كفرنا بالعرب. ولا نقصِد الشعب العربي الطيّب، المغلوب على أمره، وإنما الحكام العرب، أو ما يسمّى بلغة العصر الأنظمة العربية. عندما يُشار إلى الموقف العربي،
فالمصدر هو الحاكم العربي. من هنا كاد الحكام العرب يكونون صانِعي العرب في هويتهم ولونهم السياسي على الساحة الدولية. وهذا ما لا نعتزّ به، فكان كفرنا بالعرب مع إيماننا الوطيد بالعروبة.
العراق هزم الدولة العظمى أمريكا، فإذا بها تتخبّط في موقفها وتبدو حائرة لا تدري كيف ستنسحب من العراق، وتواجه الإدارة الأمريكية أزمة عنيفة على الصعيد السياسي داخل الولايات المتحدة إزاء أدائها البائس في العراق. وكان النفوذ الأمريكي نتيجة ذلك يتآكل وينحسر في المنطقة العربية عموماً. فإذا بالإدارة الأمريكية تستعيد زمام المبادرة في المنطقة عبر هجمة مُضادّة مِحورها برنامج ضخم أعلنته لتسليح إسرائيل بقصد مُعلن هو ضمان التفوّق النوعي للكيان الصهيوني عسكرياً على الأقطار العربية مجتمعة، وفي المُقابل، أو على سبيل التمويه أمام الرأي العام العربي، أعلنت الإدارة الأمريكية برنامج تسليح لما سمّت قوى الاعتِدال بين العرب. مع الفارق المعروف سلفاً في الدعم الذي سيقدّم للطرفين كمّاً ونوعاً، ومع أنّ الدعم ل “إسرائيل” يُقدّم بِلا مُقابل، فإنّ الدعم العربي يُقدّم بثمن باهِظ. فبدا للمواطن العربي وكأنما الدعم العسكري الأمريكي ل “إسرائيل” سيكون مُموّلاً من الاعتدال العربي. يا للمُفارقة، ولا نقول يا للعجب، فالأمر مُنتظر ومألوف من المُمسكين بقرار العرب، أطال الله عمرهم.
مع انحِسار السطوة الأمريكية بفعل هزيمة الدولة العظمى في العراق، كُنّا نأمل بالتوصّل إلى حلّ لأزمتنا المستعصية في لبنان، والتي كانت البصمات الأمريكية ولا تزال دامِغة عليها. فالإدارة الأمريكية لا تتوانى عن التعبير عن انحِيازها في النِزاع اللبناني إلى جانب فريق ضدّ الآخر، وتتلطّى في انحِيازها وراء شرعية مزعومة. ففي الوقت الذي يعتبر نصف اللبنانيين الحكومة فاقِدة الصفة الشرعية والدستورية والميثاقية بعد خروج فريق وازن منها من دون تعيين مَن يخلف المستقيلين، فإن الإدارة الأمريكية تُثابر على تمسّكها بحكومة السنيورة بالاسم وتعتبرها، ويا للغرابة، حكومة مُنتخبة ديمقراطياً، مع العلم أن الحكومة في نظام لبنان لا تُنتخب وإنما تُسمّى ثم تكتسب شرعيتها من ثقة تنالها من مجلس نواب مُنتخب، ولو أن ديمقراطية الانتخابات في لبنان محلّ إشكال وتشكيك.
كنّا نأمل في حل للمشكلة اللبنانية بعد أن تبدّلت مواقف في لبنان بحيث أضحى هناك شِبه إجماع على نِصاب الثلثين لجلسة انتخاب الرئيس العتيد بعد أن كانت الأكثرية النيابية تُهدّد بانتخاب رئيس الجمهورية، ولو خارج الأرض اللبنانية، بأكثرية النصف وواحد. وأكثرية الثلثين تكاد تضمن التوافُق على هوية الرئيس المقبل، إذ يتعذر عملياً جمع نِصاب الثلثين إن لم يتأمّن توافُق مُسبق على هوية الرئيس الذي يُراد انتخابه.
ومع استعادة الإدارة الأمريكية زمام المبادرة، فإنّنا نخشى ألا يكون للدولة العظمى مصلحة في حلّ وشيك للمشكلة اللبنانية، باعتبار أن الأزمة جعلت من لبنان منصّة للضغط الأمريكي على قوى المنطقة بمن فيها الفلسطينيون والسوريون والإيرانيون. وتستطيع القوى الخارجية النافذة إن شاءت تعطيل عملية الانتخاب الرئاسي بافتِعال أحداث أو خِلافات بين اللبنانيين بحيث لا يتمّ التوافُق فلا تُجرى عملية الانتخاب في موعدها، فتنقضي مهلة الاستحقاق الرئاسي من دون انتخاب رئيس. ويخشى أن يحمل ذلك رئيس الجمهورية الحالي على إطلاق حكومة جديدة يُسلّمها سلطاته وصلاحياته بحسب الدستور. فينتهي الأمر بوجود حكومتين لا تعترِف إحداهما بالأخرى، وهنا الطامّة الكبرى، إذ إن هذا الواقع سيجرّ حتماً إلى حالٍ من الصِراع المتفجّر.
عجباً كيف أنّ حكام العرب، سارعوا من دون إبطاء إلى الانخراط في المشروع الأمريكي. هذا مع العلم أن المُتّهمين بالاعتِدال هم في القاموس الأمريكي أولئك الذين يُهادِنون “إسرائيل” ويسيرون في ركاب المشاريع الأمريكية أياً تكن في المنطقة. ومشاريع أمريكا أثمرت حتى الآن تمزقاً رهيباً في العراق في ظل الاحتلال وبفِعله، واقتتالاً بين الفلسطينيين آلَ إلى انفِصام خطير بين غزّة والضفّة الغربية، ومشروع فِتنة في لبنان، فكان سعياً لافتِعال وَقيعة مذهبية بين سنّة وشيعة باء بالفشل، ثم كان مشروع وَقيعة بين اللبنانيين والفلسطينيين باء أيضاً بالفشل بفضل الموقف المسؤول الذي تبنّاه قادة الفصائل الفلسطينية من أحداث مخيّم نهر البارد. ثم كان مشروع وَقيعة داخل الطائفة المسيحية عبر انتخابات المتن الفرعية سيكون مصيرها الفشل أيضاً.
لم يعد ثمّة موقف عربي من قضية فلسطين، وهي التي اصطلح العرب على نعتها بقضية العرب المركزية. تبدّد الموقف العربي أمام الشرذمة الفلسطينية الأليمة، كما تبدّد على مذبح تهافُت الحكام العرب، على الصلح الموهوم مع “إسرائيل.” فكانت مبادرة السلام العربية التي أطلقت أولاً في قمة بيروت العربية عام ،2002 ثم أُعيد تأكيدها وتنشيطها مؤخراً في قمّة الرياض. وكان إيفاد مندوبين اثنين إلى “إسرائيل” من القطرين العربيين اللذين سبق أن تورّطا بتسوية مع الكيان الصهيوني كانت على حساب الحقّ العربي، وذلك إمعاناً في الانفِتاح، لا بل التهافُت، على استدراج الكيان العدو إلى عقد اتّفاقات صلح مع العرب. أما المواطن العربي فقد رأى في هذه الخطوة مُنتهى التبذل والاستخفاف بحقّ العرب وكرامتهم.
ثم دعا الرئيس الأمريكي إلى لقاء يعقد في خريف العام 2007 على أن يضمّ الأقطار العربية و”إسرائيل” ودولاً أخرى في المنطقة. فإذا بوزراء الخارجية العرب يُسارعون إلى الترحيب باللقاء. والمعروف أن هذا اللقاء لا يُرتجى منه سوى الإيقاع بين أطراف عربية من جهة وإيران وسوريا وحزب الله في لبنان من جهة ثانية، وكذلك تنظيم عملية الاستسلام العربي الذي يسمّى سلاماً. فكيف يكون سلام بين قوى غير متكافئة؟ وأين هو التكافؤ بوجود الثقل الأمريكي ومعه الدولي في الجانب “الإسرائيلي”؟ وكيف يكون التكافؤ في ظل حال التشرذم العربي وغياب الموقف الموحّد، وماذا يبقى من التكافؤ بعد حملة التسليح ل “إسرائيل” على وجهٍ يضمن رجحان كفّتها على العرب أجمعين على نحو قاطِع؟
عرب الاعتدال يُراد لهم أن يتطاحنوا مع إيران، وقد وقعوا في الشرك المذهبي المفضوح الذي نصبته لهم أمريكا. أما عداوة الدولة العظمى لإيران فلا علاقة لها بالمذهبية، بل بالمصلحة “الإسرائيلية” الاستراتيجية. فإيران تقِف موقفاً مبدئياً من الدولة العبرية ترى فيه “إسرائيل” تهديداً لأمنها وسلامتها. وقد علّمتنا التجارب أنّ مصلحة أمريكا ومصلحة “إسرائيل” سيّان. لا فارق ولا فصام بينهما. فما بال عرب الاعتدال المزعوم يتهالكون على استعداء إيران والسير في طريق مُصادمتها بحسب المشيئة الأمريكية الإسرائيلية؟ وهل هكذا تُجازى إيران على معاداتها لعدو العرب؟
إلى كل ذلك، فإن لبنان يُواجِه مصيره، ويعاني من أزمة مُستحكمة باتت تهدّده في وحدته وبالتالي في وجوده. مع ذلك فإن الاعتِدال العربي، بمباركة أمريكية بِلا أدنى ريب، لا يبدي حِراكاً. عجباً، ألا يُدرك عرب الاعتِدال أن المشروع الأمريكي إذا تحقّق في لبنان، لا سمح الله، وهو مشروع تفتيت تحت عنوان الشرق الأوسط الجديد، عبر ما يُسمى، والعياذ بالله، الفوضى الخلاّقة، سوف لن يسلم من تداعياته أي قطرٍ من الأقطار العربية؟
فهل نغالي والحال هذه إذا قلنا: كفرنا بالعرب، أو بالأحرى بالحكام العرب وبالأنظمة العربية، مع إيماننا الوطيد بالعروبة التي ستبقى، في مضمونها القومي والأخلاقي، معقد رجائنا في غدٍ أفضل بإذن الله.