العرب
مرة أخرى تطلق منظمات دولية على أعلى مستوى صرخات استغاثة لإنقاذ أطفال العراق من المحنة التى أوقعهم فيها الاحتلال الأمريكى وحكوماته المتعاقبة فى بغداد، ولكن يبدو أن هذه الصرخات ومهما كان دويها لن تجد طريقها إلى أذن سامع فى البيت الأبيض أو فى المنطقة الخضراء.
قبل يومين أعلنت مسؤولة أممية كبيرة هى راديكا كوماراسومى ممثلة بان كى مون والمكلفة بملف الأطفال والصراعات المسلحة أن أوضاع الأطفال فى العراق أصبح لا يحتمل، وعددت فى تقريرها الذى تلته هناك فى عاصمة العالم المتحضر نيويورك، أن 53 بالمئة من أطفال العراق تذهب إلى المدرسة، بينما لا يحصل 60 منهم على مياه شرب صحية، مما يعنى أنهم مهددون بالأوبئة الفتاكة كالكوليرا، كما أشارت إلى أن المئات منهم يقبعون فى سجون الحكومة وبعضهم فى معتقلات القوة الأمريكية.
تقرير السيدة كوماراسومى مثله مثل عشرات التقارير الأممية الأخرى، جاء فى غاية الأدب، ولم يحمل المسؤول المباشر عن هذه الكارثة أى عبء، كما لم يتطرق بجرأة إلى الأعمال المشينة التى تلحق بأطفال العراق منذ أول يوم للغزو إلى اليوم، منها اغتصابهم، وتعذيبهم لابتزاز آبائهم أو أمهاتهم، بالإضافة إلى تجنيدهم فى عمليات لفائدة بعض الميليشيات كاستخدامهم فى زرع الألغام أو استغلال براءتهم بتفخيخ أجسادهم وتفجيرها فى بعض العمليات.
هذه الأوصاف مهما اشتدت دقتها لن تفى الكارثة حقها من التشنيع ولن تحيط بما حل بالعراقيين جراء الغزو الأمريكى الهمجى وسياسة الحكومة التابعة فى بغداد من إبادة متعددة الوجوه، وحرب استئصال حاقدة تقوم على اجتثاث كل مشاعل النور من هذا البلد العريق وأول هذه المشاعل طفولته المؤتمنة على مستقبل العراق ومجده وتاريخه.
هذا هو جوهر المشروع "الاستراتيجي" الذى ينفذه الجيش الأمريكى منذ خمس سنوات وأكثر ويسعى إلى توسيعه بدخول عدة عوامل إلى الميدان منها التغلغل الايرانى وازدياد التكالب الشيعى على ما يسمى بؤسا "سلطة".
منذ اليوم الأول لسقوط العاصمة بغداد تحت سنابك الغزاة، لم تهدأ الاسطوانات عن الترويج إلى أن العراق الجديد سيغيظ جيرانه ويدفعهم إلى الثورة على حكامهم لا يلوون من وراء ذلك إلا الاستظلال بمظلة "الديمقراطية والحرية" الأمريكية التى هبت على المنطقة، جرى ذلك، وقد ذهب فى ذهن الغازى الأمريكى أنه دخل منطقة سهلة القياد، وأن شعوبها تستضيف الغريب حتى وإن سلبها استقلالها وكرامتها.
الغزو الأمريكى الذى أطاح بالرئيس الراحل صدام حسين ونعت نظامه بأبشع الأوصاف، لم يفلح فى الاتيان بأى نافع ولو كان قيد خردلة للعراق وشعبه، وهاهم العراقيون - حتى أولئك الذين صنفوا على أنهم أعداء صدام- أصبحوا يترحمون على أيامه ويتحسرون على سنوات الأمن ورفعة المقام والتعليم المتقدم والتأمين الصحي، وغيرها من المزايا التى عاشوها فى عهد الراحل وافتقدوها اليوم فى "العراق الجديد".
لسنا من أنصار التشجيع على التباكى على الماضي، أو انتظاره ليعود، ولكن واجبنا القومى والانسانى يحتم علينا أن ننضم إلى كل الأصوات المنادية بضرورة صون ما تبقى من العراق وجعل مستقبل شعبه العظيم الذى قدم آباؤه وأجداده الكثير لأبناء الأمة العربية فى كل قُطر ومصر، أمانة فى الرقاب، نعطيها ما تستحق من تعاطف وتكافل وانخراط فى الدفاع عنها، والعراقيون فى الأخير لن يجدوا غازيا ولا عميلا للدفاع عنهم بل سيجدون فقط أشقاءهم فى العروبة ومن خلصت نيته من الأحرار فى شتى بقاع الأرض.
نقول هذا على الرغم من أن الواقع الدولى والعربى بالذات يبعث على الخجل ويثير الشك والحيرة، فالعرب صامتون بـ"الإجماع" أمام معاناة العراق، كما هم صامتون أمام معاناة الصومال وغزة.
أما العالم "الحر" فقد تخلص من القيم والمثل وألقاها فى الزبالة وأصبح يلهث فقط وراء المصلحة والانتصار للشركات الامبريالية.