مع بداية القرن السادس عشر بدأت أوربا تنتقل تدريجياً من مرحلة الرأسمالية التجارية إلي مرحلة الرأسمالية الصناعية .. تلك التي غيرت وجه العالم والتاريخ.
وبعد أن كانت الدول تتدخل بشكل مباشر في سير العملية الاقتصادية لتيسير علمية احتكار شركات بعينها لاستيراد وتصدير بعض السلع في المرحلة الأولي. أصبح لزاماً علي الدولة أن ترفع يدها نهائياً عن هذا الأمر وتتركه لحرية السوق . استجابة لضغوط أصحاب رؤوس الأموال الساعين لتوفير مناخ حرية الإنتاج من جهة وتناغماً مع بداية ظهور الأفكار الليبرالية من جهة أخري !
لكن كعادة الأشياء, كان هناك ثمة وجه أخر للقضية!
ففي هذا الوقت ,لم تكن الاتحادات العمالية قد وصلت لصيغتها النهائية بعد .. ولم تكن من القوة بمكان كي تستطيع أن تتصدي لسياسات أصحاب رؤوس الأموال المجحفة بالنسبة لهم وذلك لصغر حجم الوحدات الإنتاجية , وعدم استقرار العمالة وتنقلها الدائم من مصنع لأخر, وصعوبة تكوين كيانات عمالية مركزية تتفاوض مع أصحاب العمل علي مطالبها. فزادت نسبة الفقراء وحدثت موجات متلاحقة من الإضرابات وأعمال الشغب والاعتداء علي الممتلكات والماكينات و تهديد الأمن والسلم العام .. وتحتم علي الدولة وقتئذ أن تقابل التحركات العمالية بالعنف المفرط !
وإنطلاقاً من تلك المعطيات عرف العالم مصطلح الـ New Liberalism .. أو ” الليبرالية الجديدة “
وتشكلت القناعات أن آليات السوق وقواها لا يمكن لها أن تعمل بـ حرية إلا في ظل مجتمع منظم . وهذا النظام يتطلب تدخل الدولة لمواجهة الفوضى وعدم الاستقرار .. وتحتم علي الدولة أن تنتقل من خانة التصدي للمطالبات العمالية إلي احتواء هذه المطالبات !
فـ “الليبرالية الجديدة” أو “الاجتماعية” كما يحلو للبعض أن يطلق عليها أحيانا .. تختلف عن ” الليبرالية الكلاسيكية ” أو ما تعرف بالـ ” liberalism أو “الليبرالية“
فينما تدعم الأخيرة حقوق الملكية الفردية وحماية الحريات المدنية المطلقة و تؤمن بأن تحقيق رفاهية المجتمع لا تتحقق سوي برفع يد الدولة نهائياً عن التدخل في شؤون السوق والاقتصاد. تقف الأولي علي اليسار منها.
لذا يطلق عليها البعض أيضاً ” الليبرالية اليسارية ” . فهي تهدف إلي التوفيق بين مساحة الحريات الشخصية والحقوق المجتمعية. وتسمح للدولة بالتدخل لوضع معايير واضحة تؤمن للأفراد فرص المساواة والنجاح .
أو بعبارة أخري نستطيع أن نقول أن الليبرالية الجديدة تؤمن بأن ” الليبرالية ” لا يمكن أن تتحقق إلا في ظروف اجتماعية واقتصادية ملائمة ومنضبطة .
ففي الليبرالية الجديدة لا يقل الحق في الملكية الفردية عن الحق في العمل بأجر مناسب تكفل الدولة تحقيقه. وإذا كانت تدعم اقتصاديات السوق الحر وتدعم حرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج فهي تدعم أيضاً تدخل الدولة من أجل ضبط هذا السوق بما يحقق عدل المنافسة أو المساواة, ويقلل البطالة ويحجم التضخم ويوفر الخدمات ..
ومن منتصف القرن التاسع عشر حتي سبعينيات القرن العشرين كانت ” الليبرالية الجديدة ” هي السائدة أو المسيطرة .. وتعاظم علي أثرها دور التدخل الحكومي .. وأصبحت الدولة معنية أكثر بتحقيق الأمن والرخاء للشعب . وأخذت علي عاتقها توفير الخدمات الرئيسية والنأي بها عن منافسة السوق . فصار تقديم الخدمات الصحية والتعليمية ومياة الشرب والطاقة والمواصلات والاتصالات مسؤولية مؤسسات الدولة وعنيت الدولة أكثر بإرساء حقوق القوي العاملة . وتعويض البطالة والإعاقة .. إلخ ..
وفي ظلها أيضاً ولأول مرة, بدأت المرأة في الحصول علي حقوقها في العمل وحق المرأة الحامل و المرضع في الأجازات .. ألخ
وأصبحت الرأسمالية منضبطة أكثر, بعد أن تبلورت فكرة الاتحادات العمالية وأصبحت أكثر مركزية وقوة. وعلي أثر قوتها أيضاً انتقلت الدولة من خانة التصدي لمطالباتهم إلي خانة إدارة هذه المطالبات واحتوائها .. وتشكلت النقابات العمالية ثم أصبح لها الحق لاحقاً في المشاركة السياسية بالتصويت ثم ظهرت أحزاب العمال. وبدورهم لجأ أصحاب رؤوس الأموال إلي التكاتف , ليس عن الطريق الاتحادات كما كان في السابق بل بالتكتل وتكوين الكيانات الاقتصادية الكبرى .
في سبعينيات القرن العشرين تتضافر عاملان رئيسان من أجل ظهور مصطلح جديد اسمه ” Neoliberalism ” أو الـ “النيوليبرالية “
هما الأزمة الاقتصادية وارتفاع وتيرة المنافسة التجارية الدولية حتي وصولها للذروة . ومعها وجدت المجتمعات الصناعية نفسها عاجزة عن التصدي للأزمة والضغوط إلا بإجراءات استثنائية .. فتحتم عليها تخفيض الأجور أو تسريح العمال .. لكن الاتحادات العمالية كانت قد وصلت بالفعل إلي مستوي من القوة أمكنها من التصدي لأي إجراءات من هذا النوع وكان باستطاعتها أن تطيح بحكومات كاملة !
تقاطع هذان السببان مع ارتفاع وتيرة السخط الشعبي تجاه مستوي الخدمات العامة المقدمة من قبل الحكومة البريطانية علي وجه التحديد . وفي هذه اللحظة التاريخية ظهر رجل اسمه ” كيث جوزيف ” دعا إلي اعتماد ” النيوليبرالية” كمخرج للأزمة التي تواجهها بريطانيا .. وبالفعل ومع قدوم حكومة ” مارجريت تاتشر ” في عام 1979 بدأت تتبني سياسات جديدة كانت أبرز ملامحها تراجع دول الدولة وتدخلها في معظم المجالات .. وبدأت “الخصخصة” التي طالت معظم المجالات تقريبا وبصور مختلفة ومتباينة !
لكن في نفس الوقت وعلي عكس ما حدث في مصر, أنشأت كيانات إدارية جديدة لتحول دون الاحتكار .. وبدأ التنافس الرهيب بين القطاع الخاص من جهه وبينه وبين وما تبقي من خدمات في يد القطاع العام من جهه أخري وعلي أثره ارتفعت مستوي الخدمات المقدمة للمواطنين .
إذ ذاك فقط طرأ تغير جديد لصالح القيم الفردية مقابل الجماعية وأصبح مفهوم المساواة يعني ” السماح المتساوي للوجود في نطاق التنافس علي مصادر الثروة ” وعلي عكس من ذلك تعرف اللامساواة .