كان من المفترض أن يكون 2 كانون الأول/ديسمبر “جمعة أبطال محمد محمود” في القاهرة. فقد قتلت قوات الأمن في الأسبوع السابق نحو 40 شخصاً بينما كانوا يتظاهرون في “ميدان التحرير”، حيث وقعت أسوأ أعمال العنف في شارع محمد المحمود المجاور. وإحياءاً لذكرى الموتى،
دعا نشطاء الشباب المصريون إلى مسيرة مليونية، بأعلام مصرية بحجم الباراشوت للتعبير عن روحهم وتوابيت وهمية للتعبير عن حزنهم. بيد أنه للمرة الثانية خلال خمسة أيام لم تنجح الدعوة إلى جلب مليون متظاهر إلى “ميدان التحرير” في جمع سوى المئات. ومع تحدث المتظاهرين فقط من خلال مكبرات الصوت التي بالكاد تُسمع، كانت خيبة الأمل ملموسة وواضحة. وقد عرض مصطفى محمود، العضو في “حركة شباب 6 نيسان/أبريل” التي لعبت دوراً محورياً في تنظيم المظاهرات التي دفعت حسني مبارك للتخلي عن السلطة في شباط/فبراير، تقييما فظاً لهذا الواقع المخيب للآمال بقوله: “لقد ماتت الثورة”.
وبعدها بأربعة أيام، كنت في منطقة العمرانية في الجيزة على الناحية المقابلة من النيل التي يسكنها أناس ذوي دخول منخفضة، حيث تجمع حشد ضخم في خيمة ملونة قائمة في ميدان مليء بالغبار. وهناك ألقى مرشح برلماني بارز من قبل “حزب النور السلفي” خطاباً قدم فيه نظرة مختلفة تماماً عن الانتفاضة المصرية. فقد قال الشيخ محمد الكردي “أشكر الشباب على ثورة 25 كانون الثاني/يناير. لأنهم هم من أشعل الثورة. وهذا هو سبب وجودنا هنا اليوم.. فلا تزال الثورة بين أيدينا ولا تزال الثورة مستمرة”. وبجواره جلس مبتسماً إبراهيم كامل، طبيب وزعيم محلي لـ “حزب النور”، وهمس في أذني قائلاً “لم يكن بوسعنا في الأيام الخوالي أن نفعل هذا”. لقد كان النشاط السياسي للسلفيين محظوراً في ظل حكم مبارك؛ وذكر كامل أنه سُجن لمدة سنة في عام 1993 نتيجة نشره التماساً. واليوم لم يخرج السلفيون إلى النور فحسب، وإنما أخذ نجمهم في الصعود كذلك.
إن الثورة المصرية لم تَمُت — لكنها غيرت مسارها بشكل كبير. فبينما يتشبث نشطاء “التحرير” من الشباب بالمظاهرات في الشوارع، ركز أعضاء الجماعات الإسلامية مثل “حزب النور” و جماعة «الإخوان المسلمين» على صناديق الاقتراع، حيث فازوا بالناخبين من خلال إعطائهم وعود بفرض نظام قانوني قائم على الشريعة يشمل حظراً على الكحوليات ويتيح معاملات مصرفية خالية من الفائدة. وقد استحوذ هذان الحزبان على ما يقرب من 65 بالمائة من المقاعد في الجولة الأولى من أول انتخابات في مصر ما بعد مبارك. (يشار إلى أن الانتخابات تجري في ثلاث جولات لضمان توافر العدد الكافي من القضاة لمراقبة كافة أماكن الاقتراع). وفي غضون ذلك، فازت “الكتلة المصرية” الليبرالية بـ 14 بالمائة من الأصوات فيما لم يفز “تحالف الثورة مستمرة”، وهو مجموعة من الناشطين الشباب حاولوا الانتقال من مرحلة الاحتجاج إلى السياسة، سوى بأربعة بالمائة من الأصوات. وحسبما ذكر مرشح برلماني سلفي آخر، وهو ممدوح إسماعيل، أمام حشود في العمرانية، فإن البلاد قد دخلت “الجزء الثاني من الثورة…وهو الوقت الذي يدخل فيه المنقذون إلى البرلمان”. وغني عن القول أنه عندما خرج نشطاء الشباب المؤيدون للديمقراطية في مصر إلى “ميدان التحرير” قبل أحد عشر شهراً، لم يكن رجال الدين في “حزب النور” المنقذون الذين كانوا في أذهان هؤلاء الشباب.
وكان عمرو عز، البالغ من العمر 28 عاماً، من بين المخططين الاستراتيجيين الرئيسيين لمظاهرات 25 كانون الثاني/يناير التي أشعلت الثورة المناهضة لمبارك. وبصفته زعيماً لـ “حركة شباب 6 نيسان/أبريل”، فقد أتقن فن حشد الجماهير على مدار سنوات. وتشتق الحركة اسمها من احتجاجها الأولي في عام 2008، عندما قادت استخدام الـ “فيسبوك” لحشد الأنصار. وفي عام 2009، بدأ عز وسيلة جديدة لتنظيم الشارع، تبدأ فيها المظاهرات من المناطق الشعبية – التي تقطنها الطبقة العاملة – وليس من المناطق المركزية التي تعرف الشرطة كيفية تطويقها. كما أن هذه الاستراتيجية ربطت النشطاء بشكل أوثق بالجمهور الأوسع نطاقاً. وذكر عز في أول مقابلة لي معه في آذار/مارس أنه “في الأيام الخوالي، كنا نحمل لافتات تقول عبارات من قبيل ‘يسقط الرئيس’ أو ‘تغيير النظام’ لكن لافتاتنا الأخيرة كانت بشأن الأسعار وقسوة الظروف وطريقة عيش الناس…لقد عملنا في الأحياء والشوارع لكي يتمكن الناس من رؤيتنا”.
ويرجع نجاح احتجاجات 25 كانون الثاني/يناير بشكل كبير إلى رؤية عز الاستراتيجية. ففي الساعة العاشرة تقريباً من صباح ذلك اليوم، انطلق النشطاء الرواد من المنظمات الشبابية الكبرى المؤيدة للديمقراطية بمصر في مسيرات من المناطق الشعبية. ومن خلال اتباع التعليمات التي كانت تُرسل إلى هواتفهم المحمولة، تقابل النشطاء من المستويات الأدنى عند نقاط عديدة في طريقهم إلى مواقع الاحتجاج المركزية التي تم الإعلان عنها على الإنترنت. وبيّن عز أن الهدف كان هو خلق تأثير مشابه لتأثير كرة الثلج، بحيث تتضخم المسيرات مع اقتراب المظاهرات من الأماكن المعلن عنها، بحيث تفوق أعداد المشاركين في المسيرات أعداد رجال الشرطة المنتظرين لهم بشكل كبير. وبالكاد توقع النشطاء نجاح هذه الاستراتيجية على نطاق واسع: وقد أخبرني قائد “حركة شباب 6 نيسان/أبريل” الشاب أحمد ماهر أنه لم يتوقع مشاركة أكثر من 3000 شخص، وهو ما كان سيعادل تقريباً ثلاثة أضعاف من انضموا إلى الأنشطة المناهضة للنظام التي قامت بها الجماعة. لكن مع حضور الثورة التونسية في أذهان المصريين، دوَتْ صيحات “التغيير والعدالة والمساواة الاجتماعية”. وتدفق المصريون إلى الشوارع بالآلاف، واندفعوا إلى “ميدان التحرير” من كل حدب وصوب. وبعد ثمانية عشر يوماً عاصفة، استقال مبارك.
إن السرعة التي تمت بها الإطاحة بديكتاتورية مبارك التي كانت لا تقهر ذات يوم أصابت الجميع تقريباً بالدهشة – لا سيما النشطاء الشباب الذين أمضوا وقتاً طويلاً في التخطيط لاحتجاجات مناهضة لمبارك، لكن لم يكن لديهم وقت فعلي لدراسة ما يمكن أن يقوموا به في حالة سقوط مبارك. وبذلك لم تكن لديهم مبادئ راسخة للتعامل مع “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”، الذي تولى حكم البلاد في 11 شباط/فبراير؛ كما لم يكن لديهم أي مطالب راسخة لمرحلة ما بعد مبارك، ولم تكن هناك استراتيجية لاستخدام احتجاجات الشوارع لتعزيز أهدافهم. وفي الواقع، خلال الأسابيع التي تلت الإطاحة بمبارك روّج المصريون لنكتة تقول إن النشطاء الشباب كانوا مثل الناس الذين هبطوا على سطح القمر وطلبوا كباب: فهم قد حققوا شيئاً لا يمكن التفكير فيه ولم يكن لديهم أية فكرة عما يفعلوه بعد ذلك. وأخبرني عز بنغمة حزينة “أثناء عهد مبارك، لم نكن مستعدين مطلقاً لقيادة البلاد. لذا فقد ضللنا الطريق”.
وقد ظهر ذلك. فعلى مدى الأشهر التسع التالية، تظاهر النشطاء كل أسبوع تقريباً حول مجموعة عريضة من القضايا. فقد طلبوا، من بين أشياء أخرى، صياغة دستور جديد قبل إجراء الانتخابات، واعترضوا على استخدام “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” للمحاكمات العسكرية للمدنيين ودعوا إلى اعتقال مسؤولي النظام السابق ودعموا الإفراج عن السجناء السياسيين. ورغم نُبُل هذه الجهود، إلا أنها فشلت غالباً في جذب دعم ذي مغزى. وكان يعود ذلك جزئياً إلى شن حملة إعلامية مكثفة ضدهم من قبل “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”، الذي اتهم المحتجين بقبول تمويلات أجنبية، والهجوم على مبانٍ حكومية، وإثارة الفوضى. لكن بدا أن الجمهور المصري كان على استعداد حقاً لمنح التحول الذي يقوده الجيش فرصة، اعتقادا منه على ما يبدو بأن الخطوة التالية في مصر تعتمد على الانتخابات البرلمانية التي بدأت في تشرين الثاني/نوفمبر فضلاً عن إيمانه بانتهاء وقت الاحتجاجات في الشوارع.
وفي مستهل تشرين الأول/أكتوبر، توصل عز والعديد من زملائه إلى النتيجة ذاتها. فمع اقتراب الانتخابات البرلمانية، شكّل النشطاء «تحالف الثورة مستمرة»، والذي جمع 280 مرشحاً تحت مظلة انتخابية واحدة، من بينهم نشطاء شباب رواد من ثورة 25 كانون الثاني/يناير. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر أعلن عز قراره بالترشح للبرلمان ممثلاً عن حي إمبابة ذو الطبقة العاملة، وافتتح مكتب صغير لحملته الانتخابية بالقرب من وسط منطقته. لكن عند اندلاع موجة جديدة من الاحتجاجات الجماهيرية في 18 تشرين الثاني/نوفمبر، بعد أن قامت قوات الأمن بإنهاء اعتصام صغير في “ميدان التحرير” باستعمالها العنف، علّق «تحالف الثورة مستمرة» حملاته بشكل مؤقت. وقام المرشحون الجدد مرة أخرى بمواجهة الغاز المسيل للدموع واحتلوا الميدان حتى وافق “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” على إجراء انتخابات رئاسية بحلول 30 حزيران/يونيو 2012.
وفي النهاية، لم يفز سوى مرشح واحد فقط من مرشحي «تحالف الثورة مستمرة» في الجولة الأولى، وكان عضواً قديماً انتخب سابقاً في البرلمان. وأخبرني عبد الرحمن فارس، أحد زملاء الناشط عز الذي ترشح في الفيوم عن «تحالف الثورة مستمرة»، “أمضيت أسبوعاً في “التحرير” بسبب الأحداث، لذلك لم تستمر حملتي لأكثر من يومين”. وهذا يعني على أقل تقدير، أنه لا مجال للترشح للانتخابات، ناهيك عن الفوز بها. وبسبب الافتقار إلى الكثير من المال، تمكن فارس فقط من طباعة 40,000 كتيب دعاية لمنطقة تضم 700,000 ناخب. وفي النهاية، فاز مرشحان من جماعة «الإخوان المسلمين» في الانتخابات التي جرت في المنطقة.
سوف تجري الانتخابات في منطقة عز، إمبابة، أثناء الجولة الثانية، المقرر أن تبدأ في 14 كانون الأول/ديسمبر. ويشار إلى إمبابة على سبيل الفكاهة بأنها “جمهورية إمبابة الإسلامية”، وعندما زرتها، وجدت لافتات جماعة «الإخوان المسلمين» و”حزب النور” تجتاح التقاطعات. وقد افتتح كلا الحزبين مؤخراً مقاراً محلية، وقد عبّر عملياً كل من تحدثت معهم عن موافقتهم. وأخبرني أحمد خلف، البالغ من العمر 20 عاماً، بقوله “إنني مع أي شخص يحكم بموجب الشريعة، إن «الإخوان المسلمين» يتظاهرون ويسيرون في الشوارع، ويدعمهم الناس وهم منظمون للغاية”. وعلى النقيض من ذلك، بدا النشطاء الثوريون أقل شعبية.
وعندما قابلت عز في مقر حملته، كان يتنقل في سيارة توك توك ثلاثية العجلات – وهي مركبة غير مناسبة للحملات الانتخابية، إن كانت هناك حملة على الإطلاق. وبعد تحيتي بحرارة، كان عليه أن يتلقى مكالمة بسرعة. سمعته يقول في إشارة إلى جماعة «الإخوان المسلمين» “إنهم ينشرون شائعات بشأني في المنطقة. لا يوجد أي فرق بين جماعة «الإخوان المسلمين» و«الحزب الوطني الديمقراطي»” – ذلك الحزب الذي كان بزعامة مبارك. وفي غضون ذلك، رحّب بي متطوعان في مكاتبه الصغيرة، والتي بدت مثل مرآب سيارة واحدة وليس غرفة حرب لحملة انتخابية. وقد كان الدخان والقمامة في كل مكان، وفي الخلفية كان هناك حاسوب ضخم موضوع على مكتب بالٍ.
وقد سألت عز كيف خطط للتغلب على التمويل والتنظيم الفائقين لخصومه الإسلاميين. قال لي “لقد وُلدت هنا وأعرف المنطقة جيداً وغالبية الشباب ليس لديهم أي أيديولوجية. وبشكل عام، لا يوجد لدى معظم المصريين أي أيديولوجية”. وقد أشرت إلى أن ذلك لا يتوافق مع نتائج الجولة الأولى من الانتخابات – فقد أظهرت النتائج الأولية بالفعل انتصارات هائلة للإسلاميين. ورد عز قائلاً “يستخدم الإسلاميون مسألة الدين للتأثير على الشعب المصري. وهذا لا يعني أن من يصوت للإسلاميين يدعم أيديولوجيتهم”. واعترف في النهاية أن معركته كانت شاقة ومن غير المرجح أن يتم الفوز بها في الانتخابات الحالية. وأضاف، “الإسلاميون هم الجماعة الأكثر تنظيماً الآن. لكن بمرور الوقت، سيقل هذا التنظيم أكثر فأكثر، وسوف يخسرون الشوارع لأن لديهم ميل لطرد الناس”.
ورغم ذلك فإن الإسلاميين لا يفوزون فقط بسبب مواردهم وتنظيمهم الفائقين. لكنهم يستفيدون كذلك من رابط عاطفي مع الجمهور المتدين بشكل كبير في مصر. وتقول مروة، التي تعمل في منطقة حلوان بالقاهرة “إنهم يمثلون ديننا. ونحن نحتاج إلى الدين في بلادنا”.
وعلى الرغم من الوضع القاتم بالنسبة لليبراليين، حذرت هالة مصطفى، المتحدثة باسم “الحزب الديمقراطي الاجتماعي” الذي تشكل حديثاً، من اعتبارهم كفاشلين. فقد قالت “لقد كانت جماعة «الإخوان المسلمين» قائمة لمدة ثمانين عاماً، واليساريون موجودون لمدة أربعين أو خمسين عاماً. لكن الليبراليون توحدوا منذ ثلاث أو أربع سنوات. ولا يمكنك أن تقارن رجلاً ضخما بطفل صغير”. ومن جانبه، فإن فارس، زميل عز الذي خسر الانتخابات في الفيوم، مقتنع بأن الشعب المصري هو مع غير الإسلاميين، برغم ما تقوله الإحصائيات النهائية للتصويت. يقول “ربما تقول نتائج الانتخابات إننا متجهين نحو إقامة دولة إسلامية. لكن الشارع ما يزال معنا”.