Saturday, November 10. 2007
البحث الأول :
من بين كل ما يمكن تصوره في العالم , بل وبوجه عام خارج العالم ليس ثمة ما يمكن أعتباره خيراً دون تحفط إن لم يكن الإرادة الخيرة .
بهذه العبارة( الإرادة الخيرة ) أستهل الركابي بحث العقل والإخلاق في كتابه رسالة في التوحيد والسياسة والذي يناقش فيه , مبدأ الأخلاقية عند كانت , في كتابه نقد العقل العملي , لأنها ظلت إحدى الصيغ الدالة اعظم دلالة على الطريقة التي كان يتصور بها , فهو ينكر كل كيفية أخلاقية على ما لا يعتمد أعتماداً مباشراً ومطلقاً على الكائن العاقل , أو أن الكائن العاقل لايمكن بنفسه أن يكون صاحب أو سيد القاعدة التي تتحدد بمقتضاها الإرادة الخيرة ,
يقول الركابي : أن هذا التصور للاخلاقية مستمد يقيناً عند (كانت) من ميوله المسيحية ويمكن للمرء أن يرى بوجه خاص في كتابه عن الدين في حدود العقل البسيط كيف ان هذا التصور ملتصق صراحة بروح النزعة المسيحية ,
والتي تطالب قبل كل شئ بنقاء القلب أو النية ويؤكد ان الحياة هي من حيث الجوهر حياة الباطن .
وهي متعلقة في تهذيب النفس ,
وأن الغاية في تهذيب النفس عن الرذائل وتكميلها بالفضائل هو الوصول إلى الخير والسعادة .
والحكماء القدامى : يقسمون ( الخير ) إلى قسمين مطلق ومضاف , والمطلق هو المقصود من أيجاد الكل , أذ الكل يتشوقه وهو غاية الغايات ,
والمضاف ما يتوصل به إلى المطلق ,
والسعادة : هو وصول كل شخص بحركته الأرادية النفسانية إلى كماله الكامن في جبلته وعلى هذا يكون الفرق بين الخير والسعادة , هو ان الخير لايختلف بالنسبة إلى الأشخاص , والسعادة , تختلف بالقياس اليهم .
يقول أرسطو : أن الخير المطلق هو الكمالات النفسية , والمضاف ما يكون معداً لتحصيلها كالتعلم والصحة , أو نافعاً فيه كالمكنة والثروة .
ولاريب أن أشير إلى قول بعض الحكماء القدامى عن السعادة إذ يقول هي راجعة إلى النفوس فقط . وليس للبدن فيها من حظ . فحصروها في الأخلاق الفاضلة .
وأحتجوا على ذلك بأن حقيقة الأنسان هي النفس الناطقة , والبدن هو آلة لها .
فلا يكون ما يعد كمالاً له سعادة للأنسان , بينما يرى ارسطوا
ومن تابعه راجعة إلى الشخص حيث التركيب , سواء علقت بنفسه أو بدنه , لأن كل ما يلائم جزءً من شخص معين فهو سعادة جزئية إليه .
ولعل دور الميتافيزيقيا والتجربة هما بالأساس العوامل التي أنشأت لدى قطاعات واسعة من الناس شعور على ترابط جدلي أزلي وجد بين الضرورتين فالعقل إنما حكم على أستنباط الدور من الميتافيزيقيا , فكأنما وضع نظام للأخلاق أكتسابية , وهي بدورها فاعل قوي مؤثر في الإرادة محرك بأتجاه النزعة الأخلاقية والشعور الفلسفي تجاه مبادئ الأخلاق ,
ويستطرد الركابي : ويقول أما التجربة فإنما تضفي على تلك النزعة مدى الإيجابية أو السلبية ومدى الشمولية والجزئية لأنها بالفعل متاثرة بنفس الفاعلية وبقوة الإتجاه الفلسفي الذي تمده الماورائية بقوة تجعل التجربة تميل على مدى الضرورة القصوى في إيجابية معلنة ,
ولكن ليس شئ من الأخلاق طبيعياً ولامخالفاً للطبيعة , بل النفس بالنظر إلى ذاتها قابلة للأتصاف بكل من طرفي التضاد , إما بسهولة أن كان موافقاً للمزاج , أو بعسر أن كان مخالفاً له فأختلاف الناس في الأخلاق لأختلافهم في الأختيار والمزاولة لأسباب خارجة .
ولكن الركابي هنا يضع عدة حاجات يراها ضرورية تبادر إلى الذهن حال النظر إليها فعلى سبيل المثال يقول :
هل الأخلاق جاءت بفعل عوامل غامضة او مبهمة أم انها جاءت من ما ورائية متفائلة ؟
وهل انها جاءت بقوة الطبيعة وفعلها ومبادئها العامة ؟
أم أنها جاءت كنتيجة حتمية لتصورات العقل عن الكون والحياة ؟
وهنا يجيب ويربط بداهة كل قانون نحسه أو ندركه من خلال المشاهدة او العوامل التجريبية , ولايبعده كثيراً عن قوانين العلة والمعلول , ويقول أن الإتجاه الذي نرجحه إنما يلزمنا بالقول : أن الآخلاق متضمنة لقانون العلية ومشمول بها .
ولكن الأخلاق عبارة عن ملكة للنفس مقتضية لصدور الأفعال بسهولة من دون احتياج إلى فكر ورؤية , وان كل خلق قابل للتغيير وكل قابل للتغيير ليس طبيعياً فينتج لاشئ من الخلق بطبيعي والكبرى بديهية , والصغرى وجدانية , فإنا نجد أن الشرير يصير بمصاحبته الخير خيراً , والخير بمجالسته الشرير , ونرى أن التأديب في السياسات فيه أثر عظيم في زوال الأخلاق ,
ولما جاء بالقول ( بٌعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وهذا ورد , بمنع كلية الصغرى , فإنا نشاهد أن بعض الأخلاق عند بعض الأشخاص غير قابل للتبديل ( لا) سيما مايتعلق بالقوة النظرية , كالحدس والتحفظ , وجودة الذهن , وحسن التعقل , لأن الأخلاق بأسرها تابعة للمزاج . والمزاج لايتبدل , وهذا يؤيده قول منسوب للنبي (ص) ( إذا سمعتم أن جبلاً زال عن مكانة فصدقوه , وإذا سمعتم برجل زال عن خُلقه فلاتصدقوه , فأنه سيعود إلى ماجُبل عليه )
ويقول أرسطوا : يمكن صيرورة الأشرار أخيار بالتأديب إلا أن هذا ليس كلياً , فإنه ربما أثر في بعضهم بالزوال وفي بعضهم بالتقليل وربما لم يؤثر أصلاً .
ونعود إلى أجابة الركابي : التي ستكون جواباً على الشق الأول من السؤال الأول بالنفي , لأنه قطعاً يرى عدم تحمل وجود نظام مترابط لقوانين وحاجات أجتماعية ونفسية , وهذا يأتي من أثر عوامل مبهمة وغامضة لأن ما لايدرك بالذات لا يؤثر بالنظام ولأن النظام تجري فيه الإرادة والحرية بشكل متناسب ,
ويقول : يقتضي أن لا نحيل الإجابة على ما نؤمن به من ربط وضبط تامين في حياتنا إلى عوامل وأمور نجلها بحيث تكون علة الأنشاء لما نفعل ونقوم به علة سلبية .
فالإيمان بها ممتنع لتناقضه ومبادئ الإيمان الأولية وحاجات العقل الصريح في الحكم على المعلول الإيجابي من علته .
ولهذا فالعوامل المبهمة والغامضة لا تكون لدينا علة منشئة لنظام العلاقات الأخلاقية واسسها العلمية مما يوحي بالنتيجة ان الرفض لم يكن لذات الغموض وحده بل إلى علة الغموض وشرط الفعل القادم منه واثر المعلول الإيجابي الذي علة منه ,
لكن هنا يقتضي القول أن ما نقصده بالماورائية المتفائلة هو عالم النظم والتكوينات الطبيعية لما وراء أحساسنا بالظواهر ,
وهذا يستلزم بالقول أن ما تمثله إنما هو مثالية لما وراء الطبيعة والميتافيزيقيا , والقول فيها يكون على أساس إيماننا المسبق بالفكرة لذلك العالم ,
أي بأن الفكر إنما ينشأ من الوعي , والوعي ليس حالة للإدراك بما هو من علة ناقصة ,
لأنه يستوجب الفعل بالطبيعة لكنما هو الوعي بالمطلق ومنه أي بما هو علة كلية تترشح عنها جميع الحركات والتصرفات , مما تمد الطبيعة بنظام تام يمثل حركة الحياة على أن لا تغلب الرغبة والعاطفة على العقل .
يقول النراقي : ولكن الرغبة العقلية هي الأقوى لكونها فعلية ذاتية غير زائلة بأختلاف الأحوال , وغيرها من اللذات الحسية أنفعالية عرضية منفعلة زائلة , وهي في مبدأ الحال مرغوبة عند الطبيعة ,وتتزايد بتزايد القوة الحيوانية , وتتضعف بضعفها إلى أن تنتفي بالمرة , ويظهر قبحها عند العقل .
وأما العقلية فهي في البداية منتفية لأن أدراكها لايحصل إلا للنفوس الزكية المتحلة بالأخلاق المرضية ( وأنك لعلى خلقٍ عظيم ) وبعد حصولها يظهر حسنها وشرفها , وتتزايد بتزايد القوة العقلية إلى أن ينتهي إلى أقصى المراتب , ولايكون نقص ولازوال .
والركابي يقول : إذ كان مايؤدي إليه هو الأحساس بالمجهول دون المعلوم وما يفيدنا هو المعرفة بالمعلوم بما هو علة لكنها ليست تجريبية تنظم الحياة للفرد وللجماعة وللوعي المشترك بينهما وهو تنظيم لا يشمل الحركة الكلية الخالصة فيهما , بل يتبع ذلك تنظيم العلاقات الجدلية التامة المقصودة التي هي حركة الجزء تجاه الكل في عالمي الطبيعة وما ورائها أي ان نفس القانون الأخلاقي وفلسفته إنما تجري عليه ذات الإيمان الذي يوحي بأنه إنما يرتب نظاماً للسعادة والفضيلة التامتين ,
ولأنه لايجري مع الفرد في رغبته المجردة بحيث يجعلها فوق الضوابط البيولوجية والإجتماعية ,
وهذا أرى إنه يرتب شرط الفعل وذاته ولا يقسمهما إلى علة ومعلول تسلسلي يؤدي إلى لا نهاية سلبية , لأنه قادم بفعل أثر العقل الكلي الذي هو فعال ,
وفعله تمام نظام الضبط في العلاقات والإحكام بحيث لا تكون الحاجة إلا معلولاً له بما هو تنظيم ذاتي مستديم , يوحي بأنه مدون لأنه يمثل شرط العلاقة الأولية والبعدية ,
والركابي يرى : لا تناقض بين الباعث والمبعوث أو المحمول والقضية ما دام الموضوع واحداً والحكم عليه واحد فهو ثابت لا يتغير أي لا تتبدل وسائله بالوصول إلى هدفه . فلا غايات تبريرية قد تقال على أساس أنها مبدأ مكتسب من فعل الحرية إذ أنها لا تشذ عنه لأنها معلول كلي تام هو مقتضى نفس التشريع الأخلاقي لمرحلة القبول والإلزام ,
بحيث لايتم إلا بالوعي والإدراك لأنهما يدفعان للفعل والتأثير والتأثر وليس هو من باب المقابلة إنما هو الفعل الملزم الإيجابي ,
الذي تدركه المشاعر النفسية وتدفع إليه قوانين التكوين بحيث تكون له شعور متفائل هو تمام القانون الذي يمثل العلاقات الأخلاقية العملية والسلوكية الواجبة الإتباع إذ هي ليست نسبية ولكنها في البعض ليست مطلقة أيضاً مع توفر الدافع وأنتفاء المانع ,
وعلى هذا فأن بعض الحكماء القدامى يقولون : أن الإنسان منقسم إلى سر وعلن , وروح وبدن , ولكل منهما منافيات وملائمات , وآلام ولذات ومهلكات ومنجيات . ومنافيات البدن وآلامه هي الأمراض الجسمانية والمتكفل لبيان تفاصيل هذه الأمراض هو علم الطب .
ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق التي تهلكه وتشقيه , والمتكفل في هذة الرذائل ومعالجتها هو ( علم الأخلاق)
وهذا الإيمان يدفعنا للقول بأن الله سبحانه وتعالى إنما رتب للعالم أصولاً وأسس أخلاقية عامة ليست بالحاجات المؤقتة والضرورية في ظرفها , بل أنها حاجة دائمة وضرورة عرفية ثابتة فالأقرار بها إقرار بالتشريع منه فقوله تعالى : ( إن أكرمكم
عند الله أتقاكم )
وهنا يقول الركابي في كتابه الأسس السياسية والمذهب الواقعي :
هي ليست حاجة تحددها ضرورات ظرفية معينة ومحدودة في زمان ومكان إنما هي قانون يرتب العلاقة بفعلها والأثار المكتسبة منها على الأصعدة كافة ولهذا فهي إيجاب إيجاب . على المستويين العرفي و الإجتماعي الخالصين .
بمعنى أتم أنها تترشح من نظام الأزلية الكامل الذي تصبح معه فلسفة الأخلاق قائمة على جدلية العلل الموضوعية إنشاءً وجعلاً .
وهي إذ تكون كذلك إنما تثبت ما قلناه بدواً أن العلة التامة صانعة للسعادة ولأنها إيجابية بالذات لذلك فعملها وجودي يترشح من نظام غالب العلة يرتب للحياة نظام الحركة الأخلاقية الكلية ,
وهنا نود أن نذكر جانب العدالة في الأخلاق وفلسفة الأخلاق ونشير إلى آراء بعض من العلماء والحكماء القدامى ونقول :
العدالة أشرف الفضائل وأفضلها , أذ عُرفت أنها كل الفضائل أو ما يلزمها ,
كما أن الجور كل الرذائل أو ما يوجبها ,
لأنها هيئة نفسانية يقتدر بها على تعديل الصفات والأفعال , ورد الزائد والناقص إلى الوسط , وإنكسار سورة التخالف بين القوى المتعادية , بحيث يمتزج الكل وتتحقق بينها مناسبة وأتحاد تحدث في النفس فضيلة واحدة تقتضي حصول فعل متوسط بين أفعالها المتخالفة ,
وذلك كما تحصل من حصول الأمتزاج والوحدة بين الأشياء المتخالفة صورة وحدانية يصدر عنها فعل متوسط بين أفعالها المتخالفة , فجميع الفضائل مترتبة على العدالة , ولذا قال أفلاطون :
( العدالة إذا حصلت للإنسان أشرق بها كل واحد من أجزاء نفسه , ويستضئ بعضها من بعض , فتنتهض النفس حينئذ لفعلها الخاص على أفضل ما يكون , فيحصل لها غاية القرب إلى مبدعها سبحانه )
ومن خواص العدالة وفضيلتها أنها أقرب الصفات إلى الوحدة , وشأنها أخراج الواحد من الكثرات , والتأليف بين المتباينات , والتسوية بين المختلفات , ورد الأشياء من القلة والكثرة والنقصان والزيادة ,
وفي غيرها توجد أطراف متخالفة متكاثره , ولاريب أن الوحدة أشرف من الكثرة , وكلما كان الشئ أقرب إليها يكون أفضل وأكمل وأبقى وأدوم , ومن تطرق البطلان والفساد أبعد ,
فالمتخالفات أذا حصل بينها مناسبة وأتحاد وحصلت منها هيئة وحدانية صارت أكمل مما كان ,
ولذا قيل : كمال كل صفة أن يقارب ضدها , وكمال كل شخص أن يتصف بالصفات المتقابلة بجعلها متناسبة متسالمة , وتأثير الأشعار الموزونة والنغمات والأيقاعات المتناسبة , وجذب الصور الجميلة للنفوس , انما هو لوحدة التناسب ,
|