سيكتب هذا الصيف على صفحات تاريخ العالم صفحة جديدة ومثيرة من كتاب الحرب الباردة التي اعتقدنا عن خطأ وقبل الأوان بأنها انتهت وانقضت وأصبحت نسيا منسيا. ونحن نسمع بيان قمة حلف شمال الأطلسي يوم الثلاثاء الماضي في بروكسل يدين موسكو بلهجة مضطربة مترددة لم يفلح الأمين العام للحلف (دي هوب شيفر) في ابلاغنا أبعادها وأهدافها،
كما نسمع قعقعة السلاح على حدود جورجيا في محاولة تقسيم المقسم من أشلاء ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي، ثم نسمع وزير الدفاع الروسي يهدد باستعمال السلاح النووي ضد الحليفة السابقة بولندا لو وافقت على انتصاب الدرع الصاروخي الأميركي على أراضيها ونسمع أيضا الرئيس الأميركي بوش يلقي بانذار في وجه موسكو لكي تسحب جيوشها من عواصم المقاطعات المتمردة (أوسيتا وأبخازيا). باختصار كأنما عاد للبشرية شبح الستينات أيام كان الزعيم السوفييتي خروتشوف ينزع نعليه ويضرب بهما على منبر منظمة الأمم المتحدة بنيويورك! لولا أن ميدفيديف اليوم يظهر في صورة الجنتلمان الأنيق المهذب!
ويذكر أبناء جيلي تلك المحنة الرهيبة التي عشناها من خلال موجات الأثير وعناوين الصحف عام 1962 حينما اندلعت أزمة الصواريخ السوفييتية التي نصبتها موسكو في عهد الرئيس نيكيتا خروتشوف حول جزيرة كوبا على مرمى حجر من واشنطن في حركة تحد خطير وغير مسبوق للولايات المتحدة. وأعلن الرئيس الأميركي جون كينيدي أنه يمهل موسكو أسبوعا لتفكيك صواريخها واعادتها لقواعدها بعيدا عن كوبا التي كان زعيمها فيديل كاسترو حليفا للاتحاد السوفييتي وللشيوعية العالمية ورأس حربة في خصر الغرب الليبرلي الذي تقوده واشنطن.
ونذكر بأن العالم ارتعدت فرائصه رعبا من عاقبة الأمور لو أن خروتشوف واصل التحدي والاستفزاز، لكن الذي حصل كان غير متوقع لأن الزعيم السوفييتي اختار أخف الضررين وقال جملته التي تجمع بين الجد والهزل في رسالته للزعيم الكوبي وهي: لو التقى خروفان على جسر ضيق وأصر كل منهما على العبور في نفس الوقت فسيسقط الخروفان في النهر! وبالفعل فقد تراجع الخروف السوفييتي وترك الجسر للخروف الأميركي ليعبر وطويت الأزمة التي هددت العالم باندلاع حرب نووية الى أن جاء زمن مسار هلسنكي واتفاقات الحد من التصعيد النووي وقامت كل من القوتين الأعظم تباعا بتدمير الاف الرؤوس النووية منذ عهود الرؤساء بريجنيف وجونسون الى عهود بوتين (مدفيديف) وبوش الابن.
ومع استفحال أزمة جورجيا نكاد نبلغ درجة حمى أزمة صواريخ كوبا ونستعيد ذكريات لي الذراع بعد حوالي نصف قرن من الزمن تغيرت خلاله معادلات لعبة العلاقات الدولية خصوصا منذ نوفمبر 1989 الذي شهد انهيار الأمبراطورية السوفييتية وانفجار المعسكر الشرقي الى ذرات متنافرة بدون حرب كما كان يحلو للرئيس ريتشارد نيكسن أن يقول. ففي عام 1962 كانت موسكو تشكل الكفة الثانية لميزان الرعب النووي وكانت تهيمن على نصف العالم منذ انتصارها الى جانب الغرب على العدو الألماني النازي وقوات المحور الشرير، وكان الاتحاد السوفييتي متماسكا بجمهورياته وبدرعه الكبير الواسع الذي تشكله بلدان أوروبا الشرقية وأيضا معززا بأغلب دول العالم الثالث المستقل في الستينات والذي كان زعماؤه يختارون الانحياز للاشتراكية ظنا خاطئا منهم بأنها أقصر الطرق الى تحقيق التنمية وانجاز التقدم واللحاق بركب الأمم الناهضة.
لكن اليوم يختلف عن الأمس ليس في حجم القوة الروسية الضاربة ولكن في النفوذ الجيوستراتيجي الروسي في العالم. فالولايات المتحدة كسبت ضد موسكو لا حربا تقليدية مباشرة بل حربا نفسية وسياسية وثقافية دارت رحاها على مدى عمر الحرب الباردة من 1945 الى 1989 انتهت بانحسار مد المعسكر الشيوعي الى حدود ما فتئت تضيق وتتقلص باستمرار مع انتصار قيم الغرب الليبرالية. وبالمقابل تغول الغرب وازداد انضباطا وراء واشنطن بما سمح بحلول عصر القطب الواحد، وأصبحنا حتى نحن العرب والأفارقة والأسياويين وأهل أميركا الجنوبية نتعامل مع هذه الحقائق الجديدة بما نسميه الواقعية والحكمة ومقاومة الارهاب ونحن مضطرون الى التعامل مع القوة الوحيدة بمنطقها هي لا بمنطق مصالحنا، كأنما كان العالم الثالث هو الضحية الأكبر لانهيار القطب الشيوعي، حين خسر استقلال قراره وضيع نصف سيادته.
وفي هذا المناخ الجديد استفحلت الأزمات الاقليمية وتعددت من العراق الى أفغانستان الى لبنان الى فلسطين وانفلق النظام الدولي القديم كالحب والنوى منذرا بعصر رهيب سماه كاتب افتتاحيات نيويورك تايمز فريد زكريا بعصر مابعد الولايات المتحدة. وهذا العصر هو الذي ندخله بعد عصر العداء للولايات المتحدة. لكن الذي يحدث حول جورجيا هذا الصيف سيغير المعطيات بعمق لأنه يشكل خطوة دقيقة واستثنائية تتمثل في قيام واشنطن مباشرة بالمساهمة في تفكيك أمبراطورية روسيا مباشرة وعلى أيدي بوش قبل شهور قليلة من رحيله المبرمج.
د.أحمد القديدي
*رئيس الأكاديمية الأوروبية للعلاقات الدولية بباريس