لا أحد يرفض أن الليبرالية مثلت فتحاً جديداً في دنيا الديمقراطية
والمكاسب
التي حصل عليها الإنسان من جراء مبادئها، لذلك كانت أشبه بشامة الحسن في
الفكر
الإنساني غداة تموضعها في المجتمع الأوروبي، بعد انتصار الثورة البرجوازية
التي
بدأت مهامها على وجه السرعة في تفكيك وإعادة تركيب وتوليف بنية المجتمعات
الأوروبية الواحد تلو الآخر، على طريق توافق العلاقات الاجتماعية مع طابع
الملكية لآلات الإنتاج الحديثة عهدئذ. وتجاذبتها الحياة الفكرية في
المجتمعات الأوروبية بنهم مع الإضافات الثقافية التي حققتها الثورة الصناعية.
وكانت مهمة الفكر والفكر الليبرالي على وجه الخصوص، صياغة مفاهيم ومصطلحات
لهذه
الإضافات التي حققتها الثورة الصناعية والثقافية ومن ثم ملامستها للواقع
الأوروبي، بحيث تمتلك القدرة المنهجية النظرية والإجرائية للتعامل السليم
مع
الظواهر البنائية المستجدة والشروع في تفسيرها.
وإذ تكون الليبرالية بهذا القدر، ولـها هذه القيمة فما هي في عالم
المفاهيم؟
وما هي معانيها من الأمس إلى اليوم؟
هي أولاً وأخيراً من المفاهيم الفكرية التي تفاعل معها بعد أن حسبها على
نفسه
وأدخلها في بنية مفاهيمه ومصطلحاته الفكر الاجتماعي والفلسفي والاقتصادي
والسياسي. وكل علم من هذه العلوم أخذها من زاويته الخاصة زاوية الظواهر
التي
يدرسها. فزاد من منهجه ما تستوجبه هذه الظاهرة ومعانيها من درس وتحليل
وتفسير.
فإذا أخذنا التاريخ الفكري لمعاني الليبرالية في الفكر الاجتماعي ـ
السياسي،
فإننا نجد جوهرها ومعناها الذي أتت به في بداياتها كان "حرر ـ جعل أكثر
حرية"(1): وتعني تحرير وإفراج وإطلاق حرية المبادلات الاقتصادية.
وتعني أيضاً في قاموس اكسفورد"(2) ليبرالي تعني منفتح الذهن، غير متعصب
ومنحاز
للإصلاحات الديمقراطية"
وفي المعجم الفلسفي المختصر، وهو معجم ماركسي، فإن الليبرالية(3) "تمثل
البرنامج الفكري للبرجوازية الفتية التي كانت تناضل ضد بقايا الإقطاع،
وتلعب
دوراً تقدمياً نسبياً، وتدعو لحماية الملكية الخاصة والمنافسة الحرة،
وترسيخ
مبادئ الديمقراطية البرجوازية، وإشاعة الحياة الدستورية.
ويقول عنها د. مراد وهبة في معجمه الفلسفي(4) "الليبرالية هي نظرية سياسية
ترقى
إلى مستوى الإيديولوجيا، إذ تزعم أن الحرية أساس التقدم، فتعارض السلطة
المطلقة، سواء كانت دنيوية أو دينية.
والليبرالية كما جاءت في موسوعة الثقافة السياسية الاجتماعية الاقتصادية.
العسكرية ـ مصطلحات ومفاهيم(5) ـ بأنها عقيدة أو إيديولوجية المجتمع
المدني.
ويستبان من المعاني التي أتينا بها عن الليبرالية بأنها من وجهة نظر
انثروبولوجية شديدة الصلة بالبناء الاجتماعي وأنساقه الاقتصادية
والاجتماعية
والسياسية والثقافية بأن لها غايات ومقاصد تتمثل في تطوير تلك الأنساق بما
يتفق
ويتماثل مع قيم الليبرالية وفلسفتها وأفكارها. ولذلك شكلت مركزاً رئيساً
لعائلة
من المفاهيم والمصطلحات التي تدور في فكر "الحرية"
وهذا بمعنى من معانيه، أن مفهوم الليبرالية خضع للتأويل والتنظير والأدلجة
من
مواقع فكرية وأيديولوجية متباينة، ومختلفة في اتجاهاتها وما تسعى إليه.
إذاً، كان تعدد معنى مفهوم الليبرالية أشبه بالقدر أو الصفة التي لازمته
طوال
تاريخه، الأمر الذي يفرض عليه عدم الثبات أو الاستقرار على معنى واحد،
لأنه في
حقيقته الفكرية والمنهجية ابن الناس / البشر "المجتمع" وابن زمانه
"التاريخ"
وابن مكانه أو بيئته وميدانه "المجال الجغرافي".
وتعددية المفهوم أياً كانت دائرته المنهجية والفكرية يحسب مرة على الثقافة
السياسية، ومرة ثانية يحسب على "الثقافة الاجتماعية"، ومرّة ثالثة يحسب
على
"الثقافة الاقتصادية" ومرة رابعة على "الثقافة الفلسفية".
وفي هذه الحال لا في غيرها. أي على ضوء العلاقة بين "الحرية" و
"الليبرالية"
تظل الحرية أشبه بالحبل السري الذي يربط مفهوم الحرية داخل دائرته
المنهجية
وسبل توظيفه في تحليل الظواهر البنائية.
والتوظيف الذي يتم لمفهوم الليبرالية من قبل الفكر الإنساني في كل دوائره
ومجاله الجغرافي، لابد أن يسيس ويؤول من قبل أولئك الذين بادروا إلى
توظيفه في
مجال تخصصهم، أو الدائرة الفكرية التي تشكل مجال أو حقل بحثهم وتحليلهم
وتفسيرهم.
والمعروف أن التعامل بين أهل الفكر ومفهوم الحرية سينتج لا محالة مواقف
فكرية
واجتماعية وسياسية متباينة في المعنى والاتجاه والتفسير. وفي هذه المواقف
سيتجلى على نحو أو آخر الفكر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الليبرالي.
وتتوقف الدراسة قاصدة ذلك أمام لحظة من لحظات توظيف الفكر الإنساني لمفهوم
الحرية، فنجد أمامنا النظريات والمنظومات الفكرية التي كانت الخلاصة
والمصير
المشترك لتلك اللحظة.
وهذا في معنى من معانيه يؤكد أن مفهوم الليبرالية مر ولا يزال يمر بمراحل،
وفي
كل مرحلة كانت لـه فيها سحنته ومعالمه الخاصة. ومع ذلك فإن مستويات توصيف
هذه
المعالم كانت تختلف أيضاً باختلاف النظرة إلى المفهوم بقوة الخلفيات
الفكرية
التي تحكمه.
ومع ذلك وكما يقول "من بادر" وهو أحد أهم أعلام الفكر الليبرالي. ولـه في
مفهوم
"الليبرالية" ماله من آراء ووجهات نظر وتفسير، أن قاعدة تحديد هذه المراحل
وتأسيسها كان صياغة مفهوم الفرد "في المجتمع الأوروبي".
ونخلص إلى أن الفكر الاجتماعي ـ الأنثروبولوجي بكل مضامينه البنائية أوجد
وأسس
لإشكالية الليبرالية المتحدرة أصلاً من موقف هذا الفكر من مسألة الحرية.
إذاً من المقاربات التي تمت في مسألة "الليبرالية" توالدت الإشكاليات
الخاصة
بكل مقاربة من هذه المقاربات. لذلك يرى بعض من أقدم على بناء مقاربة(6)
فكرية
من مفهوم الليبرالية أنها "من أكثر الموضوعات إثارة للإشكالية. فهي من
ناحية لا
يمكن تحديدها عند نقطة انبثاق معينة زمانياً ومكانياً. ولذا فقد بدأت
الليبرالية كتقليد غير واع بذاته. أو بمعنى آخر، إن الأفكار الليبرالية
المتباينة، المختلفة، عبر التقليد الليبرالي لا يمكن أن تشكل مذهباً
فلسفياً
ومتكاملاً لـه منهجية محددة، تحدد أسس التعامل معه".
وبناء على ما تقدم يمكن القول استناداً إلى الشرعية المنهجية المتعارف
عليها في
العلم الاجتماعي ـ الأنثروبولوجي أن الليبرالية ليست واحدة، وإنما هي
مجموعة من
الليبراليات "إننا أمام ليبراليات" متعددة. تحمل كل ليبرالية منها على حدة،
سماتها المميزة لهاعن سائر الليبراليات الأخرى.<ويظهر تحليل المضمون، وهو من المناهج المهمة في العلم الأنثروبولوجي، التمت عن بعض الكتب التي درست مفهوم الحرية ـ الليبرالية أن طابع العصر في أحواله الاجتماعية وناسه وفكره شديد الصلة بتنوع تلك الإشكاليات، وتعدد الآراء ووجهات النظر. على قاعدة أن الماء الذي يجري في النهر في لحظة محددة معينة ليس على الإطلاق هو نفس الماء الذي يأتي في لحظة أخرى، وهكذا دواليك. ونخلص إلى أن المقاربة في حل من الغوص والتفصيل في مفهوم الحرية الليبرالية في الفكر الليبرالي. لأن تلك المهمة لها، أهلها وخاصة من أخذ على عاتقه تأريخ الفكر الليبرالي: النشأة والتكوين والنظريات والتوظيف والتفسير(7): ونحن هنا لسنا بصدد حصر لهذه التعريفات الكثيرة والمتنوعة، لكننا نريد إيضاحاً لهذا المفهوم في سياقه الليبرالي هذا السياق الذي يتضمن آلية عمل أمكن من خلالها طرح المفهوم، وفق مقتضيات الظروف والأحوال، وإن شئنا القول، وفق دواعي واقعية ـ تلقائية ـ بالمعنى الليبرالي ـ فرضتها ظروف معينة ودوافع إنسانية. وأيضاً تلبية لحاجة إيديولوجية ـ ليبرالية ومادامت الليبرالية على هذا الحال. أي بنت ظروفها ودوافعها وطرق التفكير فيها،فإنها لا يمكن أن تكون أو تشكل مذهباً سياسياً متحيزاً أو مغلقاً. إنها مفتوحة على الأفكار والفلسفات(8 ولا شك أن من أهم مصادر التباين والاختلاف في الليبرالية ومواقفها الملموسةأنها ليست مذهباً مغلقاً، وإنما تجسيد لمقولة النظام الفكري المفتوح والليبرالية شأنها شأن الكثير من مفاهيم الثقافة السياسية والفكرية تنازعتها تيارات عدة يمكن استيعابها وتمثلا في التيارات الثلاثة الآتي(9):أولاً ـ التيار المحافظ الذي يرجعه الفكر الليبرالي إلى كل من هوبز وآدم سميث ولوك وهيوم.ثانياً ـ التيار الاجتماعي وتكونت لحظته الفكرية عند كل من جون ستيوارت مل،وتوماس جرين وهوبهاوس وديوني.ثالثاً ـ التيار اليساري، وهو التيار الذي تلاقت فيه الأفكار اليسارية التي كانت وقت ذاك تستقطب دعاة العدل الاجتماعي والمساواة بين الناس. زد على ذلك أصحاب نظريات العدالة في التوزيع. وأشهر من مثل هذا التيار: ولز. آلان رينو ـ بول ريكو. ويفيد البحث والتحليل في تلك التيارات واتجاهاتها أننا أمام ليبرالية سياسية، وليبرالية اقتصادية.الليبرالية السياسية مثلت بجدارة من قبل المفكر الليبرالي رولز (rouls)، في حين أن الليبرالية الاقتصادية أشهرت على يد كينز الذي خطا بها خطوات إلى الأمام. وإذا شئت البحث عن دواعي التوصيف بين ليبرالية سياسيّة وليبرالية اقتصادية، فإنك تجد أن تنوع التعامل مع مصطلح كل من الفرد والجماعة داخل البناء
الاجتماعي، ودورهما في تفعيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هو الذي حدا بهؤلاء إلى عملية الفرز والقول بليبرالية سياسية واقتصادية وتستوقفنا الأفكار السابقة أمام سؤال لـه حضوره واستمراره في الفكر الليبرالي ومنظومته الفكرية، ويشكل موضوعه الأساس مفهوم الفرد والفردية وهو هل الفردية مذهب لـه جاذبيته ومكانته في الفكر الليبرالي، أم أنه مجرد نزعة فكرية ليبرالية خامرت وساورت من قال بها وأتى عليها في شرحه وتفسيره ومناصرته لليبرالية؟ويفند السؤال نفسه بابتعاده عن المجانبة الفكرية والتزامه باستحقاقات ماقيل عن مذهب الفردية في الفكر الأوروبي، بأنه كان ولازال حديث العلم الاجتماعي ـ الأنثروبولوجي على اختلاف موضوعاته وتخصصاته، وأن ثمة مواقف فكرية ليبرالية مشروعة ومؤكدة بالبراهين المنطقية من قبل كثرة من أهل الفكر ترجح الرأي الذي يعتقد ويرى أن مفهوم الفرد والفردية بأنه نزعة أكثر منه مذهب. ويستندون في ذلك على ن النزعة حمالة لأهداف واتجاهات محددة(10) ويمكن وصف الفردية كنزعة ذات هدف معين، أو اتجاه محدد أكثر من كونها مذهب يقوم على وحدة عضوية متصلة ومنسقة.والملاحظ أن الفردية تأخذ مكانتها وقيمتها المميزة في الفكر الليبرالي لأنها تقترنبـ الحرية وتندمج فيها. فهي بالأساس مبدأ يقوم على المنافسة الحرة(11).وانطلاقاً من مكانة الفردية هذه فإنها تمثل عقدة وكلمة السر جنباً إلى جنب مع الحرية في التيار الليبرالي. بل هي المدخل إلى فضاء عالم الليبرالية المفتوح دائماً إلى ما يستجد بشأن الحرية الفردية.وما كان لليبرالية أن تملك هذه القامة في ساحة الفكر الإنساني عند هؤلاء الرواد لو لم تكن الفردية قد أكدت خصوصيتها وسماتها التي تشكل ميزة لها، حيث خصت نفسها بهذه المكانة.(12).ولكن في الطرف الآخر، أو في الجهة النقدية المضادة، وهي الماركسية، نقصد على وجه الدقة من هذه الجهة أولئك الذين جعلوا الليبرالية موضوعاً للدرس والتحليل والتفسير، هؤلاء رأوا أن الليبرالية ليست أكثر من عقيدة الطبقة المالكة لوسائل