لقد انتقل دو سوسير باللغة من مرتبة الاجتهاد الفردي إلى مرتبة العلم الدقيق حين عرف اللغة بأنها نظام من الإشارات فلم تعد اللغة ما يعبر به كل قوم عن أغراضهم حيث يظهر تماثلا خارجيا بين الاسم والمسمى بل برزت الصفة الاعتباطية ومن خلالها العلاقة بين الاسم والمسمى من جهة والبنية السطحية والبنية العميقة من جهة أخرى فدو سوسير لا يقصد بالإشارة التسمية اللغوية التي تطابق الخارجي بل هي العلاقة بين الدال والمدلول أو تحديدا بين التصور والصور السمعية.
لقد اتصف النحو التقليدي منذ بداياته بالخلط بين مستويات البحث اللغوي لذا قام دوسوسير بتصفية لهذه المستويات وكان يرى أن الطبيعة الشكلية للغة تستوجب الفصل بين النظرة التزامنية والنظرة التعاقبية فاللغة تعمل كنسق آني يستبعد التأويلات التاريخية والخارجية التي ترتكز على اعتبارات خارجة في جوهرها عن بنية اللغة، من ثم حصلت القطيعة مع التاريخ التي أولتها البنيوية الإيديولوجية فيما بعد في مفهوم البنى الساكنة فاستبدلت مصطلح الحركة بمصطلح العلاقة.
إن التزامن هو اللحظة الحاسمة في فعل اللغة أثناء التحليل ولكنه لا يستغرق كلية التاريخ، فمن الطبيعي أنه تظهر اللغة عن البنية أو النظام ، ولكنه نظام يتطور وهذا التطور هو نظام كذلك. وهكذا يكون هناك تكامل بين التاريخي والساكن يتجاوز ثنائية التزامن والتعاقب.
لقد كتب جاكوبسون يقول (1) : لقد كانت ثنائية التزامن والتعاقب تقابل مفهوم التطور بمفهوم النظام، وها هي قد فقدت أهميتها كمبدأ نظر لأننا أخذنا نتعرف أن كل نظام يظهر بالضرورة كتطور، وهذا التطور من جانب آخر يتوفر بصورة لا مفر منها على صفة نظامية.
لقد قام ديفيد كريستال بمحاولة تحديد المقومات الأساسية لمفهوم العلم فاعتبر الوضوح، النسقية، الموضوعية والضبط الذاتي هي أهم الخصائص الرئيسية للعلم (2). وسوف أتناول هذه الخصائص بالتحليل :
الوضوح : نعني بالوضوح التحقق من الافتراضات التي تبنى عليها الدراسة. وتوضيح التعاريف الدقيقة والمتماسكة منهجيا فلا بدمن الوصول إلى تعريف دقيق للمصطلح الذي لا نعتبره كيانا عرضيا لوصف الشيء بل هو في الحقيقة يحدد مسار العملية والوصفية بكاملها. فيمكن اقتراح الكثير من التعاريف للكثير من المصطلحات نظرا لغياب المعايير الدقيقة التي تهيئ الوصول إلى التعريف الدقيق للمصطلح في النحو التقليدي أوفي علم اللغة على السواء. لكن عالم اللغة يستخدم المصطلح استخداما دقيقا ومتماسكا ويتمثل هذا التماسك في وعي اللغوي للأساس الذي يستند إليه المصطلح وكيفية الوصول إليه وتبني موقفا نقديا من جميع المصطلحات التي يقترحها.
الموضوعية : حين ميز دوركايم بين أحكام القيمة وأحكام الموضوع كان يعي تماما أن الموضوعية تعني مصادرة الأحكام السابقة والاكتفاء بالشيء معيارا لنفسه ثم استبعاد أحكام القيمة. فما يكون مفضلا عندي قد لا يكون مفضلا عند غيري وما اعتبره صحيحا قد لا يقرّ بذلك غيري، فالموضوعية تعني درجة من النسبية والشك تسمح لي بالرجوع إلى الشيء ذاته من دون تكوين فكرة أولية سابقة.
النسقية : نعني بالنسقية القدرة على تجريد الوقائع وتحويلها إلى نماذج مثالية أو قوانين تبسيطية، فالواقعة بذاتها ليست ذات قيمة ما لم تكتسب وجودا ماديا، ذهنيا نتمكن عبره من تحويلها إلى نماذج ذهنية يستدعي بعضها بعضا.
إن المنطق العلمي الحديث يحاول أن يقوم بعملية تجريد تتحول بها الأشياء إلى علاقات لكن هذه النماذج ليست ثوابت فهي مرحلة ضرورية للفهم لذا لا بد من المطابقة بين النماذج والوقائع ليتم الانتقال من المجرد إلى العيني، وحين أقول العيني فلا أقصد الجاهز والمنتهي بل الممكن الأمر الذي يسمح لنا باختيار الوقائع بمقتضى الفروض.
إن علم اللغة حين يطابق بين النماذج والوقائع ثم يصحّح النماذج فهو ينفي أن تكون هذه النماذج صفة مطلقة تامة فهو مفتوح لاحتضان الإمكانيات الأخرى في عملية لا تنتهي من الاستقراء والتعميم.
الضبط الذاتي : لا يهمنا في اللغة المفترض وجوده بل الموجود حقيقة فاللغة ليست بناء فلسفيا أو منطقيا يقبل التأويلات التي تأتيه من الخارج بل هي على العكس تكتفي بما يظهر على سطحها.
لقد اهتم دو سوسير بالتأكيد على دراسة اللغة بوصفها غاية في ذاتها ومن هنا تأتي ضرورة التفريق بين العلاقات اللغوية الداخلية والعلاقات اللغوية الخارجية الأمر الذي قصم ظهر العربية تأويلا وافتراضا من الزجاجي.
إن الوضوح والنسقية والموضوعية والضبط الذاتي ليست مراحل في تطور العلم، بل هي مظاهر العلم ومقوماته وتوجد في وقت واحد.
لقد تردد سابير في اعتبار علم اللغة جزءا من العلوم الإنسانية أو جزءا من العلوم الطبيعية لذلك يطالب علم اللغة بإمكانية الدراسة العلمية الصحيحة للمجتمع التي لا تقلد مناهج العلوم الطبيعية ولا تحاول أن تتبنى مفاهيمها دون تمعن (3).
لقد استفاد ميشال فوكو من هذه التفرقة اللغوية لكي يميز بين العلوم الطبيعية التي تدرس الظواهر بذاتها والعلوم الإنسانية التي تدرس الظواهر باعتبارها تمثلا. فموضوع العلم الإنساني ليس اللغة لذاتها وبذاتها بل تمثل الإنسان للغة، وقد يسمح لنا هذا التمييز أن نسمي الاهتمام الأول علم اللغة والاهتمام الثاني معنى اللغة.