"أقسى السجون وأمرّها تلك التي لا جدران لها".
أدونيس
كان الطقس حاراً جداً الى حد "الفطيس" في الشمال صبيحة الأول من آب. وقد استيقظ الضابط المغوار على دوي القذائف الصباحية بعد ليل هادىء نسبيا أتاح له بضع ساعات من النوم في ما يشبه راحة المحارب،
وهو الذي اتخذ من ناقلة الجند مهجعا له منذ اندلاع القتال قبل أكثر من شهرين في محيط مخيم نهر البارد بين الجيش وجماعة "فتح الاسلام" الاصولية.
وللمرة الأولى منذ اندلاع شرارة الحرب تصله صحيفة.
نهض من فراش القش الذي لا يعرف كيف ألقى بنفسه فوقه بثيابه الملأى بالغبار من فرط التعب. وبعدما نفض عنه الغبار فرفك عينيه ونظر الى الصفحة الاولى من الصحيفة فاستوقفه عنوان جعله يتجمّد في مكانه: "واشنطن: صفقات الاسلحة لدول الخليج ومصر واسرائيل من أجل احتواء ايران وسوريا و"حزب الله" و"القاعدة". وقرأ تصريحا لوزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس في هذا الشأن توضح فيه "أن تعزيز عملية تحديث القوات المسلحة المصرية والسعودية وتبادل المعلومات سيزيد من عزم شركائنا على مواجهة خطر التطرف ويرسخ دورهم كزعماء للمنطقة في السعي الى إحلال السلام في الشرق الاوسط وضمان حرية لبنان واستقلاله".
وسعياً الى مزيد من التفاصيل قرأ في مكان آخر من الصفحة "ان قيمة العقود مع السعودية والامارات العربية المتحدة والكويت وقطر والبحرين وعمان تصل الى ما لا يقل عن 20 مليار دولار"، في حين أن المساعدة المقررة لاسرائيل تزيد على 30 مليار دولار في مقابل 13 مليار دولار لمصر.
وقد أثارت هذه المعلومات اهتمامه وكذلك مخاوفه، وهو العسكري المتابع لمسائل السلاح على أنواعه، والمطلع على القضايا الاستراتيجية، وكانت هذه مادة اختصاصه في احدى الدورات التي انتدبه الجيش لمتابعتها في أميركا.
وكان لا بد من إشعال سيجارة وسحب "مجّة" طويلة تلتها تنهيدة حيال ما يواجهه الجيش في نهر البارد وهو يعض على الجرح فيما يتساقط شهداؤه الواحد تلو الآخر، جراء افتقاره الى السلاح والعتاد والذخيرة الضرورية في مثل هذه المواجهة.
ثم يأخذ "مجّة" أخرى، طويلة بالطبع، لينفث غيمة من الدخان أخذته الى قراءة سياسية للاندفاعة الاميركية في اتجاه العرب، ملاحظا أن المساعدات العسكرية ستذهب الى الدول التي تلزمها "عقيدتها القتالية" بعدم محاربة اسرائيل، بل مهادنتها والتعاون معها أحيانا (مثل قطر)، وتحديد العدو الجديد، أو الاعداء الجدد حصرا بـايران وسوريا و"حزب الله" و"القاعدة" مستنتجاً أن السلاح سيذهب من الآن فصاعدا الى الاطراف الذين يقاتلون الاعداء الجدد بالنيابة عن الولايات المتحدة، وهو يعرف ان حرمان الجيش اللبناني "النعم" الاميركية في مجال السلاح، حتى الدفاعي منه، ناجم عن عقيدته القتالية التي تعتبر اسرائيل عدوة، وسوريا جارة وشقيقة، وحليفة يتكامل جيش لبنان مع جيشها.
ثم يستدرك متسائلا: ألا يستحق الجيش الذي يخوض باللحم الحي معركة نهر البارد ضد "القاعدة" والارهاب لفتة من الادارة الاميركية وإن بـ"بارودة أم 16" بعدما حوصر طويلاً ومُنع عليه التسلح من أي جهة، غربية كانت أم شرقية، كما مُنعت الدول العربية الصديقة أن تساعده؟ وذلك على غرار ما فعلت اثر قصف الطيران الاسرائيلي محطة الجمهور لتوليد الكهرباء في 15 نيسان 1996، عندما عرضت – كما تردد – تزويد الجيش بطاريات صواريخ مضادة للطائرات، لكنها ما لبثت ان تراجعت عن عرضها متذرعة بأن الجهة التي اشترت منها نظام الصواريخ اشترطت عليها عدم انتقاله الى طرف آخر، أيا يكن هذا الطرف.
وراح في تفكّره الى أن السياسة الاميركية في الشرق الاوسط رمت، منذ حرب حزيران 1967، الى حذف القوى القادرة على جبه القوة الاسرائيلية في المنطقة، بادئة بمصر عبر معاهدة كمب ديفيد، ثم الاردن، وبقاء سوريا في حالة جمود جراء ضم الجولان بعد احتلاله الى الكيان الاسرائيلي، ووضع قوة دولية على حدودها مع اسرائيل.
وإذ لم يبق سوى عراق صدام حسين وايران الثورة الاسلامية خطرين جديين على الكيان الصهيوني، وجدت واشنطن في هجمات 11 ايلول 2001 الارهابية على برجي التجارة في نيويورك فرصة سانحة للتخلص من الجيش العراقي، فكانت الحرب الاميركية على العراق التي كان أول انجازاتها، وأهمها على الاطلاق، حل الحاكم العسكري الاميركي بول برايمر الجيش العراقي الذي كان أحد أقوى الجيوش العربية تأهيلا وتنظيما وتسليحا. وهو الذي لم يخف قادته حلمهم بمنازلة اسرائيل ودحر جيشها واسترجاع الارض الفلسطينية المغتصبة الى اهلها. لذلك لم يكن غباء ولا خطأ استراتيجيا الغاء الجيش العراقي. وقد ادى ذلك الى اطلاق الحرب "الارهابية" في العراق ضد الجيش الاميركي والتي تقودها "القاعدة" وسوريا وايران في الدرجة الاولى، الى جانب المقاومة العراقية التي استولت على سلاح الجيش العراقي المنحل.
"مجّة" أخرى من السيجارة فزفرة صعّدت سحبا من الدخان غمرت وجه الضابط المغوار الذي لم يستوعب بعد القدرية التي زجت بجيش انتفض ثأرا للاعتداء الوحشي الذي تعرض له أفراد منه على أيدي ارهابيي "فتح الاسلام" قبل 75 يوما وجعلته يخوض عن اللبنانيين والعرب كذلك حربا ضد الارهاب والارهابيين هم عجزوا عن خوضها رغم امتلاكهم أحدث الاسلحة وأشدها فتكا، فيما هو يخوضها باللحم الحي وبالشهداء نظرا الى افتقاره الى أبسط أنواع الاسلحة التي تملك مثلها اصغر الميليشيات في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ومعظمها أميركي الصنع. كذلك لم يستوعب كيف ان تسليح العرب المعتدلين يُعتبر "ضمانا لحرية لبنان واستقلاله" فيما هذه يحميها دم الجيش الشهيد الاعزل!
واستذكر ما رواه له أحد أصدقائه الصحافيين الذي كان مطلع ثمانينات القرن الماضي في جولة آسيوية وحط به الرحال في بيرل هاربر القاعدة العسكرية الاميركية التي أدت مهاجمة اليابانيين لها الى دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية.
وفي مقر قيادة المحيط الهادئ هناك، تولى أحد الضباط شرح الوضع الميداني في العالم، عبر خريطة ضخمة، وكانت الحرب العراقية – الايرانية الاولى في عز احتدامها. وإذ سئل الضابط عن مصير هذه الحرب، أجاب حرفيا: "انها مستمرة. وعندما تتوقف يكون ذلك جراء عجز الطرفين عن تأمين استمرارها"، علما أن صدام حسين كان يتلقى أسلحة غربية باشارة من واشنطن بغية إضعاف الطرفين العراقي والايراني لحذفهما من قائمة الدول التي تشكل خطرا على اسرائيل.
وسأل الضابط المغوار نفسه: هل يُرفع حظر التسلح عن الجيش إذا بدّل عقيدته القتالية، بحيث تصبح اسرائيل "جارة" لا عدوة على ما وصفها نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري في احدى خطبه، ويصوّب سلاحه في اتجاه الاعداء الجدد: ايران وسوريا و"حزب الله"؟ بل هل هو قادر على ذلك، وخصوصا التصويب على أهله في المقاومة وشركائه في دم الشهادة وبذل النفس في حرب التحرير ضد اسرائيل؟
ثم هل هو قادر كذلك على جبه الجيش السوري الذي له أفضال كثيرة عليه، من اعادة تنظيمه حتى تسليحه بالدبابات والبنادق والذخائر التي يقاتل بها الارهابيين في نهر البارد؟
وأي مصلحة للجيش اللبناني وسائر جيوش العرب "المعتدلين" اذا زاحت اميركا من درب المواجهة المكلفة لها مع "القاعدة" والارهابيين، بعد التجربة الدموية في العراق، وتركت الجيوش العربية تقاتل شعوبها كرمى لعيون الاسرائيليين؟
وهل تصمد حكومات هؤلاء العرب، وتبقى لها جيوش وحتى كيانات؟
وهل يستطيع عاقل أن يتصور ماذا سيحصل في دبي وأبو ظبي وقطر والبحرين وعُمان وازدهارها وعمرانها متى بدأت الحرب فيها بالسلاح الاميركي ضد ايران و"القاعدة" متى نقلا آلتهما الحربية الجهنمية من العراق الى الخليج؟
•••
إن الذين دفعوا بالجيش في جحيم نهر البارد دون عدّة، ويخوضون معركة دونكيشوتية في المتن بعد غد دون هدف، لا يقلون جنوناً عن الذين يدفعون العرب الى تدمير بلادهم بأنفسهم. وسيستمر هذا الجنون في التفشي، ويا للأسف، الى أن يرتفع العقل اللبناني والعربي فوق الزنّار!
ادمون صعب
edmond.saab@annahar.com.lb