خطأ تاريخى، هذا هو الوصف الحقيقى للإتفاق النووى الإيرانى مع الدول الكبرى، والذى أطلقه بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل سريعاً وتلقائياً، إنه خطأ تاريخى بكل ماتعنى الكلمة، حتى لو غير نتنياهو رأيه يوماً ما، بسبب تطمينات الغرب ورشاويه المتوقعة، بما فى ذلك جزء من سوريا، فسوف يظل تصريحه الأول التلقائى هو الحقيقة التى سيسجلها التاريخ فيما بعد. ولكن، لماذا إرتكبت الدول الكبرى هذه الخطأ التاريخى، هناك فى الواقع عدة أسباب وليس سبب واحد!!!
عدم رغبة أمريكا والدول الكبرى التورط فى صراعات الشرق الأوسط مرة أخرى، إلا فى أضيق الحدود، القناعات التى أصبحت سائدة فى أوساط الساسة الغربيين بأن العالم الإسلامى هو عالم غير مستعد لتقبل فكرة الحرية، وأنه لا يمكن أن يعيش إلا فى ظل ديكتاتورية دينية، وهى القناعات التى يمكن أن نطلق عليها مجازاً، قناعات اللورد كرومر، والتى أكدتها تجربة غزو العراق وفشل محاولة تأسيس ديموقراطية حقيقيةً فيه، وكذلك ما أسفرت عنه ثورات الربيع العربى من صعود الأصوليات الإسلامية على حساب فكرة الدولة القومية العلمانية، الإكتفاء المتوقع من البترول مستقبلاً، غياب أى قوى راشدة بديلة فى الإقليم، يمكن الإعتماد عليها فى تهدئة هذا الإقليم المنكوب وتطهيره من الميليشيات الإرهابية المسلحة، بعد فشل مشروع الحلف السنى الإخوانى بقيادة تركيا، أو حلف الإسلام المعتدل، وهو المشروع الأساسى الذى كان يقصد به القضاء على التنظيمات الإرهابية المسلحة من ناحية، وردع إيران من ناحية أخرى، وذلك بعد أن أثبتت التجربة ضعف هذا الحلف وتباين مكوناته، من ضعف بنيوى فى تركيبة قيادة الحلف التركية نفسها، إذ أن حوالى ربع سكان تركيا هم من الشيعة، وحوالى مثلهم من الأكراد المعادين للدولة التركية، سقوط سريع للإخوان فى مصر بإرادة شعبية لم يعد من الممكن تجاهلها أو نكرانها، الفشل فى إعادة الحشد الإخوانى مرة أخرى على أرض تركيا، بحيث لم يتجاوز عدد الميليشيات الإخوانية التى أمكن تجميعها من كل أنحاء العالم حوالى خمسة آلاف مقاتل، كلف حشدها وتدريبها أمريكا ودول الخليج ملايين الدولارات دون طائل، الخلاف الشديد بين مصر والسعودية، جناحى الحلف المفترضين، على الدور الإخوانى، فبينما مازلت السعودية تصر عليه، فإن مصر مازلت ترفضه، كل ذلك فى ظل بروز حلف شيعى إيرانى بديل يملك مقومات القوة والوحدة والقدرة على السيطرة على ميليشياته.
وتبقى بعض أسباب إضافية هامة مثل تجذر فكرة(الثورة الدبلوماسية) فى ثقافة الساسة الغربيين، وهو الإصطلاح الذى يقصد به تغيير التحالفات المفاجئ لمعالجة موقف سياسى معقد، كما حدث فى حرب السنوات السبع(1756-1763)حين إستخدم هذا الإصطلاح لأول مرة بسبب تحالف فرنسا والنمسا، العدوتين الكاثوليكيتين التقليدين، ضد ظهور وطموح بروسيا فى توحيد ألمانيا، وكما حدث فى الإتفاق الودى بين إنجلترا وفرنسا سنة 1904م، وكما حدث فى تحالفات الحربين العالمية الأولى والثانية، فكلها تحالفات مع خصوم سابقين، أو حتى أعداء تقليديين، لكنها أثبتت جدواها، وكذلك الإفتراض الذى تبنته الإدارة الأمريكية بشكل خاص، وهو أن إيران القوية المتصالحة مع العالم سوف تكون أقل عدوانية وقابلية للتفاهم مع الدول الكبرى، على حدود نفوذها وطموحاتها فى الشرق الأوسط، وهو الإفتراض الذى يؤدى بنا إلى السؤال الهام الأول، هل هذا صحيح، أم أن تصريح نتنياهو هو الصحيح، وأنه لايمكن الرهان على الأصوليات، وأن إيران الخمينى ليست فى الواقع سوى الوجه الآخر لتنظيم الدولة الإسلامية؟ كل المعطيات تشير إلى أن تصريح نتنياهو هو الصحيح، وأن قرار الدول الكبرى بالتساهل مع إيران وإعطائها الفرصة لتحقيق طموحها فى أن تكون الدولة المسيطرة فى الإقليم، مقابل تهدئته وضمان مصالح العالم به، هو قرار متسرع، نابع أساساً من نفاذ الصبر، والرغبة فى الخروج السريع من ذلك الإقليم المنكوب.
فالدولة التى أسست على فكرة دينية تستمر فى شن الحرب إلى الأبد، لإنها بدون ذلك تفقد مبرر وجودها، مثلها مثل كل الخلافات الإسلامية، إن الإفراج عن مليارات الدولارات، وإستئناف تصدير النفط، يعنى مزيد من الثروة والقوة، وكما تمنح الثروة القوة مزيد من الحكمة، فقد تمنح أيضاً مزيد من الطمع والغرور وهذا هو المرجح فى الحالة الإيرانية، إن الشرق الأوسط مجال مفتوح للمغامرات السياسية المغلفة بالدين، فبفرض تحقيق الإنتصارعلى تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق وسوريا ولبنان، وتثبيت النفوذ فى هذه البلاد، فمازال هناك ساحل الخليج العربى المزدحم بالأقليات الشيعية، ومازال هناك اليمن، والمغامرة اليمنية لم يجف مدادها بعد، ومازلت السفن الإيرانية راسية فى سواحل إرتريا مقابل عدن، وكما فى اليمن فهناك فى غزة تيار تشيع صاعد تتزعمه حركة الصابرين الشيعية، هذا بالإضافة إلى جنوح الجناح العسكرى من حركة حماس للتحالف مع إيران وليس مع السعودية، وحتى مصر القومية، فإن السوس قد بدأ ينخر فى عظام قوميتها بسبب حزب المهابيل، المسلم القبطى، المسلم المتدين الذى لايستطيع أن يقاوم إنبهاره بأى نموذج إسلامى ناجح يداعبه بتحرير القدس وبأمجاد صلاح الدين، بصرف النظر عما إذا كان شيعى أو سنى، وهو ما تروج له إيران بمهارة رغم إدراكها التام أن إسرئيل خط أحمر، والأصولى القبطى الذى فقد إيمانه بالدولة القومية، أو لعله لم يؤمن بها أصلاً، وراح يتصور أن الأصولية الشيعية أكثر حنية من الأصولية السنية، تماماً كما كان الفاطميين الشيعة حلفاء الكنيسة، أكثر حنية من الأتراك السنة، وهو ماتدركه إيران أيضاَ وتروج له بمهارة من خلال توسيع خطابها السياسى، وتصوير نفسها كمحرر لمختلف الأقليات الدينية وليس الشيعية فقط، ففى الشرق الأوسط عندما يكون سلاحك هو الدين فكل شئ ممكن، ولذلك فالأرجح أن إيران لن تتوقف، وسوف يقودنا هذا الإستنتاج إلى السؤال الهام الثانى، وماذا سيحدث لو لم تتوقف؟
إذا لم تتوقف إيران ستندلع حرب إقليمية شاملة، حرب تغذيها المشاعر القومية والدينية معاً، فالحزب السنى ومهما كانت نقاط ضعفه، مازال يملك إمكانات المقاومة، خاصة إذا ماإنضمت إليه إسرائيل وهو المتوقع، حرب تزيد ضراوة عن حرب الثلاثين عام الأوربية، حرب لن تستطيع الدول الكبرى أن تمنعها، حرب إذا إنتصرت فيها إيران يكون قد حُكم على هذا الإقليم بالعبودية إلى الأبد، وإذا إنتهت بلا منتصرولا مهزوم، ومجرد مزيد من الخراب على الشرق الأوسط وسكانه، نكون قد عدنا إلى نقطة الصفر مرة أخرى لندرك أن الدولة القومية العلمانية كانت هى الحل الذى كان يجب أن تتبناه الدول الكبرى مهما إحتاج ذلك إلى وقت، وأن نتنياهو كان على حق!!!