مثلما اننا نردد دائماً انه ليس كل ما قاله "المحافظون الجدد" خطأ، ايضاً ليس كل ما يقوله حليفهم الكبير نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني... خطأ، حتى عندما يتعلق الامر بالعراق!
دعا ديك تشيني خلال جولته الحالية في المنطقة الدول العربية الى ارسال سفرائها الى بغداد باعتبار ذلك طريقاً رئيسياً للحد من النفوذ الايراني في العراق.
ماذا تعني "نصيحة" تشيني... نائب الرئيس الذي يعتبره بعض الخبراء في التاريخ السياسي الاميركي اقوى نائب رئيس في تاريخ الدولة الاميركية؟
1 – لا شك ان هذه النصيحة تندرج اساساً في سياق الحاجة الطبيعية لادارة الرئيس جورج بوش الى تعزيز الاستقرار الامني – السياسي في العراق ضمن استراتيجية بوش الثانية التي انطلقت عسكرياً في اواخر العام 2006. غير ان الوجه الاول لدعوة ارسال السفراء العرب الى بغداد، هو معرفة الاميركيين ان الحضور الديبلوماسي العربي في عاصمة مثل بغداد هو جزء من عملية اعادة التوازن الداخلي بين الجناحين الشيعي والسني العربيين للدولة العراقية الجديدة. فنائب الرئيس الاميركي يعرف من خلال التجربة في السنوات الخمس المنصرمة على سقوط بغداد ان الغياب الديبلوماسي العربي كان متواكباً، ان لم يكن شاهداً، على رفض عدد من الدول العربية تأييد الوضع الجديد الناشئ في بغداد بعد سقوط صدام حسين.
لقد تغيّرت امور كثيرة بين مرحلة الاحتلال الاولى والمرحلة الحالية في العراق. فالادارة الاميركية تعرف انه في المرحلة الاولى، وبسبب الطابع التغييري للانظمة العربية الذي اتخذته الحرب في العراق في شعارات "المحافظين الجدد" لم يكن النظام السوري وحده هو الذي "يقاتل" في العراق بين 2003 و2006 وانما ايضاً بصورة من الصور، مباشرة او غير مباشرة دول مثل السعودية ومصر والاردن كانت تدعم رفض المجموعات السنية العراقية للوضع الناشئ، حتى وهي في ذروة تحالفها مع واشنطن!
كان الغياب الديبلوماسي باشكاله المتفاوتة المختلفة، بين تمثيل محدود وغياب كامل هو علامة اساسية من علامات رفض "النظام العربي" للتركيبة الداخلية للدولة العراقية. بهذا المعنى كان "النظام العربي" يساهم في توفير البيئة العملية للمقاتلين ضد الجيش الاميركي. وفي هذا الجو "انفردت" ايران اكثر فأكثر في تأكيد حضورها العراقي المتوفر عبر قوى شيعية على المستوى الميداني.
2 – لكن النفوذ الايراني، بل النجاحات الإيرانية التي فاجأت الاميركيين بعد 9 نيسان 2003 كانت ولا تزال تستند اساساً الى الاضطراب الذي يسود الدولة العراقية الجديدة وعبرها الوضع العراقي بحربه الاهلية الدائرة من جهة، وبالمواجهة بين الجيش الاميركي واعدائه الراديكاليين من جهة ثانية، سيما "تنظيم القاعدة".
عدم استقرار الدولة العراقية، وهي دولة ليست شيعية طبعاً، وانما للاحزاب والقوى الشيعية دور رئيسي فيها، عدم الاستقرار هذا هو بالنتيجة عدم استقرار للشيعية السياسية العراقية، التي هي الكتلة الكبرى للشيعة العرب، بل مركز الثقل الديني والآن السياسي الاول بين دول تواجدهم العربية. هذا الوضع بسبب الضعف المتولد عن عدم الاستقرار بمعناه العميق في صيغة الدولة، يشكل الخلفية الاساسية لارتهان الشيعية العراقية، وعبرها صيغة الدولة العراقية، للنفوذ الايراني. بالتالي فإن اي استقرار جدي سياسي – امني للوضع العراقي ولصيغته السياسية سيعني تمكن الشيعية العراقية على المدى الابعد من "استرخاء" ثقافي – ديني – سياسي يتيح بروز النجف – بغداد كمحور لشيعية عربية لا يمكن الا ان تتجه نحو التوازن مع الشيعية الايرانية التي يقودها اليوم نظام قائم على نوع من شيعية متوترة ايديدلوجيا في علاقتها مع الذات والعالم. بينما الاستقرار في العراق سيعني ولادة دولة ذات صيغة توافقية يكون للشيعة فيها دور رئيسي وللسنة دور اساسي يتجاوز حجمهم الديموغرافي الأقلوي ليؤكد حجمهم السياسي – التاريخي.
ويبدو ان العديد من الجهات الدولية، كما العربية والعراقية، بمن فيها قيادات شيعية عراقية باتت مقتنعة بان افق صيغة التسوية الداخلية المقبلة في العراق بين الطائفتين العربيتين هو افق يكون فيه للقوى السنية تمثيل ونفوذ داخل الدولة يتخطى مجرد التعداد الديموغرافي. لقد اظهرت التجربة في السنوات الاخيرة – حسب هذه الجهات الغربية – انه اذا باتت الدولة العراقية الجديدة لا يمكن تصورها بدون تأكيد ما اكثري شيعي، فان هذه الدولة نفسها لا يمكن ان تقوم بدون حضور متوازن سني، اي معادلة: لا دولة عراقية بدون الشيعة ولا حكم عراقي بدون السنة.
الى حد ان بعض الجهات الديبلوماسية الغربية تشبّه الصيغة المستقرة الآتية للدولة العراقية بالوضع اللبناني القائم: دور للمسيحيين مناصف بدون مناصفة ديموغرافية مع الطوائف المسلمة، بعدما تغيرت الاعداد السكانية بنسب معينة لصالح المسلمين اللبنانيين خصوصا السنة والشيعة. شكل ما من "المناصفة" غير النصفية للمشاركة السنية في الدولة العراقية (المسألة الكردية امر مختلف وهي كمشكلة، او كحل، تتعلق بالطرفين معا، السني والشيعي اللذين تفاجئ نسبة حساسيتهما المشتركة ضد أي انفصالية كردية).
اين يوصلنا هذا الاستطراد؟
... الى امر جوهري من حيث المؤدى العملي لنصيحة ديك تشيني. فاذا كانت دعوته للدول العربية الى ارسال سفرائها الى بغداد تعني حثها على مساهمة مهمة في الاستقرار العراقي في سياق مواجهة النفوذ الايراني، فان انخراط الدول العربية في مسار الاستقرار هذا يعني بالمقابل اعادة ادخال للدولة العراقية الى "النظام العربي"... وعبرها ادخال "الشيعية العراقية" الى النظام العربي... كطريق اساسي لمواجهة النفوذ الايراني على المدى الابعد: الشيعية العربية ومركزها الديني النجف مقابل الشيعية الايرانية ومركزها الديني "قم"... هذه معادلة سياسية تؤدي اليها حتما نصيحة ديك تشيني. فمن أكثر من الاميركيين وجدوا انفسهم "ضحايا" هذه الشراكة الايرانية القسرية في التأثير على قوى شيعية عراقية لم يكن ممكنا ان تصل الى السلطة بدون... الدور العسكري الاميركي.
فهل يتجه "النظام العربي"... بعدما تجاوب مع استراتيجية بوش الثانية وساعد على "انتفاضة" العشائر السنية ضد "القاعدة" الى ادخال الدولة العراقية الجديدة في "النظام العربي" وعبرها "الشيعية العراقية"؟
... لكي يكون ممكنا ذات يوم الرهان على توازن عراقي مع ايران... لكن بمعادلات جديدة؟
• • •
... على امل ذات يوم ان يحمل الاستقرار في العراق والعالم العربي، ثقافة سياسية ومعايير لما بعد انتهاء الموجة الاصولية التي تعصف بحياتنا الفردية والعامة منذ عقود... هذه الموجة الدينية الاصولية التي يحمل جيلها الثاني معه مرحلة الانتقال الى الصراعات المذهبية... بل يعاد تاسيس بعض الدول على اساسها. فهل يكون الجيل الثاني هو الذروة وبداية الافول معا لسيطرة هذه الموجة الاصولية؟...
جهاد الزين
jihad.elzein@annahar.com.lb