لن يغادر وجه الدكتاتور المنطقة... ها هي السنياريوهات تستعيده تحت مسميات القائد الوطني ولكنه في كل حال أرحم وأقل تعاسة وبؤساً من حال اليوم الذي تتمزق فيه بقايا الأوطان ويُقتل فيه المواطنون على الهوية وتختطف فيه الوزارات بكاملها وتهاجر الملايين بعده إلى المجهول.
بعد أكثر من أربع سنوات من المحاولات المضنية لبناء نظام عراقي قادر على الحياة ويستجيب للمشروع الأمريكي. لم تعد الخيارات المطروحة الآن سوى عودة للبحث عن وجه الدكتاتور الوطني الذي يمكن أن يحكم العراق بطريقة تنقذ ما يمكن إنقاذه. هذه خلاصة أهم ما جاء في آخر تقرير أمريكي يقدم ثلاثة سيناريوهات للحالة العراقية في الأيام القادمة.
لا المراهنة على العملية السياسية الحالية ممكنة، ولا البحث عن اجماع وطني في وسط حالة الصراع والتقاتل والقتل وعلى الهوية وهدم كل ملمح بناء يمكن أن يقود إلى معادلة سياسية قادرة على الحياة.
الإدارة الأمريكية تحذر رئيس الوزراء من التعاون مع إيران، ورئيس الوزراء يبحث عن صيغة جبهة المعتدلين بالتحالف مع كردستان العراق والمجلس الأعلى الإسلامي بقيادة الحكيم.. جبهة التوافق تعلق نشاطها في الحكومة وزعيمها عدنان الديلمي يستغيث بالعرب لمواجهة حرب الإبادة التي يتعرض لها السنة العراقيون من قبل ميليشيات شيعية مدعومة من إيران... والقائمة الوطنية العراقية بقيادة علاوي خارج اللعبة السياسية والشيخ حارث الضاري يقدم عرضاً للأمريكان للتعاون معه.
الحالة العراقية تبدو اليوم مستعصية، لا خطط أمن بغداد وغيرها أثمرت عن محاصرة الإرهاب اليومي وعمليات القتل، ولا القتل على الهوية الطائفية توقف أو حوصرت ميليشيات الذبح الطائفي.. وكل اللي يحدث لعب على ورقة الزمن الضائع. والولايات المتحدة تعيش أسوأ أيامها في العراق.
الحالة العراقية اليوم تعبير عن الغباء السياسي الأمريكي في إدارة عراق ما بعد الغزو.. الذي لم تحصد من مأزقه سوى الفشل في تحقيق الحد الأدنى من مطامحها، ولا تبدو في الأفق أي ملامح حالة توافق يمكن التعويل عليها. لا مستفيد اليوم من الوضع العراقي المأسوي سوى إيران التي تعتبر الورقة العراقية هي الورقة الرابحة والضمانة الأكيدة لمواصلة مشروعها النووي وتمكين النظام في مواجهة التهديدات الأمريكية... وإسرائيل التي ضمنت إلى حد بعيد تحييد العراق العربي عن معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي. وها هي المنطقة قد أدخلت نفق أزمة طويلة... من العراق إلى لبنان إلى فلسطين وهو ما سيحقق لإسرائيل في المدى المنظور اللعب على حبال الأزمات دون أن تقدم أي تنازلات ضمن ما يعرف بالحل النهائي للقضية الفلسطينية.
وسط هذه الحالة تتحرك مراكز البحث والدراسات لتقدم السيناريوهات المحتملة لمستقبل عراق ما بعد الانسحاب الأمريكي. في آخر تقرير أصدره مركز الشؤون الدولية التابع لجامعة نيويورك تظهر ثلاثة سيناريوهات.. السيناريو الأول يقتضي ظهور قائد وطني من وسط الفوضى التي تسود البلاد. يكون مستقلاً عن كل اللاعبين الاقليميين والدوليين.. من الولايات المتحدة الأمريكية إلى إيران إلى التنظيمات النشطة بالعراق إلى الحكومات العربية. حيث يقوم هذا القائد المفترض بتأسيس مصداقيته بوصفه الشخص الذي يوحد البلاد بجميع طوائفها وقومياتها. وبسبب فشل الحكومات التي تعاقبت على العراق منذ سقوط النظام السابق وتداعيات الغزو الأمريكي سيقنع هذا القائد أعداداً كبيرة من العراقيين باستبدال الديمقراطية والحريات بالدكتاتورية.
أما السيناريو الثاني فهو يتخلص كما جاء في التقرير باحتواء الفوضى في العراق والحيلولة دون انتشارها في منطقة الشرق الأوسط باقناع دول الجوار بأن انهيار العراق الدولة يعني انتشار عدوى الأفكار الثورية - كما جاء في التقرير - وحالة عدم الاستقرار التي ستؤدي إلى تهديد هذه الأنظمة التي عليها العمل سوية لتجنب انتشار حالة الفوضى من العراق إلى أراضيها. أما السيناريو الثالث فهو يتمثل في عراق غارق في فوضى حرب أهلية تطال آثارها دول الجوار بطوفان من اللاجئين وتنامي نفوذ الجماعات الارهابية وتهديدها وتآمر الدول على بعضها البعض لتقوض كل دولة استقرار الأخرى.
السيناريو الثاني والثالث لا جديد فيهما، فهو ما تشير إليه الإدارة الأمريكية باستمرار من خطورة الوضع والضغط على دول الجوار للتعاون معها لإنقاذ العملية السياسية في العراق.
وهذا ما لم يتحقق لأن الولايات المتحدة الأمريكية هي المسؤولة الوحيدة عما آل إليه الوضع في العراق.. وهي التي هندست العملية السياسية ووضعت الحكومة بيد القوى التي تخالفت معها قبل غزو العراق. وهي التي تبنت نظرية الفوضى الخلاقة.. التي أصبحت اليوم كابوساً مرعباً يهدد كل مكتسبات الغزو ان كان ثمة مكتسبات.
اللافت في هذا التقرير هو استعادة الدكتاتور الوطني كحل يمكن اعتماده في آخر المطاف من أجل انقاذ ما يمكن إنقاذه وضمان مصالح القوى الكبرى في المنطقة.
يبدو ان هذا السيناريو أكثر السيناريوهات أهمية أو احتمالية أو امكانية، ويبدو ان السيناريوهات الأخرى سواء التي تعتمد على العملية السياسية الحالية أو تلك التي تعلن ان العراق سيدخل حالة الفوضى الشاملة بعد انسحاب القوات الأمريكية هو تحصيل حاصل. لا توجد أي امكانية اليوم لدعم دول الجوار لعملية سياسية لا تراها تحقق ذلك التوازن في مكونات الشعب العراقي حتى الحد الأدنى المطلوب، ولا يمكن دعم عملية سياسية في ظل حالة الغزو الأمريكي... كما لا ينتظر في وسط هذه الحالة العراقية الغارقة منذ أربع سنوات في مسلسل التدمير والتفجير والتهجير القسري ان تجد دول جوار أدنى استعداد لدعم حكومة تعرف توجهاتها وتحالفاتها التي تميل لصالح الكفة الإيرانية التي باتت الرقم الأكثر تأثيراً في توجيه الحالة العراقية اليوم.
سيكون حتماً استعادة وجه الدكتاتور الوطني هو الأكثر احتمالية إذا ما تم توفير تلك المقومات التي تنبئ عن امكانية ظهور هذا الدكتور وقدرته على قمع التناقضات في الساحة العراقية ومقاومة الجماعات المتطرفة وتوفير الحد الأدنى لوحدة العراق وضبط تلك العلاقات مع إيران أو مع دول الجوار.
من أين سيظهر هذا الدكتاتور الوطني؟. حتماً لن يظهر سوى من خلال مؤسسة الجيش التي تبدو اليوم مشلولة ومعطلة وغير منضبطة وغير قادرة على فرز تلك الشخصية القيادية التي تقوى على أن تقدم نفسها في لحظة حاسمة كمنقذ لحالة عراقية تتدهور يوماً بعد آخر. وها هي الإدارة الأمريكية تعض اصابع الندم على حل الجيش العراقي على يد الحاكم الأمريكي بريمر.. قد يبدو هذا السيناريو صعباً اليوم، إلا انه ليس مستحيلاً إذا ما تم خلال الشهور القادمة التركيز على مهمة بناء قوات قادرة على أن تستجيب لشخصية قيادية.. وعليه سيكون من المحتمل أن تصبح مؤسسة الجيش هي المؤسسة الوحيدة القادرة على تقديم القاعدة المناسبة لبروز تلك الشخصية القيادية من داخل مؤسستها وبدعم غير معلن من الولايات المتحدة الأمريكية.
تشير الدراسة التي وضعها خبراء دوليون على رأسهم البروفيسور مايكل أوبهايمر، إلى أن فرض الأمن في العراق سيتطلب من هذا الدكتاتور تعليق الدستور، وبسط القانون والنظام بعد الفوضى التي سادت العراق ودفعت بالملايين من العراقيين للفرار إلى دول الجوار، أو الارتماء في أحضان الجماعات المسلحة أو الميليشيات الطائفية. ولتسهيل مهمة ظهور هذا الدكتاتور - كما تشير الدراسة - يتعين أولاً تحقيق الانسحاب الأمريكي من العراق بشرط أن يتم تعويضها بجيش عراقي يمثل جميع أطياف الشعب العراقي على أن يكون قوياً للحد الذي يمهد الطريق لظهور مثل هذا القائد عن طريق انقلاب عسكري يهيئ المناخ الملائم لعقد علاقة متوازنة مع الولايات المتحدة وباقي دول المنطقة.
هذا الاحتمال يبدو انه الاحتمال الأكثر أهمية لإنقاذ الحالة العراقية على الطريقة الأمريكية بعد أن فشلت ديمقراطية الطوائف في تقديم الحد الأدنى للحفاظ على كيان الدولة العراقية أو تقديم أي مقوم قادر على تعميق فرصة حياة حكومية لا تقوى على الخروج من المنطقة الخضراء في بغداد سوى تحت الحماية الأمريكية.
ها هي الولايات المتحدة عادت لتبحث عن وجه الدكتاتور الوطني القوي في مواجهة أزمة حكومات الطوائف التي صنعتها في بغداد بعيد الغزو. ها هي الولايات المتحدة بعد سنوات الغزو والفوضى والدعم الكبير لحكومات الديمقراطيات الهشة تتراجع لتبحث عن وجه الدكتاتور في العراق من أجل تحقيق الحد من مصالحها في العراق التي تراها مهددة تحت ضغط الفوضى في داخل العراق وتحت ضغط الاحتجاج اليومي في الولايات المتحدة على الاستمرار في سياسة دعم الحكومة القائمة دون تحقيق أي نتائج يمكن التعويل عليها. تعض الولايات المتحدة اليوم اصابع الندم على حل الجيش العراقي الذي كان بإمكانه خلال أسابيع لا بعد سنوات من الفوضى والقتل والتدمير أن يفرز وجه القائد الذي تتطلبه المرحلة. ومن سوء حظ هذا القائد الوطني انه يأتي في زمن سلطات ا لمرجعيات الدينية التي لا يمكن أن يقدم نفسه أيضاً سوى في ظل قبولها ومباركتها وهذا غير منتظر ضمن تداعيات الحالة العراقية اليوم. هذا السيناريو يبدو صعباً لكن لن يكون مستحيلاً إذا ما استمرت الأوضاع في العراق على هذا النحو وتحركت إلى مزيد من التدهور. من سوء حظ هذا القائد انه يرث عراق الطوائف والانتماء الطائفي القاتل وستكون مهمته الأصعب إذا ما رحلت الولايات المتحدة عن العراق وتركته دون جيش قادر على فرز مثل تلك الشخصية الوطنية التي تملك حضوراً قيادياً وامكانات قادرة على استعادة هيبة النظام المفقود. لن تتحقق الفرصة لولادة الدكتاتور الوطني المنتظر في العراق، طالما ظلت العملية السياسية تدور بين المالكي والمجلس الإسلامي الأعلى وميليشيات المهدي.. ولن يتحقق شيء من هذا طالما خفق عقل السياسي الطائفي بالقلق من فرصة بناء جيش قوي قادر على استلام زمام مهمة حفظ الأمن والقضاء على الميليشيات والجماعات المسلحة بسلطة القانون العسكري الذي لا يمكن أن تفرضه حالة توازانات بل تفرضة سلطة عسكرية تحاصر تلك الظاهرة الأبشع في تاريخ المنطقة.
مهمة صعبة حقاً لكنها ليست مستحيلة. إذا كانت تعطي مؤشراً فهو فشل الديمقراطية في بيئة لا توجد فيها اليوم سوى المرجعيات الطائفية وعقل متوقف عن القدرة على فهم ما هو أبعد من مصلحة طائفة. وهي أيضاً تستعيد ذاكرة ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما كان خيار الانقلاب العسكري في المنطقة هو الخيار الذي تبنته القوى الكبرى لقتل فرصة بناء أي نظام وطني حينها.
لن يغادر وجه الدكتاتور المنطقة... ها هي السنياريوهات تستعيده تحت مسميات القائد الوطني ولكنه في كل حال أرحم وأقل تعاسة وبؤساً من حال اليوم الذي تتمزق فيه بقايا الأوطان ويقتل فيه المواطنون على الهوية وتختطف فيه الوزارات بكاملها وتهاجر الملايين بعده إلى المجهول.
قتلى يوم أمس:1
القتلى منذ إعلان نهاية الحرب:35714
قتلى الأمريكان بين الواقع والخيال/أبو سلمان