الحركة التاريخية أم الحركة في التاريخ قطبان في كل زمن معرفي, بنيوي إنساني وكل منهما يفتح أمام الآخر عوامل النشوء والتطور والصيرورة
ومن الصعب أن نرى حركة أغلقت التاريخ عليها وقبعت بين ظهرانيه معتقدة بأنها قد صممت ما تراه من الحياة لها. ولم يعد يعنيها من تداولات التحول, والتغير والتغيير شيئاً فهي قد حسمت خيارها,
ويمكن لها أن تفرضه على الآخر في البرهة المناسبة من القابل في الزمان. وكذلك من الصعب أن يظهر التاريخ على سنة واحدة. وديدن واحد لكأنه مسبق الصنع بيد حركة استكملت خصائصها, وصار بمكنتها أن تنهي التاريخ أو تغلقه أو تفتحه كما تشاء وكما يتوافق مع مضانها التاريخية, وغائياتها المصالحية وحين بشر المفكر الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما بنظرية ما سماه حينها نهاية التاريخ اعتقد بأن عالمية شيوعية انكسرت ولن تعود وعالمية ليبرالية انتصرت ولن تتراجع وأن التاريخ والمعرفة بينهما ضبطا معاً على إيقاع الإدارة التي تصمم السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع وليس على البشرية إلا أن تستدير باتجاه الليبرالية الجديدة بثوبها العولمي, وملكتها التكنولوجية والمعلوماتية والإتصالية والإعلامية.
وأن حد التاريخ قد أصبحت حقائقه تتأتى في نظر فوكوياما منذ ما بعد عام 1989 حينما بدأت على صعيد عالمي تظهر شيئاً فشيئاً ملامح القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية بما تبدو معه بأنها قادرة مساعدة التاريخ على المزيد من التقدم وأن النموذج الأميركي للديمقراطية يمكن أن يمتلك قابلية أن يصبح مقياساً عالمياً يحتذى به.
وفي نظريته المثيرة للجدل كما وصفوها أبلغ فوكوياما عن نهاية التاريخ وطلب حسم الخيار العالمي لصالح الليبرالية الجديدة بثوبها الأميركي الذي يبدو أكثر إغراء من أي ثوب ليبرالي آخر. وقد انتقل من الفلسفة والتنظير إلى السياسة والتقرير حين وافق على تطلعات المحافظين الجدد إلى غزو العراق على قاعدة أن طبيعة النظام في العراق تقف في وجه تقدم التاريخ, ولكن فوكوياما بعد سنوات ثلاث من غزو بلاده للعراق أخذ يناقش بطريقة النقد الذاتي مآلات هذا الغزو ونتائجه خصوصاً في حالة الفوضى التي تطال العراق من كل جانب, والتي أصبح من العسير السيطرة عليها. ثم في حالة ما شرعت قوات الاحتلال تغرق في مستنقعه دون أن يكون لديها حلول منقذة مما تورطت فيه, وقوافل القتلى تتوالى على اميركا.
فوكوياما الآن لم يعد مصيباً لو توقف عند الفلسفة ونهاية التاريخ بل تتوافر لديه مكونات معرفية ووقائعية لتفكير جديد لعله يبرئه هذه المرة بالنقد السياسي للذات خاصة بعد أن صدر كتاب الفرصة للكاتب ريتشارد هاس ويتضح أن أميركا لا تريد إدارتها الحالية أن تظهر بقابلية التجاوب مع الفرصة بل تستمر في غلواء القوة, والتغول الدولي, وكانت كذلك لم تستجب لرؤية الخيار التي قدمها بريجنسكي الأمر الذي جعل بعض المفكرين من مراكز البحث الأميركية يصفون إدارة الرئيس دبليو بوش بأنها تسير على خطى الإدارة الثيوقراطية لأميركا ومن ثم للعالم تفرض قيادتها عليه باسم القطب الوحيد المهيمن.
نحن الآن على مسافة أقرب من الخلفية النفسية والمعرفية للمفكر فوكوياما طالما أنه يشخص حالته أمامنا بأنه من بين الذين حبذوا الحرب على العراق, وتجاوزوا القاعدة النظرية التي كانت تشير إلى أنه من الأفضل لأميركا أن تترك المستبدين في السلطة ولا تلطخ نفسها بسمة الامبريالية وعليه فإن ما نراه من صورة فوكوياما بعد نتائج العراق المحبطة لأميركا ومن حالفها هو أنه شجاع بالتراجع عن الخطأ وصاحب إرادة في موقف جديد يبنيه عبر كتابه الجديد (أميركا على مفترق طرق).
في كتابه المومأ إليه تنصل فوكوياما من دعمه السابق لغزو العراق واصفاً الموافقة عليها بأنه سذاجة يلام عليها من تسبب فيها. ويستعرض فوكوياما أخطاء المحافظين الجدد في وارد تنصله من قرار هذه الحرب على العراق فيشير إلى وهم أم مجموعة أوهام اعتقد بها المحافظون الجدد وما زالوا. يقع في طليعة هذه الأوهام أنهم قد استسلموا إلى اعتقاد أن سيطرة أميركا سيرحب بها في الخارج ثم اعتقادهم بأنهم قادرون على إنجاز كل شيء بالعمل أحادي الجانب ثم اعتقادهم بأن تبني الضربة الاستباقية التي اعتمدوا تبني مبدئها على تقدير حالم للمستقبل هي الحل الأمثل في الوجود العالمي لأميركا على أرض الأمم المختلفة. ثم اعتقادهم بأن جلب الديمقراطية إلى الشرق الأوسط على وجه التحديد هو الحل المناسب لكنهم الآن يفاجؤون فيها داخل العراق بأنها مهددة للعراق بالتقسيم أكثر مما هي منقذة له.
ومن الواضح أن النقد السياسي هذا الذي يمارسه فوكوياما ليس وحيداً فيه بل يشاركه كذلك الكثير من الليبراليين أنفسهم بعدما أكرهوا على الموافقة على قرار الحرب باسم استطلاعات الرأي المضللة وعليه فإن التغيير في التوجه والرأي والتبني الذي يبديه فوكوياما هو سلوك في الزمن المناسب لمفكر كبير وتجاذب موضوعي مع متغيرات يتلمسها في المزاج العام الأميركي والدولي على حد سواء.
وما تتوافق الرؤى عليه داخل الحياة الأميركية المعرفية والسياسية هو أن التاريخ لم يجر على هواهم ولم يستطيعوا أن يرسموا له مجرى واحداً وحسب. فلا هو أي التاريخ قد وصل إلى نهايته ولا النموذج الأميركي في الديمقراطية أصبح بمثابة عقيدة كونية عبر العولمة المعسكرة وعلى هذا القياس فلا استطاعت أميركا أن تهيمن على العالم ولا استطاعت أن تنجح بقيادة تشاركية له. ثم لم تستطع أن تقنع العالم بأهمية وجود قطب وحيد مهيمن يدير الحكومة العالمية عبر مؤسسات الشرعية الدولية ويحقق أمن وتقدم واستقرار العالم ولا نجحت بمنع تناذرات قيام عالم متعدد الأقطاب وأخيراً ظهرت أميركا بمظهر المشجع الوحيد لإسرائىل ومن ورائها الصهيونية العنصرية ومع ذلك لم تتمكن معها من عدم السماح بوصول حماس إلى السلطة الفلسطينية بصناديق الاقتراع.
من يضبط إيقاع الحركة التاريخية إذاً? ومن يدعي أنه قادر على الهيمنة على الحركة في التاريخ? هذا هو التاريخ يمكرهم, ويتفلت مما اعتقدوا أنهم أمسكوا به إلى أبد قادم ولم يبق أمام الجميع بما فيهم فوكوياما كمفكر ومنظر إلا أن يقيموا المرحلة التاريخية منذ لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي إلى يوم الناس هذا حتى يتوصلوا إلى منهج معرفي تاريخي سياسي جديد يجعل من المحافظين الجدد أقرب إلى النقد الذاتي والتراجع عما تبنوه خطأ ويعيدوا السياسة الأميركية إلى دورة التفاهم والتكامل والعمل المشترك مع المجتمع الدولي, وأن يقتنعوا بأن حق اسرائىل ليس مقدساً في الحصول على أسلحة التدمير الشامل بينما حق العرب وإيران الاسلامية غير معترف به في هذا الخصوص,فالعالم إما أن يقاد بالعدل أو لا قيادة فيه لأحد.
وبمنطق من الموضوعية المعرفية يحدد فوكوياما أخطاء المحافظين الجدد الذين تسببوا وما زالوا بجعل أميركا تظهر بمظهر صاحبة القوة الغاشمة لا صاحبة القيادة الحكيمة بما يلي: الخطأ الأول للمحافظين المعنيين هو تخليهم عن الواقعية فهم قد فهموا معنى آخر لإسقاط النظام في العراق وعلاقته بتوازن القوى في الشرق الأوسط.
والثاني: هو النقص بالمعرفة التاريخية وكأنها إعادة إعمار العراق ستكون مماثلة لإعادة إعمار بولندا بعد الشيوعية.
والثالثة:هي نقص المعرفة الذاتية عند من افترضوا أن أميركا تتمتع بالقوة الكافية التي تخولها أن تفعل ما تشاء في العراق والعالم.
وفي نهاية آرائه يجد فوكوياما أن المحافظين الجدد قد تجاهلوا نقاط الضعف الأميركية عمداً وهي العجز المالي المزمن الذي جعلها تعتمد دوماً على رأس المال الأجنبي والحاجة إلى الموارد حينما يتعلق الأمر بإعمار الأمة وكذلك النقص المزمن في القوة البشرية الذي لا يساعدها في إبقاء عدد كبير من الجنود لإبقاء السيطرة في المناطق التي تحتلها. وتضعف أميركا جراء فقدان التركيز المزمن حيث إن الإصابات القليلة للجنود تسبب للشعب فقدان الحماسة لحروب صغيرة في الأماكن البعيدة, وأخيراً نقص الشرعية المزمن الذي تعاني منه أميركا الآن وتدل على هذه النقاط التي اعتبرها فوكوياما نقاط ضعف لم ينتبه إليها المحافظون الجدد في سياستهم العالمية الحالية كافة وسائل استطلاعات الرأي وخاصة التي توصل إليها مركز (بيو) الدولي ترى تراجعاً كبيراً في مكانة الولايات المتحدة الأميركية خلال السنوات الست الماضية.
إن ما تحتاج إليه أميركا كما يراه فوكوياما هو أن تكون أكثر واقعية واطلاعاً تاريخياً وأن تحزم متاعها وتعود إلى وطنها وتضع حداً لخيار الهيمنة سواء أكانت رحيمة أم حمقاء.