شاركت مؤخرا بمؤتمر كبير عقد تحت عنوان" استعادة الوعي العربي" شاركت فيه نخبة متميزة من المفكرين والباحثين العرب من مختلف أنحاء العالم العربي، تحت رعاية كريمة من جريدة الخليج بالشارقة.
كانت الأطروحات متميزة دون أدنى شك، تبارى فيها كثيرون بمحاولة استحياء هذا الوعي، وتفعيله في واقع مختلف، من أجل مستقبل مختلف، كان بعضها بروح نقدية تجاوزت كثيرا مما كان يطلق عليه الفكر الوحدوي العربي، بينما ظل القليل من هذه الأطروحات حييا كالفتاة التي سأتحدث عنها، لا يستطيع أن يغادر معهوداته خائفا على منعته وحرمته من أدني طيف يمكن أن يمثل خطرا على حرمته.القصة أنني بينما أرحب بكاتب مصري كبير، تربطني به علاقة قديمة، وروابط أسرية بشكل ما، أتت صحافية شابة تطلب منه حوارا، وبينما مد الرجل ليصافحالصحافية الشابة، التي لم تكن على قدر من الجمال يغري بأي غرض غير شريف، تركت يده معلقة في الهواء واعتذرت عن السلام، قائلة أنا لا أصافح الرجال.. لا شك أن صديقي خجل وخجلت له، ووجدت مهربا سريعا يرفع عن كليهما برودة الموقف قائلا: حرية.. وهي فقط أرادت الحوار، وتقديرا لقيمتك طلبته، وتشجيعا لها عليك أن تستجيب" قاللي ماشي يا عم هاني.. بلهجة مصرية مرحة ساعدت على إذابة الثلج كثيرا..جلست الكاتبة إلى الطاولة.. في مواجهة الكاتب وأنا في المنتصف كأني أحجز من غير قصد بين متعارضين، ففاجأها بسؤال المستاء لماذا هذا التشبث بهذه المظهرية في التدين؟
أن أمد إليك يدي ولا تصافحيني؟ وحاول تخفيف التوتر بأن ضرب الأمثلة على أن مجال عملها جزء كبير منه الثقة وحسن الظن وحسن إدارة العلاقات.. خاصة وأن كثيرا من الصحافيين الآن محترفو علاقات عامة في المقام الأول,فردت- وأنا أستمع- ما أهمية المصافحة؟ إنها أمر نهى عنه ديننا؟ وأن دعوة العصرية هذه ما جرت علينا سوى فساد اجتماعي كبير لاينكره وانطلقت الفتاة المتدينة تتساءل: ماذا جرت الثقافة الغربية والحداثة علينا؟ أليس سوى الفساد الاجتماعي حيث لم يأت اختلاط الرجل والمرأة أو مصافحتها، بدعوى الحداثة، لم يأت إلا بالشر، وأضافت في حكم حدي صريح: وماذا أعطتنا الحداثة ودعوى التمدن من خير؟ وتوجهت للكاتب الكبير-الذي دهش من منطقها- بكل ذلك وكأنها توديه أرضا؟ ولكن كان صاحبنا مشدودا على حبل الصمت.
فكان من واجبي أن أرد، فتوجهت إليها قائلا: أختاه أنت من نتاج فكر الحداثة في عالمنا العربي، فلولا هذه الجهود ما كان حقك في التعليم حقا طبيعيا كما هو الآن، وما كان عملك الذي جاء بك هنا لمقابلة غرباء، وحضور مؤتمر حول وعي الأمة جائزا لك عرفا وتقليدا.. وأردت أن أؤكد أن الحداثة العربية لم تفشل على مستوى النجاحات الاجتماعية والفكرية فضلا عن المؤسساتية، ولم يصبها الفشل إلا على مستوى الحداثة السياسية التي تنازعها منذ قديما الثوريون والشموليون والإسلاميون والآن الطائفيون، كل يلف عليها من منظور غير حداثي، أما على المستوى الاجتماعي فشاهدي تعليم المرأة الذي بدأ بمدرسة المولدات التي أسسها رفاعة الطهطاوي عام 1839 بعد عودته من باريس بخمس سنوات فقط، كما كتب من أجله كتابه" المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين"، وهل غير جهود هدى شعراوي وملك حفني ناصف وغيرهن كثيرات، تلك الجهود الحداثية -هي التي أعطت للمرأة حق التصويت في الانتخابات، الذي يمثل التعبير الأول عن كونكن مواطنات في مصر منذ عشرينيات القرن، وفي الكويت العام قبل الماضي على ماأذكر، لما وجدت يا أختاه هذه الآلاف المؤلفة من الفتيات المسلمات في مختلف الجامعات العربية، ويحصلن على مختلف الشهادات.هل غير جهود الحداثة العربية أعطي للمرأة حق العمل، وحق الطموح وحق الأمل في تغيير واقعها ومجالها العام، وهل غيرها يجادل الآن من أجل حق المراة في مختلف تولي مختلف المناصب والولايات العامة، لولا الحداثة والنهضة والتأثر بالغرب.ثم أضفت لها قائلا إن الحداثة يا أختاه هي التي حررت قرار الفتاة العربية في أخص شئونها، فلم يعد ممكنا لعائلتها أو حتى لزوجها أو لعاداتها أن تجبرها على اختيارات لا ترضاها..لقد أكدت جهود النهضويين العرب يا أختاه على حقك في الاختيار، وعلى استقلاليتك، فلست ملكا لأحد، ولكن أنت أنت هذا ما أعطتك إياه الحداثة..
ولكن أعطتك معه المسئولية فكل مسئول عن خياراته.وحتى يبدأ الحوار الصحافي مع الكاتب، استأذنت بعض الوقت، ثم أعود حتى نلتقي بعد انتهائه لمقابلة أستاذة جامعية إماراتية كان مناقشا لرسالتها للدكتوراة.. ولكن ظل حوار الأسئلة السابقة قائما في ذهني يؤكد أن مشكلة الوعي عندنا ليست في حاجة لاستعادة بقدر ما هي في حاجة لتجاوز.قديما قال على بن أبي طالب اعرف الحق اعرف أهله، وجاء في الأثر الحكمة ضالة المؤمن، وليس هناك مسلم لا ينتشي بتأثير الحضارة الإسلامية في عصر النهضة، ولكن لا زال البعض يصرون على وهم أننا نعيش في العالم وحدنا منذ قديم، وأن الإيمان والكمال هو مقاطعة الآخرين، مصافحة الرجل، أو مثاقفة الآخر.
في عام 1902 سال سائل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، لماذا نتحدث عن الديمقراطية القادمة من الغرب ولدينا الشورى؟ فأجابه السيد أنه تبا لك، فلولا الغرب ما عرفنا قيمة الشورى التي عندنا، وما عرفنا ضرورتها لمعاشنا وحياتنا.إن حجة الاكتفاء النظري وأننا لسنا بحاجة لشئ من الغرب، حجة فاسدة، ليس لها من سند سوى تراث الكراهية الذي يناسب المرضى النفسيين، ولا يناسب حتى من هم في عراك وليسوا في حوار مع الآخر,وختاما أؤكد لأختي الفاضلة أن تراثنا واسع وليس وحدة مصمتة، وقد أحصى أبو عبد الله المروزي في كتابه اختلاف العلماءسبعين كتابا قبله فقط في اختلاف الفقهاء، هذا التراث كما ضم من يرون صوت المراة عورة، ويضم حاليا من يرون عدم جواز قيادتها للسيارة، ضمت الفقيهة تيمية (جدة شيخ الإسلام ابن تيمية) والتي كانت تدرس للناس في مسجد دمشق، وإليها ينسب الشيخ ووالده، كما ضمت فقيهات كبيرات وراويات للحديث النبوي، سرد منهن ابن حزم ثلاثمائة كن أحفظ من الرجال وأضبط في رواياتهن.إن أصحاب العداء المصمت للغرب أو لكل تطور، هم أكثر من يشوهون صورة الإسلام، وأتباع أكثر اتجاهاته تزمتا.