في المقدمة التي أرتأينا أن نستهل بها - التفسير التجزيئي - كان لابد لنا أن نوضح للقأرئ العزيز ماهية وطبيعة الدوافع التي ألزمتنا الحجة في التحول من - التفسير الموضوعي إلى التفسير التجزيئي - وهي على نحو مختصر دوافع علمية وتاريخية وقيمية وبيانية جعلتنا ندرك بان التفسير التجزيئي هو الملاك الذي تتحرك في وسطه كل الموضوعات بل كل النصوص التي وردت في التنزيل الحكيم ، وهي لذلك تبدو عملياً تخدم سياق ووحدة النص أعني وحدة الحركة في التنزيل ووحدة الغاية من التنزيل التي جاء من اجلها ..
وقد كنت في الماضي القريب مشاركاً على نحو ما وبجزء يسير في حركة التفسير الموضوعي لإعتقادي بان ذلك يعزز فرص الإنضمام الجمعي ويرشد إلى تعزيز الثقة بالله وبالوحي ؛ وقد كانت مساهمتي في هذا المجال ضمن الرؤية التي قدمناها عن السنن التاريخية في التنزيل الحكيم وكذا عن كثير من الموضوعات الضاغطة فيه ، والتي تتحرك كما نظن وفق الواقع ووفق إرادته وحاجاته ، الواقع بما فيه من سخط وتناقض وإختلاف كما في كل حالات و قضايا المرأة و كذا في دورها التاريخي والأجتماعي ، والمعنى اللساني والدلالي لمفهومي الحلال و الحرام ، وعن مفهوم العصمة والنبوة والإمامة والسياسة والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والإسراء والمعراج وتوزيع الثروة ومفهوم الوصايا والمواريث ، وكذا عن الغيب وتفريعات في النكاح وملك اليمين والمتعة وغيرها . والحق أقول إن كل تلكم المشاركه كان يجب أن أمضي بها إلى أبعد مدى ، ولكني وجدت نفسي أو هكذا أرى مدفوعاً لتفسير شامل لكل جزء ومفردة وموضوع في النص للتنزيل الحكيم من الفاتحة وحتى سورة الناس !! جاعلاً من دراسة التنزيل ونصوصه ككتلة واحدة هدفاً مستقلاً بذاته معتبراً ذلك أو كما أرى أعم في النفع والفائدة وإن تطلب ذلك مني بذل المزيد من الجهد والمزيد من الوقت ، وهذا معلوم لدارسي التنزيل والمعارف الإلهية .فالتفسير التجزيئي يتطلب ضبط قواعد وقوانين اللغة وفقهها وقواعد الخطاب والدلالة والتضمن مع بيان للنص في سياقه الموضوعي والتاريخي والعلمي لكي يأتي المراد مبيناً في زمانه لمن أراد ذلك ، والربط في حركة التنزيل كما هي واردة الآن في المصحف يلزمه ضبط لحركة ووحدة النص فيما ينتهي وفيما يؤول إليه .. ونحن نعتقد بان الذي دار من جدل علمي في مرحلة من مراحل تاريخ المسلمين حول أو عن ماهية وطبيعة النصوص في التنزيل الحكيم ؛ وهل كانت تلك النصوص قديمة أم محدثة ؟ هو جدل مباح ومبرر من وجهة نظر علمية وموضوعية نشأت بفعل عامل التلاقح والتمدد الفكري والعلمي الذي صاحب دخول الكثير من أهل المذاهب والديانات السابقة إلى الدين المحمدي ، فالذي عليه الإعتقاد إن غير عرب الجزيرة من الأقوام الأخرى يمتلكون عقلاً مركباً [ وليس عقلاً بسيطاً ] وهو قائم في كينونته عن البحث في العلة والمعلول ، وهذا مذهب معلوم عند قدماء الإيرانيين وقدماء الإغريق .. فالتنزيل الحكيم علمياً هو ليس واحداً بل هو مجموعة أبواب وفصول منها ماهو تاريخي وسنني ومنها ماهو أداب وأخلاق ومنها ماهو معاملات وسلوك وعلم و فلسفة ، أي إن ما فيه هو قديم و جديد ؛ والجديد فيه هو كل ما يتناول وضع القوانين والقواعد التي تنظم الشؤون المحلية والإدارية والإقتصادية و السلوكية والمعاملاتية للإنسان ، و كل هذا الجديد يدخل في باب أو فصل الرسالة من التنزيل ، وحين نفترض جدت هذه القضايا فأننا ننطلق من كونها ترتبط بقضايا وحوادث معلومة في زمانها ومكانها أي إن لها سبب موضوعي ، كما هو الحال في الحديث عن المعارك في بدر وحنين وتبوك وغيرها ، وكما هوالحال إيضاً في الكلام عن الظهار وأزواج النبي والمتعة وملك اليمين والكفارة وكثير من القوانين الناظمة للسلوك الإنساني . و صفة الحداثة هذه في التنزيل الحكيم يستوجبها الواقع ويفرضها وهي تنشأ بفعل عوامل التدافع الطبيعي ، ومساحة المحدث كبيرة في التنزيل ، وهي علمياً تستوعب كل وأغلب موضوعات الرسالة المحمدية ، أي إن هذه المساحة هي التي تحدد طبيعة وفكر ومضمون وحركة الرسالة المحمدية في التنزيل ، ومن خلالها يمكننا التعرف على طبيعة وماهية وفعل محمد الرسول - ص - وسيأتي الكلام عن ذلك مفصلاً إنشاء الله بين صفحات التفسير [ وللتوجيه فقط فقضايا وموضوعات الرسالة المحمدية لها شأن وسبب نزول وهذه أحدى أهم خاصياتها المميزة لها عن موضوعات النبوة ] .. والقديم في التنزيل الحكيم هو صفة لطبيعة ونوع الموضوعات التي تبناها وذكرها ودافع عنها – [ أي إن بعض موضوعات التنزيل قديمة حيث كونها تسبق موضوعياً وزمانياً وجود محمد - ص - وبعثته وهذا القديم هو ما يطلق عليه بالقرآن الذي هو فصل خاص في كتاب الله من التنزيل ] . و صفة القدم هي هنا صفة إيجاب وليس صفة سلب بلحاظ موضوعاتها وقضاياها ومتبنياتها ، المرتبطة بكل قضايا التوحيد و العلم والخلق والنبوة والحكمة والقصص التاريخي والسنني والذي يرتبط الكلام فيه عن الغيب ، وصفة كون بعض موضوعات التنزيل قديمة يلغي عنها الحاجة إلى سبب النزول أو شأن النزول كما هو لازم من لوازم الرسالة !! ، وكل ما في هذا الباب من التنزيل الحكيم يعبر عن كل فكر النبوة والغيب والعلم ولايمكن ربط ذلك بفترة زمنية ما . و التفريق بين نبوة محمد ورسالة محمد – ص - ضرورة علمية لتحديد إطار ووظيفة كل واحدة منهما ، فمحمد النبي من حيث كونه نبياً هو ليس محمد الرسول من حيث كونه رسولاً ، والفرق ليس في شخص محمد - ص - بل الفرق هو في محتوى وموضوع كلاً من الرسالة والنبوة [ والنبوة عامة ولا يتطلب الإيمان بموضوعاتها الإيمان بني محدد بعينه ، وأما الرسالة فخاصة والإيمان بها يعني الإيمان بالرسول الذي جاء بها على نحو معين ] . والقرآن هو معجزة النبي محمد - ص - وليس معجزة الرسول محمد – ص - والقرآن هو الفصل الخاص بقضايا العلم في كتاب الله وليس هو كل الكتاب ، والمعجزة هي كل ما يعجز وليس كل ما هو غير مألوف ومن خصائصها إنها تصلح لكل زمان وكل مكان !! وهذا يعني خروج موضوعات الرسالة عن مفهوم المعجزة أو الإعجاز تخصصاً فالصلاة ليست منها ولا الصوم ولا الحج ولا القتال أعني ليس منها كل قضايا السلوك العبادي والمعاملاتي الوارد في كتاب الله ] . فالمعجزة حسب هذا التعريف : هي كل قضايا العلم في الخلق والتكوين ، والتي لا تخضع لقوانين التفسيرالمعمول به والمتبع في المدارس الدينية والتعليم القديم ، بل إنها تدخل في معنى قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم } القول الذي يخرج رجال الدين من معنى قوله - الراسخون - بلحاظ ما يدرسه الفقهاء والوعاظ وأهل المنابرمن موضوعات لا علاقة لها بالعلم ، والتأويل هو مايؤول إليه الشيء أي ما ينتهي إليه ، وهذا ليس من إختصاص أهل الفقه وأصوله ، بل هو من إختصاص علماء الطبيعة والفلك والطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وعلم الجينات وغيرها من العلوم التي تساهم في إكتشاف طبيعة النظام الكوني وما يحتويه ومايؤوسسه . وحين نربط بين العلم والمعجزة فإننا نربط بين خلق الكون والعالم ونهايتهما ، وهو مفهوم يرتبط عندنا بتصحيح الموقف من الساعة وقيامها الموقف القائم بالفعل على معرفة قوانين الحياة والكون لا على أساس الإعتبارات التاريخية والمذهبية الدينية كخرافة الدجال ونزول عيسى وخروج المهدي المنتظر التي لا ربط لها بأي من قضايا العلم بل هي مخيال شعبي ليس إلاَّ ، فالعلم وحده هو القادر على تحليل قوانين الكون والوجود لا الإسقاطات التاريخية والخبرية التي صنعت ضمن جو معين ولغرض معين ، وسيأتي الكلام عن ذلك في حينه من التفسير . والتفسير التجزيئي كما قلنا يقوم بعمله الوظيفي حسب إرادة الراسمين للمصحف وتقسيماته إلى إجزاء وأحزاب وهو تقسيم يخفف من حدة ووطأة البحث والقراءة لمن يتصفح الكتاب العزيز ، ولا نجد دليلاً تاريخياً وعلمياً منطقياً جازماً يقول لنا بان ذلك تم وفق إرادة وفعل النبي أوالرسول محمد - ص - . ولهذا يمكننا عدَّ ذلك من باب الترغيب ليس أكثر ، كما إن المصحف الشريف مرتب على نحو مغاير لزمن النزول ، فعند عامة المسلمين إن أول ما نزل على محمد - ص - هو قوله تعالى : { إقرء بإسم ربك الذي خلق } في حين أول ما يطالعنا في المصحف هو سورة الفاتحة ، وهو إستهلال ومباركة بها ليس غير ذلك وهذا من نتاج عقل الفقهاء ، ثم يأتي الترتيب حسب حجم السورة وعدد الأجزاء فيها وهذا إيضاً ليس من فعل محمد - ص - بل هو فعل متأخر جاء به الجامعين للمصحف ، وهو ما ارتضوه وما أجمعوا عليه وهو كما ترى صناعة فنية محضة ليس إلاَّ ولا علاقة له بالوحي كما قد يظن أو يتوهم البعض فترتيب وتنسيق المصحف على نحوه السائد هو من بناة عقل الكتبة ولا علاقة له بالوحي مطلقاً .. كما إن أسماء السور التي نقرئها في المصحف هي ليست سوى أسماء قام بصناعتها و بتوليفها نفر ممن تولى شأن وصنعة كتابة المصحف وترتيبه على النحو الذي هو عليه الآن ، فسورة البقرة مثلاً أوآل عمران أوالنساء أو غيرها من السور هي من صنع تلك المجموعة نفسها ، وإنما جاء التوظيف و الاشتقاق من وحي المفردات التي وردت في تلك السور ، مما أستدعى جعل ذلك رمزاً للتفريق بين السور وهذا منهم عمل فني وحسب . والتنبيه منا لذلك إنما إردنا منه رفض لطريقة التقديس السائدة عند عامة المسلمين من دون تحقيق وسابق علم ، كما إنه منهج إلتزمنا به منذ أن بدأنا رحلة البحث عن حقيقة النص ومنطق النص ومفهوم الترادف واللاترادف في لسان التنزيل ، .. .