Wednesday, August 1. 2007
الترابط بين أوضاع الداخل وقضايا الخارج لم يعد قضية جدلية كما كان الامر يحتمل من قبل عدة عقود. فلا دولة الآن أيا كانت صغيرة أو كبيرة يمكنها أن تغلق الأبواب علي نفسها وتفعل ما تريد
وتتصور أن العالم سيتركها في حالها متذرعة بتقاليد السيادة التقليدية. والفضل ببساطة يعود إلي العولمة أو الترابط الاجتماعي والإنساني والمعنوي الذي فرض نفسه علي الجميع دون استثناء, وغير المفاهيم وصاغ منظومة علاقات دولية تختلف عما كان معتادا من قبل, حيث اصبح لدور المنظمات غير الحكومية العابرة للدول والحدود تأثير مباشر في السياسات الدولية ككل. وأيا كان موقفنا من بعض هذه المنظمات ذات الطابع الدولي فإن الواقع يفرض علينا التفاعل معها, بداية من توضيح الحقائق ومرورا بعرض المعلومات الموثوق بها ونهاية بالتعاون معها, والاهم محاسبة المقصرين والمتجاوزين.
أقول هذا وعيني علي بعض ما يجري هنا في مصر ويكون له صداه القوي في الخارج إلي الحد الذي يقنع البعض للتحرك لدي برلمانات دول نحرص علي بناء علاقة قوية معها لأسباب سياسية ومصالح كبري مشتركة, من أجل التأثير السلبي علي هذه العلاقة أو وضعها في إطار يمس السيادة المصرية, بل والأمن القومي المصري.
ولن أشير هنا إلي مزاعم الاضطهاد التي تطلقها جماعات وشخصيات طويلة اللسان بين الأقباط المصريين في المهجر لاسيما في الولايات المتحدة, وذلك لوصف حالة الأقباط المصريين في الداخل, فتلك قصة باتت معروفة, وفيها من المبالغات والتحيزات غير المنطقية الكثير والكثير, وهناك من يجاهر بها علنا برغم علمه بأن مزاعمه لا أساس لها, أو أن المشكلة الموجودة بالفعل ليست بالشكل الذي يتم تصويرها به, ومؤكدا انه يسعي إلي ما يعتبره تدويل المشكلة والوصول بها إلي الأمم المتحدة, نظرا لأن الحكومة المصرية وأصحاب القرار من وجهة نظره لا يحلون مشاكل الأقباط برغم اعترافهم بها.
هذه القصة المعروفة باتت قديمة ومكررة, لكنها تعكس ذلك الترابط بين الواقع في الداخل وما قد تتعرض له البلاد من ضغوط حقيقية أو مصطنعة نظرا لوجود مشكلة ما, ربما لا تأخذ حقها في الدراسة, أو قد يتأخر حلها اكثر من اللازم, وفي كلتا الحالتين ثمة ضغوط تفرض نفسها, وهو ما يتطلب أسلوب عمل جديد يجب أن ينفي عن نفسه التجاهل المقصود, ويتجه إلي الاعتراف بالمشكلة بحجمها الحقيقي, وإشراك المجتمع في مناقشتها, وتوفير الموارد السياسية والاقتصادية والمعنوية لحلها في مدي زمني مناسب, وبما يدعم من وحدة المجتمع وصلابته, ويزيد من الترابط بين نخبة الحكم وقاعدة المحكومين, ويغلق منافذ التدخلات الأجنبية المتزايدة دون سقف أو حدود.
فإغلاق أبواب التدخلات الخارجية هو مهمة الداخل بالدرجة الأولي, ولما كانت مصر وستظل بلدا محوريا معرضا للضغوط من كل الأنواع والأشكال فإن قوة وصلابة الداخل وحده هي القادرة علي إفشال هذه الضغوط أيا كان شكلها أو مضمونها. وحين نقول الضغوط الخارجية فلا يعني ذلك أن مصدرها الوحيد هم الأعداء أو المنافسون الأشداء, فكثيرا ما جاءت الضغوط من اقرب الأصدقاء وأقوي الحلفاء. وأشير هنا إلي مساعي السيناتور الجمهوري جون كايل في الكونجرس الأمريكي لربط منح مصر معونة عسكرية بقيمة200 مليون دولار بعدد من الشروط التي تدخل في صميم عمل المجتمع والدولة المصرية.
صحيح هنا أن هذه ليست المحاولة الاولي التي يحاول فيها بعض النواب الأمريكيين تقليل المساعدات العسكرية أو ربطها بشروط معينة, ولكنها المرة الاولي التي يتم فيها الحديث مباشرة عن أمرين يتعلقان مباشرة بعمل مؤسسات سيادية, وهما حسب مشروع السيناتور كايل سن قانون يضمن استقلال السلطة القضائية, والثاني مراجعة الإجراءات الجنائية وتدريب قيادات الشرطة والحد من انتهاكاتها. وصحيح أيضا أن هذه المحاولة لن تمر, لاسيما في ضوء إعلان إدارة الرئيس بوش عزمها علي تمرير قانون يؤكد حصول مصر علي معونة عسكرية بقيمة13 مليار دولار في السنوات العشر المقبلة, من بين معونات عسكرية لدول أخري وصفقات سلاح كبيرة لعدد من دول الخليج, لغرض الحفاظ علي المصالح الاستراتيجية لحلفاء واشنطن في المنطقة.
ومع ذلك فإن دلالة محاولة السيناتور كايل يجب ألا تمر مرور الكرام, فهي أولا تؤكد أن عمل الكثير من المؤسسات المصرية ليس بعيدا عن الملاحظة المباشرة من قبل الحلفاء والأصدقاء, بل هو تحت الملاحظة والمراقبة والمتابعة وقل ما شئت, وأيضا ينظر إليه باعتباره جزءا أساسيا من استقرار مصر, الذي هو مصلحة جوهرية لقوي كبري لا شك في ذلك. وثانيا فإن محاولة السيناتور كايل ما كان يمكن لها أن تكون بهذا المعني الذي يحمل تدخلا مباشرا في السيادة المصرية إذا كان سلوك هذه المؤسسات خاليا من المنغصات والتراجعات أحيانا. فالتباين بين قضاة مصر ملحوظ بشدة منذ سنوات طويلة سابقة, والمؤشرات تؤكد انه سوف يستمر لفترة أخري وفي ذلك أمر سلبي بكل المقاييس ولا يقتصر علي القضاة وحدهم.
أما تجاوزات بعض ضباط وأفراد من جهاز الشرطة فباتت متناثرة في الصحف والمدونات ولم يعد من الممكن إخفاؤها علي أحد في الداخل أو في الخارج, وهي تثير الكثير من الغبار ـ لا شك في ذلك ـ علي هذا الجهاز المهم لحفظ الحقوق وصون المجتمع. وبرغم أنها تجاوزات تحدث من عدد قليل جدا مقارنة بالقاعدة الشرطية العريضة التي تتسم بالانضباط والالتزام بالقانون, لكنها تثير قضية مهمة وهي كيف يتم محاسبة هؤلاء المسيئين, ليس للشرطة وحسب, بل للوطن والمجتمع ككل. أقول هذا ولدينا جميعا قصص عن تعسف بعض الضباط في استخدام السلطة المخولة لهم بحكم القانون لحماية المجتمع, ولكنهم يجعلونها للعسف والسطوة وإيذاء الناس وامتهان كرامتهم. ومن المحزن والمؤلم والمثير لأقسي درجات الاستياء أن يصل الامر وفقا لما هو منشور في الأيام القليلة الماضية أن يقوم أحد أفراد الشرطة بأمر من أحد ضباطها في أحد أقسام سيوة في محافظة مطروح بسكب الكحول علي مواطن بسيط يدعي يحيي عبد الله لم يثبت عليه شئ, ويشعل فيه النار, ثم يلقي به في شاحنة لتتركه في الصحراء ربما ليموت وتموت معه هذه الفعلة الشنيعة, ويضيع الحساب والمساءلة. لكن القدر شاء كشف ما جري بكل بشاعته.
وهنا لا مفر من المحاسبة الصارمة, حتي ولو تم تصالح يتم الضغط من اجله مع أهل المجني عليه, وإعلان تلك المحاسبة علي الملأ حتي يطمئن الجميع بأنه لا قبول لتجاوز أو خرق للقانون ممن يفترض فيهم حفظ القانون وتطبيقه علي أنفسهم قبل غيرهم.
التجاوز في حد ذاته قد يحدث هنا وفي أي مكان, لكن الحساب والمساءلة للمتجاوزين هي التي تفرق بين الحرص علي القانون وحماية المجتمع من جهة, وبين الضرب بعرض الحائط الأسس التي تقوم عليها المؤسسة نفسها من جهة أخري. انه الفارق نفسه بين الحرص علي كرامة المواطنين وفقا للقانون دون تمييز بين أي منهم, وبين تجاهل تلك الكرامة بحجة أن لدينا الكثير من البشر لا يستحقون العيش. وإذا وصل الأمر إلي هذا الحد لا قدر الله, فلن تقف محاولات كايل وأمثاله من أقباط المهجر, بل قد يتطور الامر إلي حد المطالبة بالتدخل العسكري الدولي لحماية المواطنة والمصريين من عسف الأجهزة والمؤسسات المناط بها حمايتهم وصون كرامتهم. فأمن الوطن, أي وطن يبدأ من داخله نفسه, من كرامة مواطنيه ومن انضباط مؤسساته وتماسكها, ومن التفاف القاعدة حول القمة. ولنا في الضغوط المتتالية التي يتعرض لها السودان عبرة كبري.
|