عندما نكتب أو ندون حياة رجل أثر فينا وفي محيطه ومجتمعه ، فالواجب أولاً يقتضي عدم التطير وإلتزام جانب الحرص و الكياسة وعدم الإستعجال ، وثانياً : يقتضي المراجعة الهادئة لكل الدفاتر والأوراق التي أعتنت أو سجلت حياة هذا الرجل في عمله وتحركه ، فالتاريخ والسيرة التي نكتب عنهما وندون لم تكن فرط رغبة من محبين و أصدقاء وحسب بل كانت عبارة عن قناعة وإيمان ، بأن تاريخ الراحل الكبير مفعم بالحيوية والصدق في المجالات التي تحرك بها وعمل سياسية كانت أم إجتماعية أو ثقافية وفكرية ، فكانت هذه وغيرها عامل الدفع والحسم في وجوب تدوين سيرته وتاريخه على نحو واقعي منتظم وواضح ، وكل أولاء كانوا بمثابة القواعد العملية التي على ضوئها أهتدينا وتوكلنا .
ونقول : أن قضية تدوين التاريخ أو التدوين التاريخي تُعرف من الناحية الموضوعية على أنها سجل عام لكل الحوادث والقضايا بل هو في أحيان كثيرة دراسة في الشخصية العامة ، وبما إن ذلك كذلك فهذا يتطلب حتماً وبالذات الكثير من الحرص والكثير من التأني و الرعاية والمتابعة والرصد ، ونظن إن كل تلكم المعاني لن تستوفي جميع الحالة المنصوص عليها ، وهكذا تظل في حالات كثيرة قاصرة في التمكن و الإلمام والإحاطة ، إن لم يرافقها توثيق رصين بالأدلة والبراهين ، ومن جانب أخر تبدو قضية التدوين ذات طبيعة ميكانيكة أو قل ذات صفة مادية ، مما يستوجب فيها رعاية القول المأثور - لا يسقط الميسور بالمعسور - .
إذن فالتدوين التاريخي هو : - ذلك السجل التاريخي الموضوعي للأحداث والقضايا التي حدثت في الماضي ( القريب أو البعيد ) - ، وهو عملياً : يعني تلك الممارسة التي يقوم بها أهل الإختصاص في تحديد ملامح الموضوعات والقضايا ، وكذلك في الرجال الذين أثروا في صياغة الحياة و صناعتها ، وقد أسعفتنا تجربة الثقافة الإنسانية في أنها رصدت هذا الماضي ودونته على شكل أقسام و فصول وأبواب تنسجم والحال التي كان عليها أو فيها .
وفي سجالنا المعرفي وبحثنا عن الحقيقة نعتبر ان التدوين التاريخي هو المادة التي تقربنا للموروث التاريخي في صيغه المتعددة وألوانه المختلفة ، كما أن الكتب الدراسية في المعاهد والجامعات تعتمد في الغالب على التدوين بإعتباره سجلاً للماضي أو فهرستا للموضوعات ، سواء في بيان الطبيعة المادية للتاريخ أو الطبيعة المثالية للتاريخ ، و إن ما دُون فيه كان من أجل تسهيل مهمة البحث العلمي والمعرفي ، فمثلاً تاريخ الأديان وتاريخ الأمم والشعوب والتاريخ السياسي والثقافي والإجتماعي والإقتصادي وغيرهما ، إنما كُتب أو دون بصيغة ما وكان للبحوث والدراسات اللاحقة الفكرية للمدارس المختلفة دورا في الحكم عليه وبيان جهتي الصواب والخطأ فيه ، ومانعتمده في دراستنا هذه ليس على النسخ المدونة من التاريخ بل مما وقع بين أيدينا ومما تعلمناه على نحو مباشر منه رحمه الله ، وولهذا جاءت أحكامنا في هذا السياق موافقة للقواعد والشروط الموضوعية المعتمدة في هذا الشأن والتي ستتكشف لا حقاً .
أي إن ما نحن بصدده الآن من الناحية المعرفية يمكننا إعتباره أو تسميته ( بالتدوين الأولي ) لشخصية الراحل ومراحل تطورها وتكوينها ، مع التأكيد منا بأن ذلك يكون على نحو مستقل ، وسوف نبرز من خلال الحلقات القادمة ذلك عملياً والحاجة أو الأهمية من قراءة ودراسة أخبار الراحل الكبير وتأريخه ، نقول هذا في سياق وعينا التاريخي أو من جهة وعي التاريخ نفسه ، بمعنى إننا سنستعمل الأدوات الفكرية والمعرفية الرائجة لجهة التوضيح لمن يجهل حياته هذا أولاً ، وثانياً للتوقف مع من يرغب في كشف وبيان المحطات المثيرة في حياته رحمه الله .
وثالثاً : شعرت من خلال جملة الرسائل التي وردتنا من البعض أنهم يسألون بعفوية وصدق مدفوعين بحاجة مجردة للمعرفة ، فكان لا بد من الأدلاء ببعض التوضيحات لما يستحقه المقام من شرح وبيان ، ورابعاً : إن حياة الراحل الكبير من جهتنا تستحق التسجيل والتدوين ، لفهم طبيعته الفكرية والإيمانية والوطنية وفهم طبيعته الإنسانية وتجاربه الجديرة بالتدوين والتعريف ، وقد يقول قائل : وهل تصح المقارنة بينه وبين من عاشوا زمنه أو في مرحلته من علماء ومفكرين وقادة سياسين ؟ ، نقول : المقارنة تكون صحيحة إن كان يُراد منها بيان الواقع ، أو يُراد منها رسم المسار والخط الذي كان ينتهجه وما كان عليه والخط الذي عليه الأخرين ، وهنا تكون المقارنة واجبة ومطلوبة ، فشخصية الراحل رحمه الله كانت تركز على مجموعة القيم الإنسانية والسماوية ، وكان في حديثه دائماً يركز على مفهوم العدالة المنصوص عليها بالكتب السماوية والقوانين الإنسانية وفي صيغتي الأمر والصفة ، وهو يرى أن تشكل الدولة الناجحة قوامها العدل الذي يسبق المنادات بالأشياء الأخرى ، ويجد في ذلك تكريس لدور الإنسان المواطن من غير توصيفات تابعة ولا حقة ، بهذا الإعتبار تصح المقارنة مع مفكرين تاريخين وفلاسفة نهضويين ، هذا بملاحظة ان الراحل لم يقصي الحاجة إلى وعي المستقبل من وحي تجارب الأمم والشعوب المختلفة ، ولا ضير عنده في التلاقح الفكري والعملي مع المختلفين طالما يجعل من الحاجة البشرية للحياة الحرة العادلة ممكنة ومتصورة .
وخامساً : نقطة الإرتكاز في فهم شخصية الراحل الكبير هو في إصراره على ان النجاح مرتبط بالتنظيم الدقيق لشؤون الحياة ، وهو يرى في ذلك حافزا لتطور ترتيب وإنتظام المجتمع الناجح ، من هنا كان يرى رحمه الله إن ذلك لا يكون ممكناً في ظل سيادة الجهل و النزعات الضيقة ، ولهذا وجه ورعى بشكل مباشر في دعم التعليم المجاني لجميع الفئات والمراحل ، كذلك طالب بجعل التأمين الصحي من جهة الدولة لكافة المواطنين أمراً واجباً ، منطلقاً في ذلك من حماية المجتمع من العبثية والرأسمالية ومن تجار السوء ، وهو يعترف بأن نشأة الطفل في جو أسري صالح وتعليم صحيح يجعل من المستقبل أكثر إشراقاً ، و سيجعل من الأمة قادرة على حماية نفسها من التصدع والخمول ، وبالتالي يدفعها للشعور بمسؤولياتها الوطنية والأخلاقية ، وكان رحمه الله يعتبر أن آفة تمزيق الوطن الرئيسية يكون من خلال الضغط والضخ الطائفي والمذهبي والقومي الضيق ، وكل ذلك لا يخدم أبداً صلاح الجانب الوطني في مجالي التنمية والإعمار .
إن القيم الأخلاقية والميول الإنسانية التي أوجدها فينا ، كانت ترتكز على قواعد معرفية وإيمانية شديدة الوضوح ، وهذه ساعدت في تسهيل عملية الخروج من الأزمات ولم تتأثر بما يروج له أعداء التجارب الإنسانية الداعمة لمشروع العدالة والتحرير ، ففي نهاية حقبة الستينات من القرن المنصرم شارك الراحل الكبير ، في ظهور جماعة الرفض للنظم الدكتاتورية والمستبدة ، وكتب في ذلك رسالة للمراجع في النجف الأشرف يحثهم على التصدي للموجات التي تكبل الإنسان العراقي وتحرمه حقه في الحياة ، وفي تلك المرحلة كانت تربطه بشخصيات وازنة منهم بعلاقة متينة وحوار صريح ، جعلت منهم مشاركاً فاعلاً في عملية الإعداد للإنقلاب في سنة 1969 م .
وهكذا كان في بداياته الأولى جزءاً من مشروع تغييري كبير ، كما كان جزءاً من تنظيم سياسي واسع جامع يهدف إلى بناء دولة الإنسان ، التي تقوم على أساس العدل والحرية والسلام .
وخلاصة القول في هذه المقدمة : إن الكتابة في تاريخ الراحل وسيرته ، تحتل عندنا مكاناً متقدماً مرموقاً فهي بالنسبة لنا ثقافة ومعرفة وعلم ، فنحن أمام رجل يمكن وصفه بالسياسي أو بالأديب أو بالناشط المدني أو بالفيلسوف الداعي إلى الحكمة والموعظة أو بالإنسان الكادح الذي يعمل ويتحرك بين الناس والجماهير ، وهو نفسه رحمه الله جعل من ثقافتنا أكثر وعياً ومراعاة لطرائق الناس البسطاء ، و جعل من وعينا التاريخي وعياً شعبياً بالمعنى الذي تحدث عنه ابن خلدون ، وتبقى معرفتنا به دليلنا إلى فهم تاريخ وسيرة الرجال المجاهدين والمناضلين ، وتشاء الأقدار دائماً أن لا يطوى من سجل تاريخ هؤلاء ، من دون ذكر مبارك يخلد نضالهم ويخرجه من السرية والكتمان إلى الملأ والعلن ، ومع توكيد بسيط نضيفه هنا : بأن الإعتبارات السياسية والإجتماعية كان لهما دوراً في جعل الكثير من عمل الوطنين سراً ، ورب قائل يقول وتلك نعمة لحماية العمل وحماية العاملين ، كذلك نقول : كان للخشية دورا في عدم الكشف لئلا يضيع الحق قبل ان يبلغ نصابه ، ونضيف إلى هذا وذاك ماكان يتمتع به الراحل الكبير من حرص شديد ، وتواضع وتدبر يجعل من قضية تدوين تاريخه وسيرته والإلمام بهما وبحياته يحتاج للمزيد من التنقيب والبحث .
ملاحظة : كان رحمه الله كما نعرفه لا يرغب بالصخب الإعلامي والتهريج والدعاية ، و التي يرغب بهما غيره من الأخرين وهم كثر ، ولهذا كانت وصيته : - أن لا يعرض له أو عنه شيء من غير ضبط أومراجعة أوتحقيق وتقنين - ، وتمشياً مع هذا السلوك الصارم كان لزاماً علينا أخذ الحيطة والحذر أولاً والاستأذان من خاصته من أهله وأخوته ومحبيه ثانياً ، لعرض بعضاً من جوانب حياتيه التي أُخفيت أو غُيبت عن العامة والناس ..
يتبع في الحلقة المقبلة
راغب الركابي