Tuesday, August 21. 2007
لاريب أن اللطف منه سبحانه يعني التفضل والمنه , كما يطلق في الأصطلاح على ثلاثة معان فقد يراد به . أولاً تفضل احد الناس كقولنا أن هذا الشخص فائز على الأخرين
, أي أن له حظوة في خدمة الناس , وقد يراد به ثانياً الموهبة المجانية كقولك أنا أوليك هذه المكرمة , وقد يراد به ثالثاً عرفان الجميل كقولنا : أنا نقابل الفضل بالنعمة وثاني هذه الثلاثة يتوقف على الأول , فإن وهب شئ مجاناً إلى بعض الناس , إنما ينشأ عن الحب الذي به يظفر الموهوب إليه بحظوة عند الواهب , والثالث يصدر عن الثاني , فإن المن يتبع الصنيعة . وواضح أن الفضل بالمعنيين الأخيرين يوجب في مقابلها شيئاً , وهوفي الأول الموهبة المجانة , وفي الثاني عرفان هذه الموهبة , وأما اللطف بالمعنى الأول ففيه فرق بين لطف الله ولطف الإنسان , فإنه لما كانت الأرادة الألهية هي مصدر الخير في المخلوقات كانت محبة الله التي بها يريد خير المخلوقات هي مصدر ما في المخلوقات من الخير ,وأما الأرادة الإنسانية فهي تتحرك من خير خارج سابقٍ فليست علةً للخيرية الخارجة كلها . بل هذه الخيرية متقدمة عليها كلها أو بعضها , ومن ذلك يظهر ان محبة الله يصدر عنها دائماً في المخلوقات خير حادث في بعض الأزمنة لاقديم مقارن لها في الأزلية , وبأعتبار هذا الفرق في الخير تقترق محبة الله للمخلوقات فبعضها عام , وهي التي بها يحب جميع الأكوان , وبهذه المحبة يجاد بالوجود الطبيعي على جميع المخلوقات وبعضها خاص , وهي التي بها يرفع الخليقة الناطقة إلى ما فوق حال الطبيعة , ويسميها في الخير الألهي . وبهذه المحبة يقال أنه بعض الناس مطلقاً . ان الله بهذه المحبة يريد مطلقاً للخليفة الخير السرمدي , الذي هو إذا تقرر ذلك ظهر أن قولنا : أن الإنسان فائز بلطف الله . يدل على شئ فائق الطبع في الإنسان , صادر عن الله , وربما اطلق لطف الله على الله الأزلية كقولنا , لطف الأنتخاب من حيث أن الله قد أنتخب بعضاً من الناس أنبياء بمجرد لطفه دون أستحقاق من قبلهم , فظهر أذن ان الحصول على لطف الله يراد به أن فيه شيئاً يحظى به , فهو حاصل على محبة الله . لكنه مفترق حيث الطبيعة والخلقة والسر فيها . لان الصدور عن الله هو مصدر تلك الألطاف الناسوتية الأخرى , ولان الله هو حياة النفس بطريق العلة الفاعلة , والنفس هي حياة الجسد بطريق العلة الصورية ولا واسطة بين الصورة والهيولي , أو المحل بنفسها , وأما الفاعل فليس يصور بجوهره بل بالصورة التي يحدثها في الهيولي , وعليه فليس المراد بقولنا أن اللطف هو محو الذنوب لان ذلك خارج عن مورد اللطف العام , بل أنه أراد باللطف وجود النبوة كلياً , فليست هي مقيدة بطاعة ومعصية فقط في باب العبادات , بل تتناول مواهب اخرى كثيرة الهية ,وحيمنا نقول بأن الأنسان فائز بلطف الله , فإن فيه أثر لارادة الله المجانية وقد اتضح أن ارادة الله المجانية تعني الإنسان على نحوين , أولاً : من حيث يحرك الله نفس الإنسان إلى معرفة شئ أو ارادته أو فعله , والأثر المجاني الحاصل في النفس على النحو ليس كيفية , بل حركية للنفس لان فعل المحرك في المتحرك هو الحركة كما يرى الشيخ الرئيس , وثانياً من حيث يفيض الله على النفس موهبة ملكية إذليس يليق بالله ان يكون بمن يحبهم ليدركو الخير الفائق المطبع اقل عناية منه بالمخلوقات التي يحبها المتدرك الخير الطبيعي , وهو لايقتصر في عنايته بالمخلوقات الطبيعية , التي يحبها اياها إلى الأفعال الطبيعية , بل يجود عليها بصور وقوى هي مبادئ للأفعال , فتميل بها إلى تلك الحركات وهكذا تصير لما هذه الحركات التي تحرك بها من الله طبيعة ومستهلة , لانه بالأولى يفيض على من يحركهم إلى ادراك الخير الفائق بالطبع صوراً أو كيفيات فائقة بالطبع ييسر بها ادراك الخير الأبدي , وعلى هذا النحو تكون موهبة اللطف كيفية , لأنها من حيث هي كذلك تفعل في النفس لابطريق العلة الفاعلة بل بطريق العلة الصورية كما يفعل البياض الابيض وكما تفعل البرارة البار ,ولأن كل جوهر فهو إما نفس طبيعية ما هو جوهرة أو جزء منها على حد ما يقال للهيولي أو للصورة جوهر, واللطف لكونه فوق الطبيعة الإنسانية لايمكن أن يكون جوهراً أو صورة جوهرية للنفس بل إنما هي صورة عرضية لها . لان مأله في الله وجود جوهري يكون له وجود عرضي في النفس المشتركة في الخيرية كما يظهر في العلم , وعلى هذا لما كانت النفس تشترك في الخيرية الألهية اشتراكاً غير كامل لهذا الأشتراك في الخيرية الألهية وهو اللطف وجودٌ في النفس أقل كمالاً من وجود النفس في ذاتها . ولكنه اشرف من طبيعة النفس من حيث هو تجل للخيرية الألهية ,أو مشاركة فيها لامن حيث كيفية الوجود , ولان وجود العرض هو وجود في آخر فكل عرض لايقال له موجود بمعنى أن له وجوداً مستقلاً , بل لان شيئاً موجود به فلأن يقال له خاص بالموجود أولى من أن يقال له موجود كما قال الشيخ الرئيس , ولأن الكون أو الفساد إنما هو من شأن ماله وجود في نفسه فليس , يوصف عرض حقيقة بالكون أو بالفساد بل إنما يوصف بذلك من حيث أن محلة يبتدئ أو يضمحل وجوده بالفعل بأعتباره وبهذا الأعتبار يقال أن اللطف يخلق من حيث أن الناس يخلقون بإعتباره أي يحصل لهم وجود جديد من لاشئ !!!
المصدر : كتاب رسالة في التوحيد والسياسة
المؤلف : الشيخ الركابي
مؤوسسة البلاغ بيروت 1988
|