إشكالية الخطاب
في
القراءة التاريخية لوقعة كربلاء – ج7 ]
– للشيخ الركابي
* أخرج بأقوام للشهادة
سنواصل في بحثنا هذا تفكيك الرؤية التراثية التي تحكمت في قسط وافر ببنائنا الذاتي والموضوعي ، وفي علاقتنا مع الأشياء التي من حولنا ، بحيث صُرنا كائنات تراثية لا أمة لها تراث !! ويجب ان يعلم الجميع بان تلك الرؤية التراثية لا تستند في بنائها وتركيبها وتكوينها على قواعد من العلم والعليّة ، بل هي مجموعة قصص وأخبار وخرافات وأقوال متناثرة لا يجمعها ضابط ، وهنا نحن مازالنا في بحثنا هذا نقوم بعملية رصد وتعقب موضوعي وعلمي للأخبار المزيفة والكاذبة والتي شكلت تاريخ وقعة كربلاء ، مغيبةً العقل والوجود عن عمد للتعرف على الصحيح والمنطقي والمقبول في إحداثيات وقعة كربلاء ،شهادة
وقد ساهم ذلك في زيادة نمو ونشاط وهيمنة الفكر الماورائي المزيف على كل تفاصيل حياتنا وحركتنا .
ونحن هنا إنما نقوم بعمل نريدكم جميعاً ان تشاركونا فيه ألاّ وهو العمل على تاسيس قواعد للفكر جديدة تعتمد الصحيح من النقل والموافق للعقل وللكتاب المجيد ، وهذه عملية لاتبدو ميسورة ولكنها لازمة وواجبة علينا ، وهي لاتحتمل الإنتظار كما يريد ذلك كهنة الدين ويطلبون ، بحجة واهية مفادها إنها تُساهم أو تعطي المبرر للآخر في نقد وتفكيك وتحليل البنية الشيعية على وجه الخصوص ، في حين إننا إنما نريد و ندعوا ونتبنى فعل التصحيح والإصلاح والبناء ، وهذا فعل ضاغط يفرض نفسه علينا جميعاً ، وما نقوم به لايخرج عن هذا مطلقاً [ ان أُريد إلاّ الإصلاح ما أستطعت ] ..
روى الشيخ الكليني في كتابه الكافي عن ( ابي جميلة ) رواية عن معذ بن كثير عن الإمام الصادق - ع - جاء فيها :
1- قال : فلما توفي الحسن ومضى ، فتح الحسين الخاتم الثالث ، فوجد فيه [ أن قاتل فأقتل وأخرج بأقوام للشهادة لاشهادة لهم إلا معك ] !! - الكليني محمد بن يعقوب : اصول الكافي ص 280 - .
2- و روى الكافي إيضاً خبر جاء :
[ ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتماً فوجد فيه أن أخرج بقوم إلى الشهادة فلا شهادة إلا معك ] - نفس المصدر - .
وقبل البدء في تحليل وشرح هذه الرواية يلزمنا القول : إنه مما لا شك فيه إن الروايتان منقولتان بالمعنى عند القول بأنهما روايتان ، وإلاّ فهما رواية واحدة ، وهذا الإحتمال وارد يؤيده سياق الروايتين على الظاهر .
أما الإختلاف في بعض عبائر الروايتين ناشئُ من تعدد الرواة ،
إذ في الرواية الأولى : والتي رواها (ابي جميلة ) وإسمه ( مفضل بن صالح )
وقد عرفه العلامة الحلي رحمه الله في - خلاصة الرجال ص 258 - قائلاً : - المفضل بن صالح كذاب يضع الحديث -
وأما الرواية الثانية : وحسب ماورد في كتاب : - مرآة العقول ج1 ص200 - عن العلامة المجلسي : - إنها رواية مجهولة السند - .
قد يتصور المرء للوهلة الأولى حينما ينظر في الروايتين إن الإمام الحسين - ع -
كان يعمل منذ ان تحرك من المدينة لكي يُقتل في كربلاء ، وهذا المفهوم يحتاج إلى توضيح طالما ، ونحن نعلم أن المطلب المهم هنا والذي يجب معرفته هو :
هل إن هذه الرواية حددت الوظيفة العملية لعمل الإمام - ع - ضمن أدوار إمامته التي دامت 11 سنة ؟؟
أم إنها عينت الوظيفة العملية لتحرك الإمام لزمن مخصوص ومحدد من أدوار إمامته ؟ .
ولكي نوضح الأمر نقول : إن عمل الإمام من الناحية الفعلية ، يجب ان يتم وفقاً و تبعاً لمضامين رسالة محمد – ص - ، ومن الناحية الموضوعية في ذلك الوقت يعتبر عمل الحسين المعبر أو المفسر للرسالة فيما تأمر وفيما تنهى ، ومن خلال تلك الرؤية يمكننا ان نطبق معنى الروايتين على الواقع الموضوعي ،
ومن المفيد ان نعلم متى و في أي زمن خرج الإمام - ع - مع أصحابه للشهادة ؟
ومن خلال ذلك نتمكن من إدراك المعنى الحقيقي للروايتين ، و نعلم كذلك إن الحسين لم يخرج للشهادة حتى بعد وفاة الإمام الحسن - ع - مباشرة !!
بل إن كل الحقائق التأريخية الثابتة تقول بانه عاش زهاء العشر سنوات في سلام وصلح مع معاوية ، قال الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد ص 79 قال : [ فبعد وفاة الحسن كتب إليه شيعته في العراق ، يطلبون منه القيام على معاوية ، ولكنه قال : ان بيني وبين معاوية بيعة لا أحلها أبداً ، ولكن إن هلك ننظر وتنظرون ] .
1- إذن فهو لم يخرج للشهادة في حياة معاوية ، ولكنه خرج من المدينة إلى مكة بعد هلاك معاوية وبعدما أجبره والي المدينة على بيعة يزيد ، و هو في مكة لم يخرج كذلك ولكنه حاول التعرف على طبيعة الوضع في العراق خاصة وفي دار الخلافة عامة .
2- إذن فهو لم يخرج للشهادة حتى ذلك الوقت ، ولكنه خرج إلى الكوفة بعد ان وصلته أخبار موثقة من مبعوثه مسلم بن عقيل ، وقد خرج من مكة بعدما أحس فيها بالخطر الجدي من مرتزقة يزيد ، فتحرك نحو الكوفة لكي يساهم ويشارك شعبها في تأسيس قواعد جديدة للعدل والإصلاح .
3- إذن فهو لم يخرج للشهادة حتى ذلك الوقت ، بل وحتى بعدما ألتقى بالحر بن يزيد الرياحي ، ومادار بينهما من حوار حول السلام و ترك الخصومة والحرب ، وهذا المبدأ في نهجه أوضح من الشمس .
4- إذن فهو لم يخرج للشهادة حتى ذلك الوقت ، نعم : إنه بعدما أضطره العدو للدفاع عن نفسه يوم العاشر من المحرم حين أغلق العدو كل منافذ السلام ، دخل الحسين – ع - الحرب مضطراً كارهاً .
وطبيعي إنه في مثل هذه الحالة سيخوض الحرب بكل تبعاتها حتى وإن استشهد هو وأصحابه فيها !!
وعلى هذا الإعتبار أتضح ان مضمون الرواية من الناحية الفعلية ينطبق على يوم عاشورا ،
وهو كما ترى تأكيد من وجه ، على ان الإمام الحسين لم يخرج للشهادة مطلقاً ، وإنما كانت الحالة الدفاعية للإمام (ع) حالة إلزامية قهرية مفروضة لا مفر منها ، وقد وقع الحسين فيها شهيداً .
وبإختصار تبين لنا مما سلف ان عمل الإمام الحسين ، الذي وقع خارجاً عن مضمون الروايتين [ أعني يوم عاشوراء ] ينفي دعوى الإستفادة منهما في إثبات أن الله سبحانه أعطى أوامره للحسين - ع - ليخرج بوقته هذا لكي يستشهد هو وأصحابه في كربلاء ...
وكما نعلم من القواعد الأصولية الأولية : - إن المطلق يظل على إطلاقه مع عدم وجود المخصص له في البين - ، ومن هنا تخرج هاتين الروايتين من الإعتبار وتنتفي بذلك العلة القهرية المُدعاة فيهما .
قصة نزول الملائكة :
روى ابو جعفر الطبري في كتاب - دلائل الإمامة - رواية عن سفيان بن وكيع عن الأعمش قال : -
قال لي ابو محمد الواقدي وزرارة بن حلج ، لقينا الحسين قبل أن يخرج إلى العراق بثلاث ليالٍ فأخبرناه بضُعف الناس في الكوفة ، وإن قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبواب السماء ونزل من الملائكة عدد لا يحصيهم إلا الله !!! وقال : لولا تقارب الأشياء ، وحبوط الأجر ، لقاتلتهم بهؤلاء ، ولكني أعلم ان هناك مصرعي و مصارع أصحابي لا ينجو منهم إلا ولدي علي !!! - الطبري أبوجعفر دلائل الأمامة ص 74 .
ولكي نوضح معاني بعض الألفاظ التي وردت في هذه الرواية نقول مايلي :
إن لفظ أو كلمة - مصرع - تستعمل في المعجم بمعنى - محل القتل - يقول علماء اللغة : إن مصارع القوم حيث قتلوا - .
أما كلمة - أصحاب - في الرواية فلها معنيان : -
1 – إما ان تكون بالمعنى العام .
2 - أو ان تكون بالمعنى الخاص .
فهي إن جاءت بالمعنى الخاص فتعني أولاد الفرد دون غلمانه ، و لكنها إن جاءت بالمعنى العام فتعني اولاد الفرد مع غلمانه .
ويبدو إنها جاءت هنا بالمعنى العام لأن الحسين فيها قد أستثنى ولده علياً من أصحابه ، وعليه فتكون لفظة أو كلمة - أصحاب - شاملة للأولاد والغلمان .
قد يظن البعض للوهلة الأولى من هذه الرواية ، إن الحسين إنما تحرك من مكة لا لشيء إلاّ لكي يُقتل !! , وهذا الظن باطل ومُخل بعقيدة الحسين وفكره لأنه مجرد وهم وخيال نشأ في فترة الإنقباض ، التي لم يكن فيها يعتمد على العقل أو العلم بل هو مخيال للتنابذ وتوكيد للذات لا غير هذا من جانب ، ومن جانب آخر فان هذه الرواية لايعتمد عليها في التأسيس على إن الحسين عازم على قتل نفسه ومن معه ، لعدة أسباب منها ما يلي :
السبب الأول : لأن فيها - سفيان بن وكيع - المتهم بالكذب كما عن ميزان الأعتدال للذهبي ج2 ص 173 .
السبب الثاني : هو إن لهذه الرواية معارض في المقام وهو خبر - لوط بن يحيى- عن عقبة بن بشير الأسدي عن الإمام الباقر قال :
[ رفع الحسين - ع - يديه بالدعاء عندما قتُل ولده الرضيع ، وقال : - رب أن تك حبست عنا النصر من السماء فأجعل ذلك لما هو خير ، و انتقم لنا من هؤلاء الظالمين ] - تاريخ الطبري ج4 ص 342 ، المفيد: الأرشاد ص 221 - .
فهذا الخبر ينفي نزول الإمداد السماوي على الحسين ، هذا في حين تتحدث الرواية التي هي مورد بحثنا عن - نزول الملائكة - على الحسين - ع - ، وهذا على ماهو ظاهر تعارض صريح بين الروايتين .
السبب الثالث : هو إن هذه الرواية تقول : إنه لم يبق من أصحاب الإمام (ع) إلا الإمام السجاد ، مع العلم ان التواريخ المتعددة تذكر لنا إنه قد بقي من أصحاب الحسين ومن أهل بيته غير ولده علياً نذكر منهم مايلي :
1 - حسن بن الحسن - الطبري ج4 ص 359 - .
2 - عمرو بن الحسن - الطبري ج4 ص 359 - .
3 - زيد بن الحسن - اللهوف ص 129 , مقاتل الطالبيين ص 119 - .
4 - غلام عبدالرحمن بن عبد ربه الأنصاري - الطبري ج ص 321 - .
5 - الضحاك بن عبدالله المشرقي - الطبري ج4 ص 339-.
6 - عقبة بن سمعان - الطبري ج4 ص 349 - .
7 - مرقع بن ثمامة الأسدي - الطبري ج4 ص 347 - .
8 - مسلم بن رباح مولى علي - تهذيب ابن عساكر ج4 ص338 - .
9 - قاسم بن عبدالله بن جعفر - سيرالنبلاء ج3 ص 203 -.
10 - محمد بن عقيل - سيرالنبلاء ج3 ص 203 - .
ولو إن هناك رأيُ يقول بان - زيد بن الحسن - لم يشارك في وقعة كربلاء أصلاً ، وحتى لو تحقق ذلك الرأي وبقي عندنا ثمانية رجال ، فإن ذلك كافِ في رد الخبر وإبطاله من رأس .
بل حتى ولو كان الباقون هم نصف ذلك العدد ، فإن ذلك يثبت بأن عبارة : - لا ينجو منهم إلا ولدي علي - غير صحيحة .
بعد الذي ذكرناه من الأسباب الموضوعية والتاريخية الثلاثة في البحث حول الخبر المتقدم ، يتبين لنا بان الخبر المزعوم خبر كاذب ولا يمكن الإعتماد عليه ، أضف إلى ما تقدم فإن معنى الخبر لا يتناسب ومقام الإمام - ع - حتى يمكن نسبته إليه .
[ لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء ] الظاهر من هذه الجملة بالذات إن الحسين لا يعتبر الأجر موجوداً بالفعل !!!!
وهنا يحق لنا ان نسأل : هل إن الإمام - ع - يرفض حقاً - نزول الملائكة - من أجله وفي سبيل مساعدته في صراعه المسلح والمساهمة معه في بناء دولة العدل والقانون ؟ .
وهل يمكن إن يعتبر الحسين نزول الملائكة أجراً ضائعا ؟؟؟.
لاريب إنه لا يستطيع احدُ الجواب على هذه الأسئلة سوى راوي الخبر - سفيان بن وكيع - المتهم بالكذب .
*[ نقل صاحب اللهوف - عبد الكريم بن طاووس - : هذا الرواية في كتابه ص 54 ، في حين إنه ذكر في ص 128 و 129 ، إن حسن بن الحسن ، وزيد بن الحسن ، وعمروبن الحسن ، ممن لم يستشهدوا يوم عاشوراء ، وهذا كما ترى تناقض واضح في أصل الرواية وفي كتاب واحد ! ! ] .
يتبع
[ بحث موضوعي في كتاب : إشكالية الخطاب في القراءة التاريخية لوقعة كربلاء - للشيخ الركابي