أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي
فهّمك الله النافعات، وأسعدك في دار الحياة ودار الممات.
فهمتُ الذي سألتَ من رسم قول في العقل، موجز خبري، على رأي المحمودين من قدماء اليونان، ومن أحمدهم ارسطوطاليس ومعلمه أفلاطون الحكيم، إذ كان حاصلُ قول أفلاطون في ذلك قول تلميذه أرسطاطاليس (أرسطوطاليس أو أرسطو).
فلنقل في ذلك، على سبيل الخبري، فنقول :
إن رأي أرسطاطاليس في العقل أن العقل على أربعة أنواع : الأول منها العقل الذي بالفعل أبداً. والثاني العقل الذي بالقوة، وهو النفس. والثالث العقل الذي خرج في النفس من القول إلى الفعل. و الرابع العقل الذي نسميه الثاني.
وهو يمثّل العقل بالحس لقرب الحس من الحيّ، وعمومه له أجمع، فانه يقول : أن الصورة صورتان : أما إحدى الصورتين فالهيولانية، وهي الواقعة تحت الحس. وأما الأخرى فالتي ليست بذات هيولى، وهي الواقعة تحت العقل، وهي نوعية الأشياء وما فوقها.
فالصورة التي في الهيولى ، هي التي بالفعل محسوسة ، لأنها لو لم تكن بالفعل محسوسة ، لم تقع تحت الحس. فإذا أفادتها النفس فهي في النفس. وإنما تفيدها النفس لأنها في النفس بالقوة، فإذا باشرتها النفس صارت في النفس بالفعل. وليس تصير في النفس كالشيء في الوعاء، ولا كالمثال في الجرم، لأن النفس ليست بجسم، ولا متجزئة، فهي في النفس والنفسُ شيء واحد لا غير… وكذلك أيضاً القوة الحاسَّة ليست هي شيئا غير النفس، ولا هي في النفس كالعضو في الجسم، بل هي النفس، وهي الحاسُّ .
وكذلك الصورة المحسوسة ليست في النفس كغير… فإذن المحسوس في النفس هو الحاس. فأما الهيولى فإن محسوسها غير النفس الحاسَّة، فإذن من جهة الهيولى المحسوس ليس هو الحاس. وكذلك يمثل العقل : فإن النفس، إذا باشرت العقل، أعني الصور التي لا هيولى لها ولا فنطاسيا اتحدت بالنفس، أعني أنها كانت موجودة في النفس بالفعل، وقد كانت قبل ذلك لا موجودة فيها بالفعل، بل بالقوة.
فهذه الصورة التي لا هيولى لها ولا فنطاسيا هي العقل المستفاد للنفس من العقل الأول ، الذي هو نوعية الأشياء التي هي بالفعل أبداً. وإنما صار مفيداً، والنفسُ مستفيدةً، لأن النفس بالقوة عاقلة، و العقل الأول بالفعل. وكلَّ شيء أفاد شيئا ذاته، فإن المستفيد كان له ذلك الشيء بالقوة، ولم يكن له بالفعل. وكل ما كان لشيء بالقوة فليس يخرج إلى الفعل بذاته، لأنه لو كان بذاته كان أبداً بالفعل، لأن ذاته له أبداً ما كان موجوداً. فإذن كل ما كان بالقوة فإنما يخرج إلى الفعل بآخر، هو ذلك الشيء بالفعل. فإذن النفس عاقلة بالقوة، وخارجة بالعقل الأول – إذا باشرته – إلى أن تكون عاقلة بالفعل. فإنها إذا اتحدت الصورة العقلية بها، لم تكن هي والصورة العقلية متغايرة، لأنها ليست بمنقسمة فتتغاير. فإذا اتحدت بها الصورة العقلية فهي والعقل شيء واحد، فهي عاقلة ومعقولة. فإذن العقل والمعقول شيء أحدٌ من جهة النفس.
فأما العقل، الذي بالفعل أبداً، المخرجُ النفس إلى أن تصير بالفعل عاقلةً، بعد أن كانت عاقلةً بالقوة، فليس هو ومعقوله شيئاً أحداً. فإذن المعقول في النفس والعقل الأول، من جهة العقل الأول، ليس بشيء واحد. فأما من جهة النفس فالعقل و المعقول شيء أحد. وهذا في العقل هو بالبسيط أشبه بالنفس، وأقوى منه في المحسوس كثيراً.
فإذن العقل أما علة وأوَّل لجميع المعقولات والعقول الثواني، وأما ثانٍ وهو بالقوة للنفس ما لم تكن النفس عاقلة بالفعل. والثالث هو الذي بالفعل للنفس، وقد اقتنته وصار لها موجوداً، متى شاءت استعملته وأظهرته لوجود غيرها منها، كالكتابة في الكاتب فهي معدَّة ممكنة قد اقتناها وثبتت في نفسه، فهو يخرجها ويستعملها متى شاء. وأما الرابع فهو العقل الظاهر من النفس، متى أخرجته، فكان موجوداً لغيرها منها بالفعل.
فإذن الفصل بين الثالث والرابع أن الثالث قنيةٌ للنفس، قد مضى وقت مبتدأ قنيتها، ولها أن تخرجه متى شاءت، والرابع أنه إما وقت قنيته أولاً، وأما وقت ظهوره ثانيا، متى استعملته النفس. فإذن الثالث هو الذي للنفس قنية قد تقدمت، ومتى شاءت كان موجوداً فيها، وأما الرابع فهو الظاهر في النفس متى ظهر بالفعل.
و الحمد لله كثيراً بحسب استحقاقه.
فهذه آراء الحكماء الأولين في العقل. وهذا – كان الله لك مسدِّداً – قدرُ هذا القول فيه، إذ كان ما طلبتَ القول المرسل الخبري الكافي، فكن به سعيداً !
strong>