خصصنا المقال السابق لإلقاء نظرة فاحصة نقدية على الروايات التي تُذكر في كتب التفسير وغيرها كـ"أسباب نزول" للآيات التي لها علاقة بتحريم الخمر في الإسلام
وقد ركّزنا في نظرتنا النقدية تلك على إبراز أن تلك الروايات تتعارض، أو على الأقل، لا تحترم بالقدر الكافي، السياق الذي تندرج تحته تلك الآيات، كما بيَّنَّا من خلال السياقات التي تندرج فيها هذه الآيات، أنه يمكن الاستغناء عن تلك الروايات أصلاً، ثم ختمنا المقال بطرح السؤال التالي: "يبقى بعد ذلك تحديد فائدة روايات أسباب النزول عموماً".
بالنسبة للفقهاء والأصوليين تبدو أسباب النزول ضرورية -على الأقل في نظر معظمهم- في مجال الأحكام، باعتبار أن القرآن نزل مُنجَّماً مُفرَّقاً حسب مقتضى الأحوال، ومن جملة هذه الأحوال ما كان يعرض من مستجدات في حياة المسلمين زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، سواء تعلق الأمر بـ"نوازل"، أي أحداث جزئية على صعيد الواقع المعيش، أو باستفسارات وأسئلة تلقى على الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن من شؤون الحياة العامة. فما أجاب به الرسول عليه الصلاة والسلام، سواء كان الجواب آية من القرآن أو حديثاً نبوياً، قد يحتاج لفهمه وتحديد مجال ما يتضمنه من أحكام، إلى معرفة الظروف التي ورد فيها ذلك الجواب. وبما أن خطاب الشرع (قرآناً وحديثاً) يأتي عادة في مثل هذه الأحوال على صيغة العمُوم فإن الفائدة الأولى، وربما الأهم، التي يجنيها الفقيه منها أو الأصولي، هي أنها تساعده على بناء نوع من العلاقة بين عموم الخطاب وخصوص السبب.
ذلك أن العلاقة بين العام والخاص، وبعبارة أخرى بين الكلِّي والجزئي، لا تتحدد فقط بما يمكن أن يُرجع فيه إلى العقل والمنطق، بل قد تحتاج إلى معرفة "الأسباب" أي الوقائع الجزئية التي اقترن بها الخطاب. ذلك لأن المنهج الذي يعتمده الإنسان بكيفية آلية، كيفما كان مستواه الفكري، في عملية الانتقال بفكره من الجزئي إلى الكلي هو القياس، وهو الاستدلال بالمعلوم لديه على المجهول. وهذا المنهج الذي سلكه القرآن في البيان والبرهان، مستعملاً ضرب الأمثال والقصص ودعوة الإنسان إلى التفكُّر والتدبُّر فيما هو مشاهَد لديه لاكتساب معرفة أو عِبرة، بما هو وراء ما يشاهده، ويتيقَّن به عن طريق الحس والخبرة، أقول هذا المنهج هو الذي قامت عليه العلوم العربية الإسلامية، خصوصاً في مجال اللغة والفقه والكلام. لقد ترسَّم هذا المنهج في الفقه خاصة مع قيام علم أصول الفقه، وهو علم منهجي، من أركانه الأساسية مبحث القياس. وسرعان ما تحول "القياس" من مبحث منهجي، إلى أصل من أصول التشريع في الإسلام. وبما أن القياس (قياس شيء على شيء، وفي الفقه قياس ما لم يرد فيه نص أي المستجدَّات على العموم، على ما ورد فيه نص) فإن القيام بهذه العملية يحتاج إلى معرفة "النازلة" التي ورد فيها نص لتحديد طبيعتها بالصورة التي تمكِّن من إبراز معقولية قياس هذا المستجد من "النوازل" أو ذاك، أو عدم معقوليته.
أفق المقاصد رحبٌ واسع بينما أفق القياس ضيّق لكونه محدوداً بحدود النوازل الماضية، لأن القياس أصلاً هو "قياس على مثال سبق".
ففي مثال تحريم الخمر الذي تحدثنا عنه في المقالات السابقة طُرحت مسألة النبيذ، هل يطبَّق عليه حكم التحريم أم لا؟ ذلك لأن "الخمر" في معناه اللغوي هو من عصير العنب، وفي هذا المعنى ورد في القرآن. أما في روايات أسباب النزول التي ذكرت حول تحريم الخمر فقد وصفت الخمر -كما رأينا في بعضها- على أنها مصنوعة من التمر (خليط تمر غير ناضج مع تمر ناضج)، فهل يجوز قياس النبيذ على الخمر مع اختلاف أصل كل منهما. كان هناك من لم يقلْ بتحريمه (ينسب ذلك إلى أبي حنيفة) لهذا السبب. ولما طرحت الغاية من تحريم الخمر كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" (النساء 43)، الشيء الذي يفهم منه أن السبب في النهي عن شرب الخمر هو أنها تُسْكر وتفقِد الإنسان القدرة على التحكم في ما يقول. ولما طرحت مسألة كون النبيذ لا يسكر منه القدر الذي يسكر من الخمر كان الجواب: لما كان السبب في تحريم الخمر هو أنها تسكر، مع أن القليل القليل منها لا يسكر، استخلص الفقهاء من ذلك قاعدة أصولية اجتهادية تقول "ما يسكر قليله فكثيره حرام"، وقد التمس لها بعضهم سنداً من المرويَّات. وقد توسع بعض الفقهاء المتأخرين في تطبيق هذه القاعدة الاجتهادية فطبقوها على التدخين وما أشبه.
من هذا العرض السريع نلاحظ أن التفكير الفقهي انتقل من روايات "أسباب النزول" كمرجع أول برهن على أنه وحده لا يكفي، إلى مقاصد الشرع، كمرجع ثانٍ مكمِّل، برهن على أنه أقدر على توفير الحلول للمسائل المستجدة. ذلك لأن أفق المقاصد رحبٌ واسع بينما أفق القياس ضيّق لكونه محدوداً بحدود النوازل الماضية، لأن القياس أصلاً هو "قياس على مثال سبق". وإذا كان الأمر كذلك، وهو بالفعل كذلك، فلماذا لا نعتمد أولاً وأخيراً على مقاصد الشرع؟ هذا ما ذهب إليه الشاطبي وفقهاء آخرون.
ومع ذلك فلا أحد ينكر خلو روايات أسباب النزول من الفائدة، ذلك أنه إذا كانت فائدتها قليلة في مجال التشريع (مجال الأحكام)، وفيها ما ذكرنا في المقالات السابقة بصدد مكامن الطعن فيها مثل ضعف السنَد وسهولة الوضع والزيادة والنقصان والاهتمام بالغريب العجيب وانتزاع آيات أو أجزاء منها من السياق الذي يعطيها معنى والإطار العام الذي تندرج تحته، إضافة إلى ما ذكرناه أعلاه من ضيق مجال تطبيقها وضرورة اللجوء إلى الاستعانة بمقاصد الشرع... الخ، أقول: ومع مكامن الطعن تلك وهي خاصة بمجال التشريع، فإن فائدتها في مجال "فهم القرآن"، مجال التفسير بكيفية عامة، لا يمكن نكرانها.
ذلك أن استحضار معهود العرب ضروري في هذا المجال، وفي مجال التشريع كذلك. وروايات أسباب النزول، تزودنا بعناصر كثيرة من هذا المعهود. فهي من هذه الناحية أحق بأن تعتمد في تصور معهود العرب من المصادر الأخرى، كالشعر وأساطير القصاص والموروث الأدبي عامة. ذلك لأن عنصر التخييل فيها أوسع وأكثر "حرية" منه في روايات "أسباب النزول". إنها جزء لا يتجزأ من "التاريخ" كما كان يكتب في الثقافة العربية الإسلامية منذ بداية الكتابة فيه إلى العصر الحديث. وحتى أولئك الذي انتقدوا تساهل المؤرخين في مجال معقولية الأخبار التي يوردونها مثل ابن خلدون، لم يستطيعوا تجاوز مرحلة النقد إلى مرحلة التطبيق في مؤلفاتهم التاريخية.
وكمثال على ذلك نشير إلى الروايات التي أوردناها سابقاً بصدد تحريم الخمر. إنها من ناحية التاريخ الاجتماعي مفيدة كثيراً في الاطلاع على بعض مظاهر الوضع الاجتماعي والفكري في محيط النبي عليه الصلاة والسلام، الشيء الذي من شأنه أن يساعد على فهم أفضل للظروف التي كان يتم فيها الانتقال من حال "الجاهلية" التي تتسم بغياب الدولة وسيادة الأعراف إلى حال الإسلام الذي بنى دولة على أساس عقيدة وشريعة. كما أنها مفيدة من حيث إن كثيراً منها يكشف عن مدى ارتباط القرآن بالواقع الإنساني، مما يؤكد ما سبق أن أبرزناه من أهمية المعرفة بأسباب النزول في مجال استحضار معهود العرب لفهم آياته وأحكامه، الشيء الذي قد يمنع من توظيف آيات الذكر الحكيم في شأن من الشؤون، كالإفتاء والتفسير والوعظ... الخ، توظيفاً يخرج بها عن "أسباب نزولها" ودلالتها ومقاصدها.