وإلى روح المبادرة والثقة بالنفس.
نحن بحاجة ماسة إلى بعض الصبر وإلى كل الإرادات الحرة فى الوطن العربى لأن هذه السلط ستغادر وستنشأ نظم جديدة.
لا يجب أن نكرر الحكم المنفرد القائم على الزعيم أو الأيديولوجية الواحدة.
المهم هو كيف نستطيع أن نتصور حكما جديدا يقوم على ائتلاف وطنى "أشداء على الكفار رحماء بينهم".
الكل يشارك فى صنع البرنامج الوطنى مع ضمان أكبر قدر من التعددية السياسية والفكرية.
الفقهاء أنفسهم أقروا بأن الحق النظرى متعدد والحق العملى واحد وهذا يعنى أن تحقيق مصالح الناس يمكن أن يتأتى من الليبرالية ومن القومية ومن غيرهما كذلك.
إن ميثاق المدينة كان يتكون من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين.
إن الأمة الإسلامية متعددة المشارب والأمم ولكل منها الحق فى رؤيتها وفى لغتها وفى شريعتها تحت ما يسمى بالحكم الإسلامي. نريد المزيد من التأمل ومزيدا من الرؤية التاريخية طويلة الأمد، لها 14 قرنا من زخم الماضي.
ذكرتم قبل قليل الجامعة وطلابها وما يجب أن تنظوى عليه من تنوير. ما رأيكم دكتور حسن حنفى فى تحول الجامعة العربية من مركز فكرى إلى منبر تكفيرى طال العديد من المفكرين والفلاسفة ولم تسلموا حتى أنتم من لظاه؟
- الحقيقة أن التكفير لا يأتى من الجامعة، إذ ما تزال الجامعات إحدى حصون المعرفة ولكن التكفير يأتى من خارج الجامعات وتحديدا من الجماعات الإسلامية التى تغير طريقتها للسيطرة على المجتمع والحكم.
الآن من الصعب زحزحة الدولة الأمنية لأنها متواجدة فى كل مكان وإدراكا من هذه الجماعات لهذا الوضع ابتدعوا لهم طريقة أخرى وهى اختراق وشفط المجتمع من الداخل والاستيلاء عليه من الداخل وليس من الأعلى.
الجماعات الإسلامية تسيطر على المجتمع المدنى من خلال الإعلام والتأثير بالتخويف.
أنظر إلى ما حدث مع السيد القمنى عندما هدّدوه بالقتل فأعلن البراءة من كل كتاباته السابقة.
إن إخافة المفكرين والبحث الحرّ والمجتمع المدنى يأتى من خارج الجامعة، وبهذا أصبحت الجامعة تخاف من المجتمع والدولة خائفة أيضا من الجماعات وتتملقها وتزايد على الإسلام وتصدر قرارات من أجل ما يسمى حماية السلم الاجتماعى والوئام الاجتماعي، ولكن تظل الجامعة منبرا حرا.
قد يحاول بعض أساتذة الجامعة من هذا التيار أو ذاك ادخال عقائدهم الخاصة فى تدريسهم ولكن تظل هذه الفئة محدودة.
إن ما حدث مع نصر حامد أبوزيد لو ظل داخل الجامعة لما حدث الذى حدث، ولكن للأسف تدخل الإعلام وخرج الأمر إلى الشارع فحدثت الانزلاقات.
إننا نلاحظ دائما وكلما تعلق الأمر بالمفكرين الأحرار أن كلا من الدولة والجماعات الإسلامية تتملقان الرأى العام بغرض تأليبه عليهم وإسكاتهم.
التكفير هو أحد جوانب منطق الإقصاء، والإقصاء أصبح اليوم سلوكا لجميع الأطراف، فالبعض يكفر والبعض يخوف والبعض يهمش وهذا طبعا رغبة من كل طرف فى الاستفراد بالحكم والتفكير.