لقد جهدنا من خلال ما تقدم من بحوث في بيان القواعد الرئيسية التي تحكم عملية إستنباط الإحكام الشرعية ، وقد وجدنا تغافل البعض لموضوعة - أصالة الكتاب المجيد - التي هي عندنا قيمة مستقلة لاترتبط بموضوعة ثانوية سواء أكانت خبرية أو إجتهادية .
وهذا الإتجاه المفاهيمي عندنا ترفضه المدرسة الكلاسيكية لأنها عجزت بالفعل من إيجاد مداخل ومخارج موضوعية لتحليل الواقع من خلال المباني العامة في الكتاب المجيد ، حيث إنها مالت عن عمد لجعل الأخبار ونسبتها للرسول مُدعية إن الكتاب عبارة عن نصوص مطلقة في غالب أحكامه وقضاياه ، وهو لذلك ينقصه المتابعة ولا يلامس تفاصيل الحياة اليومية عن قرب ، والقول بالنقصان هذا ينجر حتى إلى المسائل المُحكمة إيضاً من الشريعة ، التي خرجت عندهم من كونها منظم لسير حركة المجتمع والحياة ، وهذا الإدعاء ينجر لتوالي فاسد أخر مفاده إن - [ الرسالة أو فصل الرسالة في الكتاب غير قادر على الوفاء بما يطلب منه لنقص ذاتي فيه أو قل نقص تفصيلي في بيان معلوماته – ] ، وهذا التالي يعنون به عدم صلاحية الرسالة في الكتاب لكل زمان ومكان !! .
ولأجل هذا قالوا : بان الواجب الشرعي يقتضي وضع نصوص ونسبتها للرسول وجعلها بحجم وبقداسة نصوص الرسالة !! ، وهذا القول منهم يجعل من نصوص الرسالة في الكتاب المجيد غير مستوعبة لكل تفاصيل الحياة .
وهذا خلط ووهم في وعي مفاهيم الرسالة من الكتاب المجيد ، لأنهم قد تجاهلوا عن عمد الغاية الكلية في الرسالة والتي تتحدث عن نشدان المصلحة للإنسان ودفع المضرة عنه ، وهذا المطلق أو هذا الكلي لايحتاج منا لوضع أخبار أفتراضية لتنوب عن هذا الكلي بحجة عدم جهوزية المعنى المطلق في الوفاء بالغرض المطلوب .
وكما قلنا في الحلقة الأولى بان الكتاب أو الرسالة فيه مجزية للغرض المطلوب منها ، ولكن جعل هذا الغرض في متناول الجميع قد تكفل به العقل ، أعني به - العقل المطلق - وليس العقل الكاشف عن قول النبي أو أهل بيته الذي تقول به نظرية فقهاء التراث ، والعقل هنا يستخدم وسائله الإجرائية التي تُمكنه من تقييد المطلق و تخصيص العام و الكلي في الرسالة ليكون ذلك هو حكم الواقع وهو المطلوب .
وهذا ما لا نعارضه بل نلتزم في جانب منه بما تبناه البعض بجعل قياس البرهان أو مطلق مفهوم القياس هو المحرك للنص من صيغته المطلقة إلى صيغه المُراده ليكون مافي الرسالة من كلي موافقاً لحركة الواقع وهذا إجراء عقلي في العادة ، وهو نفسه الذي يجعلنا نلتقي به في حالة القول المشهور : ( ما حكم به العرف حكم به الشرع ) ، وإعتبار حُكم العرف حجة شرعية على كل حال مع علمنا بإن طبيعة العُرف متغيرة ، والتغير بحسب الأوضاع والقيم المعرفية والسياسية والثقافية والفكرية التي تتحكم به وتحكمه .
فالعقل في حركية القياس يتحرك في ميدانه الطبيعي لذلك يمكنه التعويض المبنائي بجعل - القوانين المدنية - السائدة في عالمنا اليوم هي الإحكام الشرعية هي نفسها ، طبعاً يجب هنا إخراج العبادات بإعتبارها صيغ توقيفية جاءت على فعل : [ خذوا عني مناسككم وصلوا كما رأيتموني أصلي .. ألخ مع أعترافنا بانها وهذه الأقوال تحتاج إلى مراجعة سنتوقف عندها شيئاً ما مع الفروع ] .
ونعود للقول بان مهمة القوانين المدنية في الأساس هو صيرورتها لتكون هي الحكم البديل عن الحكم الذي ينتج من خلال خلق الراويات ونسبتها للرسول ، فعملية الجعل بحد ذاتها موضوع مخل بصناعة القانون والتشريع ، لماذا ؟ بإعتبار ما يترتب عليه أو قل ما يولده ذلك من مفهوم سلبي لعصمة الأخبار !! وهذا ما لا يريده الله ولا يطلبه لا من الرسول في البدء ولا من خلال التعظيم الذي يساوي بين شهادتين منفصلتين في الغرض والمعنى والمطلوب .
أضف إلى هذا وذاك إن - الإحكام - تتغير إجرائياً وفقاً لتغير آليات الزمان والمكان التي هي في الأساس آليات معرفية من بُناة العقل المطلق ، مع التأكيد بإن القوانين المدنية يُراد منها تحقيق المصلحة ودفع المضرة والمفسدة عن الإنسان الفرد والإنسان المجتمع .
من أجل هذا سنحاول هنا وضع القارئ العزيز في صورة التأسيس الذي نريد من خلال تحليل لغة النص أعني لغة الرسالة ومطابقة الحكم على موضوعه في الواقع بماهو وكما يرآه العقل ، وهذا سندلي به من خلال بعض الأمثلة المنتخبة ، والتي تؤ كد على نظرتنا للربط الجدلي من جهة بين الحكم ولغة الرسالة ، وتجريد ماسوى الكتاب كأصل تشريعي ونفي ماسوى العقل كدليل على الشرع من جهة أخرى :
*
المثال الأول : [ مفهوم الردة وحكمها] ... عرفت الردة في الميثيولوجيا الدينية على إنها عبارة عن ترك الفرد المؤمن دين محمد – ص - وتحوله عنه لدين أخر !! ، وهذا كما ترى مفهوم أو تعريف غير دقيق يغلب عليه الطابع السياسي الذي قام بصناعته والترويج له كهنة ووعاظ سلاطين معروفين .
الذين زعموا بان - المُرتد عن دينه – حكمه القتل !! وهذا الحكم لاينسجم وروح الشريعة ولغة الرسالة في الكتاب المجيد ، حيث إن الكتاب تحدث عن فكرة الإرتداد من منظور مغاير ، تحدث عنه في مجال حرية الإعتقاد التي ينظمها ويكفلها قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين ) في صورتها المضطردة الدائمة الغير مقيدة والناظرة للدين بعنوانه العام ، نعم الكتاب ذكر فعل الردة في النص 217 من سورة البقرة قال : ( ومن يرتدد منكم عن دينه .. ) ، والدين في هذا النص كان قد عرفه الكتاب المجيد بقوله : ( إن الدين عند الله الإسلام ) ، والإسلام : في لسان النص هو مفهوم عام ، يشمل جميع الرسل والأنبياء في معنى ومفهوم هذا النص ، ولا خاصية فيه لدين محمد – ص – على غيره ، وهذا المفهوم العام للإسلام نقرئه في سورة البقرة وفي المائدة وفي هود وفي كل تعريف يتبناه النص للتدليل على مفهوم النبوة إيضاً ، ويمكن تلخيص ذلك المعنى في المكونات الثلاثة التالية :
1 – الإيمان بالله الواحد الأحد .
2 – الإيمان باليوم الآخر .
3 – والعمل الصالح .
وهذا المعنى للإسلام لا يتضمن شرط الإيمان بمحمد – ص – أو العمل وفق رسالته لأن العمل هنا مرتبط بالإيمان والتصديق بها ، أي إن الإسلام هو عنوان عام تتجلى فيه نبوات الجميع ، ولكن رسالة كل منهم هي خاصة بمن يؤمنون بهم ، ولهذا فمن أرتد عن الدين أي من تحول عن دين الإسلام بمعناه الذي قدمناه هو - حر - في ذلك وله كامل الحرية ، نعم هو يُحاور ويجادل في الحُسنى ، ولكن لا يقتل ولا يُحرم من حقوقه المدنية والدستورية ، ولو قام هذا المرتد بالإعتداء على حقوق الأخرين وظلم وتعدى على الأمن والنظام ، فانه في الحالة تيك يُحارب بإعتباره ظالماً معتدياً ، وليس بإعتباره مرتداً عن الإسلام فتلك قضية أخرى ..
المثال الثاني : مفهوم الزنى وحكمه ..
الزنى في اللغة : هو أصل لغوي صحيح من فعل زن ، ودلالته على نوع من العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى المحرمة ، وتأتي حرمتها من حيث كون الفعل فيها قائم على التعدي على مشاعر الناس والمجتمع ، لذلك سماها الكتاب المجيد - بالفاحشة – وأدخلها في باب المحرمات الموضوعية من الأشياء ، و هو لا يعني مطلق العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى ، إذ كل علاقة تتم بين طرفين عن تراض منهما فهي صحيحة وشرعية وتخرج من كونها عنوان لمعنى الزنى .
إذن فالزنى في الكتاب هو معناً خاص جداً وحدوثه غير ممكن إن لم يكن مستحيل في الواقع ، وهذا بلحاظ ما يُطلب من شهود في بيان صفة الفعل الذي يجب ان يكون ظاهراً للعيان وليس مخفياً ككل العلاقات الجنسية المباحة ، فالجنس بما هو هو فعل بشري مباح والممنوع منه ما يقع في دائرة التعدي على النظام والقانون العام ، لذلك سماه الكتاب - فاحشة - من فعل فحش الذي هو الإصرار على تحدي المشاعر في الأجواء والحارات والمدن الضيقة وعلى مرأى ومشاهدة من الجميع ..
وقد حدد الكتاب عقوبة الزنى بمائة جلدة ، وقد وردت هذه العقوبة في الكتاب على إنها من الحدود قال تعالى : [ والزاني والزاني فأجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة ] و العقوبة هنا عامة لمن قام بفعل الزنى من دون تخصيص بمن له زوج أم لا ، الحكم كما هو مطلق لكل من قام بهذا النوع من الفعل ، وما قيل عن رجم المحصن فهذا ليس من شرع الله بشيء ، إنما هو من فعل السياسة والظلم لا غير ..
المثال الثالث : من الأمثلة التي طرحناها لبيان التلازم مابين الكتاب والقوانين المدنية ، هو مفهوم السرقة وحكمها ...
الذي نقرئه في النص التالي : [ السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما .. ] ، مفهوم النص هنا يتحدث عن عنوان مطلق - السرقة – ، أي عن مصاديقها المتنوعة في الحياة ، من سرقة المال الخاص إلى سرقة المال العام ، إلى معانيها الموضوعيةمن قبيل سرقة الفكر وسرقة الأمن وسرقة الحرية ، أي سياقات اللفظ وحركية مصاديقه في الخارج الموضوعي .
ولكن – مفهوم السرقة - أكثر ما يجري الحديث عنه في الجانب المالي والحقوقي الخاص وليس العام على نحو مطلق ، وهذه الجزئية هي واحدة من مغالطات الفقة التراثي وأصوله ، التي صيرت هذا المفهوم بالتبادر دال على هذا المعنى لاغير ..
ومع التدقيق العلمي في ثنايا النص نجده يتحرك في سياقات بنيوية ودلالية ذات مراتب ثلاث هي :
1 – السرقة ضمن مفهومها العام .
2 – القطع ودلالته المفاهيمية بحسب لغة النص .
3 – اليد ومعناها في الإصطلاح وفي اللغة .
ولقد تحدثنا بإيجاز عن السرقة كمفهوم وكمحتوى ، والآن سنتحدث بإيجاز كذلك عن مفهوم - القطع – ودلالته البيانية ، ولماذا أستخدمه الله في كلامه عن فعل السرقة ؟ المتأمل في لغة النص يجد إن للقطع دلالة مفهومية وإقتضائية عامة ، وهي هنا لاتعني الجز والبتر كما هو سائد في فقه أهل التراث ، ولكنه فعل دال على - المنع - والذي يقوم بالمنع هو القانون والحاكم المدني .
والمنع صفة فعل يتحرك مع وضمن فعل من يقوم بالسرقة التي هي في لسان النص تعني التعدي على حقوق الناس المالية والحقوقية ، والمنع موضوعياً هو كبح لجماح كل الجماعات أو الأفراد الذين يقطعون على الناس أمنهم ومعايشهم ، كما نرى ذلك في معنى و مفهوم – قطع الطريق – الذي يقوم به مجرمين وأرهابيين هدفهم ترويع الناس وأغتصاب حقوقهم وسلب الأمن والعيش بسلام منهم ، كما يحصل في العراق اليوم من قبل الأرهابيين والتكفيريين من الجماعات الظلامية .
وحكم - السرقة - في الكتاب المجيد هو - بمنع اليد – التي تمارس هذه الجريمة بحق الناس ، أي إن من يمنع الناس ويعتدي على حقوقهم المالية والحقوقية ، يجب منعه باستخدام كافة الوسائل القانونية لقطع اليد التي تحرك الجريمة وتزرع الخوف في قلوب الأمنيين ، إذن فمفهوم - قطع يد السارق والسارقة - في لسان النص معناه منعهما من التعدي وتخريب الحياة الأمنة ، وصيغة - اليد - من الصيغ المتقابلة وهي هنا : لفظ دال على القوة والقدرة ..
فالمنع يذهب لمنع هذه القدرة من ممارسة جرائمها ، وليس- اليد - في سياق النص تعني ذلك العضو من جسم الإنسان ، فهذا غير مقصود البتة في كلام الله هنا .
ولهذا نجد التذبذب والأختلاف في بيانات التراثيين في بيان المراد من لفظ اليد على نحوه المطلوب مع إن الله تحدث في موضع أخر عن معنى اليد بقوله : [ يد الله فوق أيديهم ] وهي هنا حتماً لاتعني ذلك العضو من جسم الله ، إذ [ ليس كمثله شيء ] ، وقيل في هامش وسائل الشيعة إن الإمام علي قال فيما يجب قطعه من اليد : هو أطراف الأصابع وحجته على ذلك قوله تعالى – وإن المساجد لله – ، على أساس ان الكف يحوي الأصابع التي يسجد عليها المرء ، وهذا المعنى بعيد لأن الكف إيضاً له نفس الصفة ككونه من المساجد حسب التعريف القديم هذا ، وبتر الجزء هو تعدي على مساجد الله حسب هذا الزعم ، وسيأتي تفصيل الأمر كله في بحثنا عن الفروع الفقهية الذي نأمل ان نوفق لطرحه على الكافة في القريب إذا شاء الله .