يذهب معظم المسلمون تقريبا إلى فكرة غريبة عن النبي محمد، ويعتبرون أن هذه الفكرة هي من دلائل الإعجاز لدى النبي، أو أنها المعجزة الأكبر لديه، وهي أنه كان نبيا “أميا” بمعنى أنه كان جاهلا لا يعرف القراءة أو الكتابة، وبما أنه “جاهل” فهذا دليل دامغ على معجزته الكبرى، وبالتالي فهو لم يؤلف القرآن، ولم يأت به من عنده، بل هو كتاب الله الذي أنزله عليه، وكأنهم بهذا قد أثبتوا بشكل قاطع لا شبهة فيه أن النبي مُنزه عن التأليف بما أنه كان جاهلا.
ولعل هذه الفكرة إذا ما تأملناها جيدا لوجدنا قصورا حقيقيا وكبيرا في فهم الآيات القرآنية التي جاءت بمثل هذه اللفظة التي ذهبوا من خلال تفسيرها أنها تعني الجهل بالقراءة أو الكتابة، أو حتى القدرة على حساب الأرقام، وفي هذا انتقاص من قدر الرسول، وليس دليلا على أنه منزه عن التدليس الذي يرغبون في نفيه عنه، وهنا لابد من طرح تساؤل مهم حول هذه الفكرة الغريبة التي يذهب إليها جميع المسلمين تقريبا إلا قلة منهم، وهو: هل لم تكن هناك أي معجزة من المعجزات التي من الممكن أن يتمسك بها المسلمون لإثبات صدق القرآن، وأنه منزل من عند الله سوى وصف الرسول “بالجهل”؟
حول هذه الفكرة المهمة التي لابد من نقاشها والتوقف أمامها طويلا؛ لإثبات مدى صحتها وحجيتها صدر كتاب “النبي الأمي القارئ” للباحث جمال السيد درة عن “روافد” للنشر والتوزيع، وهو الكتاب الذي يتوقف طويلا أمام هذه الفكرة محاولا التأكد من مدى وجاهتها سواء على مستوى اللغة وترادفاتها، أو على مستوى التفسير كما جاء في جميع كتب التفسير، كما يستعين المؤلف بالعديد من النصوص الأخرى في التوراة ليعرف ما هو السياق والمعنى الحقيقي الذي جاءت فيه لفظة “الأمي”، أو “الأميين” وما هو المقصود منها، وهل تعني بالفعل الجهل بالقراءة والكتابة، أم تعني معنى آخر لم نلتفت إليه.
يؤكد المؤلف منذ بداية الكتاب أنه “بعد أن طال المفهوم الخاطئ لمعنى “الأمي” في حق الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وبعد أن استخدم المشككون والمبطلون ذلك المفهوم في محاولات كثيرة للنيل منه، تصدى كثير من الباحثين والمفكرين المسلمين لتلك الهجمة، وانبروا للدفاع عن النبي، ولكن ردودهم عامة غلبت عليها العاطفة، بل قالوا إن كانت الأمية مذمومة عند الناس فإنها تُعد من معجزات النبوة، وأصبح الدعاء المُحبب لكثير منهم: “اللهم صلي على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم”، بلا تدبر للمعنى الحقيقي لكلمة الأمي“.
وهنا يطرح المؤلف مجموعة من التساؤلات المشروعة حول المفهوم والمعنى منذ بداية الكتاب كي يحاول الإجابة عنها وإيضاحها، منها إذا كانت عبارة “النبي الأمي” تعني النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب، والتي تُعد نقصا – حسب المفهوم السائد للكلمة-، فلماذا نُصر على تكرارها في الدعاء، ولا نذكره بإحدى شمائله وأخلاقه الحميدة الأخرى، ولماذا استخدم القرآن هذا الوصف في قوله تعالى “الذين يتبعون الرسول النبي الأمي”، وكأنه بيان وتمييز له، وهل يوجد معنى آخر غير المعنى السائد، ولا يمت إلى الكتابة والقراءة بصلة؟ وهل بيّن القرآن الكريم معنى الأمي بصورة قاطعة لا تقبل التأويل، وبيّن معنى جامع للقراءة يمكننا منه أن نزداد فهما لآياته ونزداد معرفة بنبيه؟ وغيرها من التساؤلات التي يضعها الباحث كمنطلق لبحثه يحاول من خلالها الإجابة عليها كي يصل إلى حقيقة المفهوم.
يبدأ الباحث في مناقشة المفهوم من خلال المعجم اللغوي، والفرق بين المرادف والمساوي في اللغة، ويؤكد أن قضية الترادف هي قضية لغوية لها عظيم الأثر في تفسير كتاب الله جل وعلا، وفهم معانيه، وإنما سُمي المرادف مرادفا؛ لأنه يلي المعنى الأصلي، ولكن يبقى المعنى الأول هو الأصيل، ويُستعان بالمعنى المرادف فقط؛ لتسهيل فهم معاني الكلمات الأصيلة للأعاجم وغيرهم ممن لا يعرفون معناها، وللتدليل على ما ذهب إليه يلجأ إلى لسان العرب فيقول: “الردف ما تبع الشيء، وكل شيء تبع شيئا فهو ردفه، وإذا تتابع شيء خلف شيء فهو الترادف”، وفي الحديث عن ابن عباس قال: كنت ردف رسول الله فالتفت إليّ فقال: يا غلام احفظ الله يحفظك، وكنت ردف رسول الله أي راكبا خلفه على دابة، وهذا الترادف لا يعني أبدا المساواة، ولكن يبقى المعنى البليغ الأصلي دالا على المعنى المراد دون غيره.
يوضح المؤلف أنه في حالات كثيرة وقع المفسرون الأوائل في خطأ المساواة بين المترادفات؛ ما ساقهم إلى الدخول في دائرة الغلط عند استعمال هذه المترادفات لتحل محل المعنى الأصلي في آيات أخرى، وفي كثير من المواضع، ونتيجة لعدم التوصل إلى الفهم الصحيح بناء على المعلومات المتوافرة آنذاك، تم ادعاء مقاصد أخرى، ثم تم البناء على ذلك الغلط في أمور أخرى، وأصبحت أكثر رسوخا وضررا مع مرور الوقت.
إن أهل اللغة الأصلاء يعرفون الكثير من الفوارق بين المعاني المترادفة، فيعرفون: أن نظر غير أبصر، وغير شاهد، وغير رأى، ويعرفون: أن أكل غير طعم، وأن شرب غير ارتوى، وكذلك أن للأسد أسماء متعددة ليست بمعنى واحد ولكنها تصف حالات مختلفة للأسد مثل: السبع والليث والضرغام والقسورة وغيرها، وكذلك الإبل: فلها أسماء متعددة مختلفة المعاني، كالهجن والبعير والظعائن والنوق إلى آخره، ومن لا يعرف يحسبها واحدة، وهنا يذهب المؤلف إلى شكل أعمق في البحث اللغوي حينما يحاول الوصول إلى الفارق بين كلمتي تسطع وتستطيع في قوله تعالى “سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا”، وقوله تعالى “ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا” فإذا كان المعنى يتغير بتغير حرف واحد في الكلمة، بل ويتغير بتغير تشكيله على حرف، فكيف لنا أن نقول: يقرأ تعني يتلو، أو أن يخطه بيمينه تعني يكتبه بيمينه.
هنا يذهب المؤلف إلى أن السبب في عدم وصول البعض إلى الفروقات بين المعاني والمدلولات إنما جاء بسبب عدم تمكنهم من اللغة، حيث كان علماء اللغة الأوائل كالنحو والصرف والعروض، وكذلك المفسرين الأوائل الذين جمعوا التفاسير كانت العربية تمثل بالنسبة لهم لسانهم الثاني.
يحاول الباحث البحث في هذا المفهوم عند العرب قبل البعثة فيؤكد عدم وجود ما يشير إلى تداول كلمة “أمي” بمفهومها السائد الآن، والذي يعني عدم القدرة على القراءة والكتابة، ولم يجده في أي نص من النصوص الأدبية القديمة، ويمكن الجزم بأن الكلمة لم تكن متداولة على عهد الرسول بهذا المعنى؛ لأنه ثبت في الحديث الصحيح أن جبريل – عليه السلام- عندما قال للرسول: اقرأ أجابه: ما أنا بقارئ، ولم يقل أنا أمي، ولكن ساد استخدام المعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة بهذا المعنى بعد ورودها في كتب التفاسير كأحد المعاني المقصودة من قوله تعالى “الذين يتبعون الرسول النبي الأمي” وفهم البعض منهم على أنه الرسول الذي لا يقرأ ولا يكتب، وعندما وُصفت الأمة كلها بالأمية في أكثر من موضع في القرآن الكريم مثل قوله تعالى “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم”، وهنا زاد الأمر التباسا عند المفسرين؛ لأن الرسول بُعث وسط العرب الذين اشتهروا بالبلاغة والفصاحة، وفي مكة مكان البيت الحرام التي كانت مركز تجارتهم وأنديتهم، وملتقاهم الثقافي والحضاري الأهم، وكان من بينهم كثير من الذين يقرأون ويكتبون، وقد تكون نسبة الذين يقرأون ويكتبون من تلك الأمة تزيد على مثيلاتها من الأمم المعاصرة، بالإضافة إلى أن الرسول بُعث للناس كافة وليس لقريش أو العرب فقط، فهو ليس كغيره من الأنبياء الذين بُعث كل منهم لقومه فقط، وهنا لا يجوز أن نفهم أن الناس جميعهم أميون بالمعنى السائد، وهنا أعطى المفسرون تفاسيرا متضاربة تدل على حيرتهم، وتقوم أغلبها على التخمين.
هنا يتوقف الباحث أمام آراء المفسرين في تفسير معنى كلمة “الأمي” التي جاءت في القرآن في ستة مواضع، وهي الآراء التي اختلفت وتضاربت، ولكنها رغم هذا التضارب لم تشر من قريب أو بعيد إلى المعنى الذي يستخدمه المسلمون الآن في الإشارة إلى أن معناها يعني الجهل بالقراءة والكتابة، فبالتمحيص في أقوال المفسرين لم يجد الباحث أي إشارة تربط بين الكلمة وبين القراءة والكتابة، وجاءت آرائهم منقسمة فعندما قال الله تعالى “وقل لذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم” أقر القرطبي بأن المراد بالأميين الذين لا كتاب لهم، ولم يتطرق في هذه الآية إلى أنهم الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة، وابن كثير ذكر أن الأميين هم المشركون، فيدخل في كلامه كل الأمم وقتئذ غير أهل الكتاب، ومن المفسرين من قال: إن “الأميين” الواردة في الآية تعني غير اليهود والنصارى، أي الذين لا كتاب لهم، ومنهم من قال: الأميون: الأمم غير اليهود، وقال بعضهم: هم العرب، وقال آخرون: هم مشركو العرب، ولكن يتضح إجماعهم على أن الأميين هم غير الكتابيين عموما من العرب وغيرهم، أو من مشركي العرب، ولم يتكلم أي واحد منهم عن علاقة الكلمة من قريب أو بعيد بالقراءة والكتابة، وهنا يتضح لنا أن جميع المفسرين تضاربوا في تفسير المقصود بالكلمة وما تعنيه، لكنهم لم يشيروا إلى معنى الجهل فيها مرة واحدة؛ مما ينفي عنها مثل هذا المعنى.
هنا نجد ثلاثة آراء اتفق عليها المفسرين في معنى كلمة “الأميين” وهي الرأي الأول القائل بأن المراد بالأميين الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أو مشركي العرب، وهذا قول الطبري والقرطبي، ولكن قولهم من مشركي العرب تخصيص غير مناسب؛ لأن هذا يخصص رسالة محمد لصنف واحد، مع أنه مبعوث للعالمين وتشمل دعوته الأمم غير العربية، وهناك الرأي الثاني القائل بأن المراد بالأميين “العرب” وهذا قول البغوي، الذي يُعيبه استخدام التخصيص ذاته، ليأتي الرأي الثالث القائل بأن المراد بالأميين “مشركو العرب وغيرهم” وهو قول السعدي وسيد قطب في ظلال القرآن، وهذا ما يتطابق مع مفهوم عالمية الدعوة، ولكن كل تلك الآراء على تطابقها أو اقترابها من المعنى لم تتطرق إلى علاقة للكلمة بالقراءة أو الكتابة.
بعدما ينتهي الباحث من تفنيد آراء المفسرين التي أوضح فيها تضاربها وعدم اتفاقها على معنى أو مدلول واحد، وإن كانت كل هذه التفاسير لم تتفق على معنى الجهل في النهاية يحاول أن يجد مفهوم الكلمة في الديانة اليهودية من خلال التوراة، فيوضح أن أحبار اليهود استخدموا تعبير “الأميين” قبل نزول القرآن بقرون، وكانت النظرة اليهودية- ولا زالت- تميز اليهود عن غيرهم، وقد تحدث التلمود عن الفرق بين اليهودي وغير اليهودي، وفي عقيدتهم أن الإسرائيلي مُعتبر عند الله أكثر من الملائكة، وأن اليهودي جزء من الله، فإذا ضرب أمي إسرائيليا فكأنه ضرب العزة الإلهية، وعلى الأمميين أن يعملوا، ولليهود أن يأخذوا نتاج هذا العمل، وبالغوا بالقول أن الله لا يغفر ذنبا ليهودي يرد للأممي ماله المفقود، وهنا يتضح لنا أن لفظة “الأميين” شائعة بين علماء بني إسرائيل ومدونة في كتبهم المقدسة، لكنها تُستخدم للإشارة إلى الأمم الأخرى غيرهم، وكان هذا الوصف متداولا بينهم من قبل أن ينزل القرآن بقرون حتى الآن.
يقول موريس صمويل في كتابه “أنتم أيها الأمميون”: إن الفجوة بين اليهود والأمميين لا يمكن أن تُسد أبدا، ويقول أيضا: ومهما فعلتم أيها الأمميون فلن يلبي ذلك حاجاتنا ومطالبنا، كما نجد لديهم أيضا قولهم: العميان والأغبياء والذين في الظلمة كان يُقصد بهم الأمميون، وكان اليهود تستهويهم الألقاب، وفي شرح العهد الجديد، تفسير الرسالة إلى أهل رومية الإصحاح الثاني: “المسيحي الذي بلا حياة هو أشر من الأممي واليهودي”، وفي نص آخر “ولكن بولس حين قال أن الله سيعامل اليهودي كما الأممي، وأن الكل واحد أمام الله، تصور أن اليهود في ثورتهم سيتساءلون: ألم يكرم الله اليهود ويعطيهم الختان كعلامة عضوية”، وفي آية أخرى “هوذا أنت تسمى يهوديا”، كان اسم يهودي يثير عند صاحبه الكبرياء؛ فهم يظنون في أنفسهم أنهم أفضل من باقي الناس، محبوبين عند الله، مكرمين لذلك وكانوا يصلون: “اللهم أشكرك أنك لم تخلقني أمميا، ولا امرأة، ولا عبدا” فهم يشعرون أنهم فوق العالم.
من خلال ذلك يتضح أن اليهود استخدموا تعبير “الأمميين” وكانوا يتعاملون معهم معاملة مختلفة على أساس أنهم ليسوا أهل كتاب، فكل من ينتمي إلى أمة غير اليهود يُعتبر من الأمميين أو الأميين ويتم معاملتهم بطريقة مختلفة؛ لذلك تأكد معنى قولهم ليس علينا في الأميين سبيل، وهذه المقولة لا يمكن أن يعنى بها “ليس علينا في من لا يعرف القراءة والكتابة سبيل”، فالتجارة بين طرفين أحدهما يهودي والآخر أممي تختلف عن التجارة بين طرفين كليهما يهودي.
يذهب المؤلف إلى القول أن القرآن الكريم لم يترك كلمة الأميين من دون تعرف واضح وصريح لها، فلقد عرفها الله تعالى في سورة البقرة عندما قال: “ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون”، وهنا جاء قول الله تعالى تعريفا دقيقا للأميين؛ حتى لا يحدث التباس منذ البداية، فقول الله تعالى “منهم أميون” تبعه مباشرة التعريف بهم، وهم “الذين لا يعلمون الكتاب” فالمقياس الإلهي للأمية هو: عدم العلم بالكتاب وليس عدم العلم بالكتابة، وهذه الآية لا تحتاج إلى تفسير، بل هي تعريف واضح في أوائل آيات القرآن، وهي بيان في ذاتها وقرينة توضح فهم بقية الآيات المذكور فيها لفظ الأميين أو الأمي، فالأمية حسب التعريف القرآني تشمل كل إنسان في أي بقعة من العالم لا يعلم الكتاب.جبريل والرسول
هنا يكون معنى الأمة الأمية هو الأمة التي لا تعلم الكتاب، سواء بعدم العلم بوجوده، أو بالغفلة عنه مع وجوده، أو بالعلم به وعدم اتباعه، ومفرد الأميين: الأمي، وإذا وُصف فرد من الأميين بالأمي، يكون على أساس اتصافه بما اتصفت به الجماعة من الأميين، ويكون حاله كحالهم من حيث عدم العلم بالكتاب؛ لأنه سُمي أمي لانتسابه إليهم، وكونه منهم، ولا يعلم الكتاب مثلهم، وليسوا هم من سُموا أميين لانتسابهم إليه، وإذا كان النبي مبعوثا منهم فإنه يتصف بما اتصفوا به على إطلاقهم ومن دون استثناء، فيكون أميا لعدم علمه بالكتاب مثلهم، ويُقال له النبي الأمي كما يُقال لهم الأميون، والنبي الأمي وصحابته كلهم كانوا أميين سواء من كان يكتب أو لا يكتب قبل مبعث النبي، ويُستثنى منهم فقط من كان كتابيا وأسلم، فعلي بن أبي طالب كان أميا قبل أن ينزل القرآن مع أنه كان يقرأ ويكتب، وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان، وغيرهم قال تعالي: “تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين”، وقال تعالى: “وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما“.
من خلال الكثير من الدلائل التي ساقها المؤلف في كتابه يتضح لنا أن الحقيقة تنحصر في إنزال كتاب سماوي على رجل أمي من أمة أمية لم يسبق لهم علم بكتاب سماوي، فأصبح العرب بهذا القرآن أمة من أهل الكتاب بعد أن كانت أمة أمية لا كتاب لها، وفي تفسير الطبري: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ومنهم أميون)، قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، فكتبوا كتابا بأيديهم، وقال ابن تيمية في كتابه مجموع الفتاوى: والصواب: أنه نسبة إلى الأمة كما يُقال عامي نسبة إلى العامة التي لم تتميز عن العامة بما تمتاز به الخاصة.
كما أن استخدام القرآن الكريم لكلمة الأميين إنما هو تأكيد لأهل الكتاب الذين يفهمون وحدهم هذا المعنى ليعلموا أن النبي القادم لن يكون منهم كما بشرت به كتبهم، فيسهل عليهم معرفته ويبادرون بتصديقه واتباعه إذا بُعث، وأن إرسال النبي إلى الأميين جميعا يؤكد على عالمية الدعوة.
يحاول المؤلف بعد ذلك توضيح معنى كلمة القراءة؛ للتدليل على أن قول النبي ما أنا بقارئ لا تعني كونه جاهلا بالقراءة والكتابة، فيوضح ان هناك معنيان لكلمة القراءة، الأولى وهي التي يعرفها الجميع أي القراءة من كتاب، أما المعنى الثاني وهو الأعمق فهي القراءة المعتمدة على الحفظ والتلقين، ويُقال لقارئ القرآن: قارئ، سواء كان يقرأ من الحفظ، أو من كتاب، وأثناء الصلاة نستخدم فعل قرأ، مع أن القراءة في الصلاة تكون من الحفظ وليست من كتاب، ويُقال قرأ الإمام سورة كذا، مع أنه يقرأ من الحفظ، وأحيانا ما يكون القارئ أو الإمام فاقدا لحاسة البصر، ونقول قرأ المعوذات قبل النوم، وقرأ الفاتحة على روح أبيه، ولا يشترط في ذلك أن تكون القراءة من كتاب، وكل هذه المعاني المتداولة تؤكد على اتساع معنى القراءة، لتشمل القراءة من الحفظ إلى جانب القراءة من كتاب.
هنا يؤكد المؤلف عن أن قول جبريل للنبي: “اقرأ” ورد النبي عليه: “ما أنا بقارئ” لم يكن يعني أن الرسول كان جاهلا بالقراءة والكتابة، أي أمي، لكنها كانت تعني أنه ليس لديه ما يقرأه، فجبريل عليه السلام سأل الرسول أن يقرأ فرد عليه ما أنا بقارئ، حتى يستوعب التغير الذي سيحدث له، كما سُئل موسى: ما تلك بيمينك يا موسى؟ كانت إجابته اعترافا وتأكيدا بانها عصاة؛ فلا يشك أنه كان ممسكا بشيء آخر بعدما يرى أمامه العصا تحولت إلى حية تسعى، فلا يظن أنه كان ممسكا بحية، كذلك فبعد إجابة الرسول واعترافه قولوه ما أنا بقارئ، أي ليس لدي ما أقرأه، جاءت أولى آيات القرآن “اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم”؛ ليستوعب الفارق ويستشعر ما حدث بداخله، فهو لم يكن حافظا شيئا ليقرأه، او أمامه كتاب ليقرأ منه، ولكنه رجع إلى خديجة قارئا.
كتاب “النبي الأمي القارئ” من الكتب البحثية المهمة التي تحاول القضاء على الأفكار المغلوطة التي يرددها المسلمون ليل نهار رغم خطأها وإهانتها للنبي، وللدين نفسه باتهام النبي بالجهل هو وأمته بالكامل، في حين أن العرب كان منهم الكثيرون جدا ممن يعرفون القراءة والكتابة، وهو من الكتب التي نحن في أمس الحاجة إليها من أجل القضاء على الكثير من الأساطير الدينية التي تسيطر على عقول المسلمين.