عندما كنا نتحدث عن أهمية "الإستشراق"، بوصفه أداة غربية رئيسية، لدراسة، ومن ثم لمراقبة الشرق، كان البعض يذهب إلى أن هناك شيئاً من المبالغة في تقديم الحضارة الغربية بطريقة وكأنها تهتم بالعالم العربي والإسلامي على نحو حذر ودقيق يعتوره الخوف
بيد أن معطيات الاستشراق الحديثة أو المعاصرة وما تعرض له من تحولات وتحويرات أدت، جميعاً، إلى بلورة ما يمكن أن نسميه بـ"حوار الثقافات" أو، كما يفضل البعض تسميته بـ"صراع الحضارات". وقد جاءت الإعلانات الغربية تلو الإعلانات لتؤكد ما كنا قد تكهنا به، خاصة بعد صدور كتاب الفيلسوف الأميركي "لي هارس" Lee Harris الأخير الموسوم بـ(The Next Stage of History : Civilization and It's Enemies ) ( المدنية وأعداؤها: المرحلة المقبلة من التاريخ) ليبرهن على الخوف الهاجسي الذي يعتلج دواخل أذكى العقول الغربية حيال التنافر بين الحضارتين العربية ـ الإسلامية والغربية. والدليل مضمن في عنوان الكتاب أعلاه: فالمدنية ترمز إلى الغرب، بينما يرمز "أعداؤها" إلى العالم الإسلامي، كما يفترض الكاتب للأسف.
وحري بنا مباشرة هذا الكتاب من وجهة نظر نقدية، عربية إسلامية معاصرة، لقياس مقدار المبالغة في حالة "رهاب الإسلام" أو "فوبيا الإسلام" Islamophobia التي تقض مضاجع فلاسفة الغرب. لنلاحظ أولاً أن هارس يباشر جدله من إفتراض وجود نوعين من التطرف، الأول، إسلامي؛ والثاني غربي. التطرف الإسلامي، حسبما يرى الكاتب، إنما يمثل أخطر أعداء الحضارة الغربية لأنه يرمي إلى البقاء الثقافي، بغض النظر عن صلاحية الثقافة التي يدافع عنها. أما التطرف الغربي، فهو تطرف التشبث بـ"العقل" Reason والتمسك به درجة التعامي التي تفضي إلى هزيمة الحضارة الغربية أمام التطرف الإسلامي، كما يتكهن هذا الفيلسوف المتشائم. إن التطرف الإسلامي هو آلية دفاعية عن الذات، وهو يرنو إلى بناء "إمبراطورية" عبر التوسع نحو أقاليم وثقافات أخرى. وحسب هذا المنظور، يطلق المؤلف لنفسه الحرية في إبتكار مصطلحات جديدة لا عهد لنا بها من ذي قبل: فهو يتكلم عن "الإمبريالية الإسلامية" Islamic Imperialism، وهذا إبتكار إصطلاحي لم يسبقه إليه أحد، ذلك أنه يرى في حركة التبشير بالإسلام نوعاً من بناء إمبراطوري يختلف عن الإمبراطوريات الكلاسيكية في التاريخ، كالإمبراطوريتين الرومانية والبريطانية، متناسياً أن المسلمين كانوا دوماً ضحايا الإمبرياليات الحديثة وليس بُناتها. وبرأي الكاتب، الإمبراطورية الإسلامية هي الآن في طور البناء ما دامت هناك أقاليم ومجاميع بشرية تحتضن الإسلام لأول مرة في مختلف أنحاء العالم.
كما أن المفكر الأميركي يلاحظ أن انتشار الإسلام في مناطق جديدة يضفي على ثقافات شعوبها عنصراً تحولياً "ثورياً" بعد نجاحه بإختراقها، وبذلك يكون التغيير الآتي مع التبشير من النوع المتواصل الثابت في ثقافات تلك الأمم. وتعتمد الإمبراطورية التي يفترضها الكاتب على مبدأ الحرب المقدسة أو "الجهاد" الذي يكون هدفه النهائي هو نشر الإسلام في كل العالم، الأمر الذي يبرر بروز ظاهرة "التضامن الجماعي" بين المسلمين، وهو نوع من الروح الجمعية التي لا يمكن أن تكون بدون تغذيتها بروح التطرف (بعكس التوكيد الغربي على الفرد والمصلحة الشخصية). هذا التطرف، حسب رأي المفكر الأميركي، يقوم على مبدئي تبشير غير المسلمين بالإسلام، وقتل المرتدين او الخارجين عن الإسلام، الأمر الذي يضفي صفة عسكريتارية خشنة على الأجيال المسلمة الفتية.
أما الغرب، من الناحية الثانية، فإن تطرفه الذي يتبلور في التمسك بالعقل وبأساس الفلسفة القائمة على المصلحة الذاتية، فإنه (في نهاية المطاف) ينتحر، لأنه يعمي القيادات السياسية الغربية أمام ثقافة الإسلام. وبذلك يوجه الكاتب نقداً ذاتياً للثقافة الغربية لأنها ترتكب خطأ قاتلاً بسبب عدم تمكنها من تنويع مصادرها الفلسفية والفكرية كي تكون قادرة على مواجهة التطرف الإسلامي. يذهب هارس إلى أن العالم الغربي قد فشل عملياً في فهم وإستيعاب تاريخ وطبيعة تفكير الطرف المقابل، لأنه يعتمد العقل أداة وحيدة واحدة في التعامل معه. ومرد ذلك يعود إلى طبيعة التنشئة في المجتمعات الإسلامية حيث يربى الأبناء الذكور على أخلاقيات الخشونة وتوظيف العنف منذ نعومة أظفارهم، ممارسين هذا السلوك أولاً، مع الإناث داخل منزل الأسرة! ويذهب الكاتب بعيداً حد الإعلان أن التطرف هو عنصر ملازم لجوهر الإسلام، مرتكباً خطاً كبيراً في إدراك روح التسامح والمحبة في هذا الدين الحنيف. وعلى نحو معاكس، يذهب هارس إلى أن الفتيان الذكور في العالم الغربي تتم تربيتهم على مباديء الإذعان للنظام والخضوع للقانون ولجم العنف وضبط نوازع العدائية.
وعندما يستعرض هارس تاريخ الصراع بين الثقافتين الإسلامية والغربية، فإنه يدعي أن الثقافة الأولى طالما استعملت السيف أو القوة أمام الثقافة أو الحضارة الغربية التي كانت تميل إلى توظيف قوة الكلمة، أي إلى الحوار والتفاهم، الأمر الذي يبرر (كما يدعي هارس) محاولات العالم الغربي العديدة لإنتشال العالم الإسلامي من براثن التخلف على سبيل التحديث أو "التغريب". إن عبادة "العقل" في العالم الغربي هي التي كانت وراء محاولات فرض التقدم على العالم الإسلامي، حسب رأي هارس الذي لا يشير إلى حركة الاستعمار وإستغلال بلدان وثروات العالم الإسلامي بطرائق أنانية جشعة.
إن كتاب (المدنية وأعداؤها) يشكل علامة معاصرة مهمة في قضية تطور الصراع/الحوار بين العالمين الإسلامي والغربي: هو مهم للغاية لأنه يلقي الضوء على ما يدور من مخاوف وهواجس في دواخل أذكى العقول الغربية؛ كما أنه مهم بسبب ما يجرفه نحونا من مفاهيم مسبقة وبعضها خاطئة حيال الحضارة الإسلامية، وهي مفاهيم لم تزل راسبة في قعر العقل الغربي حتى اللحظة. إن إدعاء هارس بأن "العقل"، عمود الحضارة الغربية، إنما هو نوع من التطرف أو إنه أداة إنتحار ينطوي على أن الحضارة أو الثقافة الإسلامية قد طلقت العقل ثلاثاً؛ وفي هذا الإدعاء شيء من المبالغة، خاصة إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار تغذية العقل وآفاقها في الحضارة العربية الإسلامية في العصر الوسيط. أما تكهنه بأن طبيعة الإسلام إنما هي طبيعة قبلية، فهو بعيد المنال للغاية عن حقيقة عالمية الإسلام وتساميه فوق الولاءات القبلية والإقليمية واللونية الصغيرة. إن كتاب هارس، الذي لم يلحظه الكثيرون هنا، يعد وثيقة غربية على مستوى عال من الأهمية، ليس فقط بسبب إضاءاته نحو العقل الغربي، ولكن كذلك بسبب ما يمكن أن يفتخه من آفاق للحوار بين ثقافتين: الأولى ترنو للوجود والإزدهار؛ والثانية، متفوقة مادياً ولكن تخشى أن تهزم في معركة كونية رهيبة.