لقد أصبح واضحا، عبر التصريحات الاعلامية المتتالية، ان المفكر الأمريكي والمخطط الاستراتيجي المشهور، زبيغنيو برجنسكي، يقف خلف ترشيح باراك أوباما للرئاسة في الولايات المتحدة. ومن الجدير بالذكر أن بريجنسكي هو الذي دعم ايضا ترشيح جيمي كارتر لرئاسة الولايات المتحدة في عام 1976. كما اصبح واضحا ايضا ان كارتر نفسه يؤيد اوباما، في الوقت ذاته الذي ينتقد الممارسات والسياسات الاسرائيلية.
ويتعرض اوباما للانتقاد بسبب هذا الدعم من قبل اليسار المتطرف من جهة ومن قبل اليمين الصهيوني من جهة اخري. فاليسار المتمثل ببعض التنظيمات الصغيرة، ينتقد بريجنسكي بسبب انتمائه للجنة الثلاثية التي تمثل المصالح التجارية والمالية الكبري في الولايات المتحدة، وينتقده اليمين الصهيوني والمحافظين الجدد لانه معاد لافكارهم وقد قام بريجنسكي بانتقاد اللوبي الصهيوني بشدة، وبدعم الافكار الواردة في الدراسة التي نشرت حول اللوبي الاسرائيلي في عام 2006 بقلم ستيفن والت وجون ميرشماير، والتي اثارت غضب اليمين الصهيوني والمحافظين الجدد.
وقد برز بريجنسكي منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي بسب كتابه الذي نشر عام 1973 وعنوانه بين عصرين ، عندما كان استاذا في جامعة كولومبيا، مما ادي بديفيد روكفيلر، وهو من اكبر الاثرياء في الولايات المتحدة لاختياره لتأسيس اللجنة الثلاثية في نفس العام، وهي اللجنة التي تعمل منذ ذلك الحين للتقريب في وجهات النظر بين المؤسسات الحاكمة التابعة لما يسميه العالم الثلاثي ، أي أمريكا وأوروبا واليابان، وذلك من أجل التوصل إلي وحدة صف بينهم ومن أجل التحكم في مصير العالم. وقد عمل بريجنسكي علي زعزعة الإتحاد السوفييتي عبر دعمه للمجاهدين الأفغان وذلك بسبب موقفه المتعنت ضد الإتحاد السوفييتي والفكرالشيوعي بشكل عام والناتج عن اصوله البولونية. وبالرغم من اعتبار بريجنسكي كأحد الصقور في مرحلة الحرب الباردة الا ان توجهاته السياسية تتسم بما يعتبر الإيديولوجية الليبيرالية حيث ينتمي إلي الحزب الديمقراطي. وبعد دعمه القوي لكارتر الذي كان يعتبر من خارج المؤسسة الحاكمة الامريكية التقليدية، حيث جاء من ولاية جورجيا أي من الجنوب ، عمل بريجنسكي كمستشار للأمن القومي لإدارة كارتر الذي اعتبره استاذا له، وكان بريجنسكي من الذين ساهموا في تطوير مسار كامب ديفيد وفي نشر شعار حقوق الانسان الذي تبنته ادارة كارتر.
والغريب في الأمر ان برجنسكي الذي كان من ألد أعداء الإتحاد السوفييتي والذي عمل علي إضعافه خلال فترة الحرب الباردة، يقف اليوم خلف أوباما لانه يعتبر أن القيادات الأمريكية منذ عام 1991 قد فشلت في لعب الدور المطلوب للولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة والذي اصبح عالما ذا قطب واحد وحيث اصبحت فيه الولايات المتحدة القوة رقم واحد أي الامبراطورية العالمية.
وفي عام 2007 اصدر بريجنسكي كتابا جديدا بعنوان الفرصة الثانية ينتقد فيه بشدة الادارات الامريكية المتتالية بعد عام 1990، باديء ذي بدء ادارة بوش الأب، وبعد ذلك إدارة كلينتون ثم إدارة جورج بوش الحالية، لان جميعها حسب رأيه لم تتمكن من لعب الدورالتاريخي الذي كان يجب علي الولايات المتحدة أن تلعبه عندما أصبحت القوة الكونية رقم واحد في العالم.
يقارن بريجنسكي في كتابه بين عامي 1945 و 1990، حيث يعتبر أن عام 1945 هو بداية للنظام الدولي الجديد بسبب هزيمة النازية في اوروبا مما أدي بتغيير هام علي الصعيد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، أما عام 1990 فيعتبره بريجنسكي تاريخا مناسبا لتحديد نهاية الحرب الباردة حيث يشهد بداية نهاية الاتحاد السوفييتي. ويري بريجنسكي أنه بينما لم تساهم أمريكا بشكل مباشر في هزيمة النازية في عام 1945 إلا أنها تمكنت من الاستفادة من هذا التغيير وتجييره لمصلحتها. وينتقد بريجنسكي في كتابه جميع الرؤساء الثلاثة مع التمييز بين نقاط ضعف كل منهم ولكنه يوجه نقدا حادا بشكل خاص لإدارة بوش الحالية في فصل بعنوان القيادة الكوارثية أو القيادة النكبة وذلك بسبب الحرب الذي شنها بوش في العراق، حيث يري انه أصبح واضحا منذ عام 2006 إن تكلفة الحرب قد تخطت بكثير الإنجاز الوحيد الذي حققته هذه الحرب والمتمثل في التمكن من الاطاحة بنظام صدام حسين.
وقبل توجيه انتقاده لادارة بوش الابن، يوجه بريجنسكي انتقادا لادارة بوش الأب في فصل بعنوان الخطيئة الاولي يبين فيه نقاط قوة ونقاط ضعف الرئيس بوش الأب، حيث يعترف بريجنسكي ان بوش الأول الذي يسميه القائد الكوني الاول كان عليه ان يواجه من اصعب المراحل التي واجهت السياسة الامريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ويعترف ايضا ان بوش الأول كان متمترسا في قضايا السياسة الخارجية، وانه كان يختار مستشارين ووزراء يحظون بكفاءة في هذا المجال ليتمكنوا من مواجهة التحديات التاريخية أكانت علي صعيد الأزمات المتفاقمة في البلقان او في منطقة الخليج.
ويستنتج بريجنسكي بعد عرضه لسلسلة من التفاصيل حول هذه الفترة العصيبة ان ضعف بوش الأب يأتي في نهاية الامر ليس مما فعله ولكن مما لم يفعله حيث انه لم يتمكن من ان يلعب دور القائد الكوني وان يضع استراتيجية ورؤية مستقبلية للسياسة الامريكية. فالمطلوب في هذه المرحلة حسب بريجنسكي كان ضرورة تطوير هندسة جديدة للنظام العالمي، مثل التي طورت بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن بوش استمر في العمل علي اساس النظام الامبريالي القديم بدل من تطوير استراتيجية لائقة بالنظام العالمي الجديد.
اما بالنسبة لبيل كلينتون، فقد خصص بريجنسكي فصلا عنوانه عقم النيات الطيبة لانتقاد من يسميه القائد الكوني الثاني .
ويري بريجنسكي أن ضعف كلينتون علي عكس بوش الأول، كان ناتجا عن عدم خبرته في السياسة الخارجيه وتركيز اهتمامه في اول الامر علي الشؤون الداخلية وبالتالي فلم يحط كلينتون نفسه بالخبراء في هذا المجال، كما اتسمت سياسته بنظرة مثالية ساذجة ومتفائلة لما يسميه بالعولمة وعلي هذا الأساس لم يتمكن من معالجة القضايا المعقدة والتحديات التي كانت تواجه السياسة الامريكية. ورغم نجاح كلينتون في انتخابات الرئاسة لعام 1992 وعام 1996، الا ان حزبه فقد موقعه في انتخابات اعضاء الكونغرس التي تمت لصالح الحزب الجمهوري في تلك الحقبة.
أما في الفصل الخاص بما يسميه بريجنسكي القيادة الكوارثية فقد حدد ثلاث نتائج سلبية للحرب الذي خاضها بوش الابن في العراق:
أولا: إن الحرب الأمريكية في العراق قد تسببت بتدمير هائل لمصداقية أمريكا علي الصعيد العالمي، فحتي عام 2003 كان العالم في رأيه يصدق اقوال رؤساء الولايات المتحدة، ولكن بعد شهرين من سقوط بغداد، وبعد ما أدلي الرئيس بوش بتصريح كاذب عندما قال: لقد وجدنا أسلحة الدمار الشامل قد أثرذلك سلبا في مصداقية الولايات المتحدة المستقبلية فيما يخص البرامج النووية الإيرانية أو الخاصة بكوريا الشمالية. كما أن سمعة الولايات المتحدة الأخلاقي في العالم قد تأثرسلبا أيضا بسبب الممارسات في سجن أبو غريب وسجن غوانتنامو، مما ادي الي عدم تمكن الولايات المتحدة بالحصول علي دعم العالم لمواقفها كما ادي إلي تقسيم حلفائها وتوحيد أعدائها وخلق فرص جديدة لكل منافسيها، وأهم من كل ذلك فقد اثر علي هيبة أمريكا كقائد كوني لأنها لم تتمكن من إستخدام وضعها الإستراتيجي المتفوق.
ثانيا: إن الحرب الأمريكية في العراق عبارة عن كارثة جيوسياسية في رأي بريجنسكي، حيث لفتت الأنظار عن الخطر الإرهابي الحقيقي وكانت نتيجة ذلك اعطاء امكانيات جديدة للقاعدة وكذلك في الصومال. أما الخسائر البشرية في هذه الحرب فقد إزدادت بشكل دائم، وتخطت الخسائر المادية 300 مليار دولار. وعلي عكس ما يدعيه نائب الرئيس بوش فإن الشعور المناهض لأمريكا قد ساد في العالم العربي بعد تحطيم العراق كقوة إقليمية وكالدولة العربية الوحيدة القادرة علي مواجهة إيران، التي تعتبر من أشرس الأعداء لأمريكا في المنطقة. ولذلك يمكن اعتبار الحرب من وجهة نظر جيوسياسية هزيمة لأمريكا وربح لإيران.
ثالثا: إن الهجوم علي العراق قد ضاعف من الخطر الإرهابي علي أمريكا لان الحرب علي الإرهاب دون تعريف واضح لطبيعة العدو، ولكن بتوجه عام ضد الإسلام، قد وحد الرأي العام الإسلامي في معاداة أمريكا مما جعل الأرض خصبة لتجنيد عناصر جديدة للعمل ضد أمريكا وإسرائيل.
ويري بريجنسكي ان ما حدث في العراق والمشاكل المتزايدة التي تواجه إسرائيل كنتيجة لإعتمادها علي نفس المفهوم في التعامل مع جيرانها تشكل مثالا حيا للمصاعب التي تهدد بشكل درامي وضع الولايات المتحدة علي الصعيد العالمي. كما إن الحرب العراقية في رأيه قد تحولت إلي كارثة من حيث الطريقة التي تم أخذ القرار بشأنها، ثم بالطريقة التي تمت إدارتها، وبالتالي فإنها قد دمغت رئاسة بوش بالفشل التاريخي.
ويري بريجنسكي انه حتي في حال إنتهت هذه الحرب قبل خروج بوش من الحكم، فان مسألة التخلص من إرثها التاريخي سيتطلب كثيرا من الجهد والوقت ولكن يعتبر بريجنسكي ان النقطة الإيجابية الوحيدة لهذه الحرب هي أنها جعلت من العراق مقبرة لأحلام المحافظين الجدد الذين كانوا يحلمون بالدخول في حرب مع سورية وإيران، مدفوعين بذلك بسياسة مبنية علي دوافع مانيكية ومشبوهة وليس علي تعريف واع لمصلحة الولايات المتحدة القومية. ويري بريجنسكي انه في حال حظيت هذه الحرب بنجاح فكان علي أمريكا أن تستمر بالحروب.
أما سياسة إدارة بوش بالنسبة لباقي العالم فقد تأرجحت ما بين شعار وشعار دون أي هدف أو إستراتيجية واضحة مما كان غير مجد بالنسبة للسياسة الأمريكية تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
ويري بريجنسكي ان هذه الممارسات ادت إلي تدمير المبادرة العربية التي كان من الممكن أن تؤدي إلي إختراق في العلاقات الإسرائيلية الأمريكية، والتي جاءت في منتصف شباط (فبراير) 2002 بعد ما وافق أعضاء الجامعة العربية علي مبادرة الأمير عبد الله التي كانت تقتضي فتح العلاقات الديبلوماسية وتطبيع العلاقات التجارية مع إسرائيل مع إعطاء ضمانات أمنية مقابل سلام مبني علي اساس الإعتراف المتبادل بحدود حزيران 1967 من قبل الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.
وبالتالي فخلال إدارة بوش أصبحت سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط فاشلة علي الصعيد الإستراتيجي حيث تحولت الولايات المتحدة من دور الوسيط بين الإسرائيليين والعرب إلي دور المؤيد لإسرائيل مما أدي إلي فقدانها القدرة علي التأثير علي الأحداث أكان ذلك عبر تحقيق السلام أو عبر ضمان أمن إسرائيل علي المدي الطويل، كما يري بريجنسكي انه كلما زادت الولايات المتحدة وإسرائيل في استخدام العنف في المنطقة كلما ستتورطان أكثر في حرب دائمة ومتوسعة.
ان دعم بريجنسكي اليوم لاوباما يعني أيضا دعم اللجنة الثلاثية له، واللجنة الثلاثية تعتبر حكومة ظل تشمل رجال اعمال ومثفقين وحكوميين، فالسؤال الاستراتيجي يبقي هل اصبح نجاح اوباما الفرصة الثانية والاخري التي يبحث عنها بريجنسكي؟ وهل ستكون سياسة اوباما في حال نجاحه في الحملة الانتخابية في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) مشابهة لسياسة كارتر؟ وما الهامش الذي سيترك لاوباما لوضع استراتيجية سياسية جديدة ومستقلة للولايات المتحدة، جديرة بوصفه القائد الكوني الرابع حسب تصنيف بريجنسكي؟ وهل ستحظي بموافقة الجميع ويسمح له بتطبيقها؟ أم هل ستبقي مجرد نيات طيبة عقيمة؟ هذه الاسئلة كلها ستجيب عليها التطورات السياسية والاستراتيجية القادمة.