Thursday, February 7. 2013
يعالج عبد الله العروي في كتابه “مفهوم الدولة ” الصلة بين تعلق فقهاء المسلمين بطوبى الخلافة أو الإمامة الشرعية وبين إعادة إنتاج التساكن على مر القرون مع الدولة السلطانية ..”لقد رأينا في الدولة السلطانية جهازاً قمعياً صرفاً يتساكن مع طوبى المدينة الفاضلة وطوبى الخلافة ,دون أن يتوفر له أدلوجة تبريرية تخلق حوله إجماعاً وتكسبه ولاء الأفراد .كان المفروض من الفقهاء أن يمدوا السلطة القائمة بالتبريرات اللازمة ,إلا أنهم كانوا مرتبطين بفكرة الخلافة ..نعم قالوا للناس :أطيعوا أولي الأمر منكم ,ولكن قالوا للناس
من قبل :أطيعوا الله والرسول .ولم يبينوا أبداً سبل التوفيق إذا تناقض الأمران .علماً أن التناقض كان القاعدة في حياة المؤمنين .لذا لم تظهر أدلوجة ,وبالأحرى لم تظهر نظرية الدولة “ص-148-
كان نفض اليد من أي جهد لأنسنة الدولة يجد تخريجاته لدى الفقهاء –وهم انتلجنسيا ذلك الزمان – في الخلاص الفردي إما بإدارة الظهر للدنيا “التصوف ” أو بقبول حصة من كعكة الدنيا و الانتظام في دولة الغلبة ..يضيء هذا الكتاب المستويين السياسي والأيديولوجي من إشكالية استنقاع دولة الغلبة على تنوع مسمياتها في الزمكان الإسلامي .. أي أن التقليب لا يطال سوى البنية الفوقية . لا توجد إشارات إلى ارتباط :إعادة إنتاج دولة الغلبة في التجربة الإسلامية على مر القرون وتبدل السلالات الحاكمة في المستويين:
- ألعقيدي : سنية ,زيديه ,إباضية ,إسماعيلية ,اثني عشرية
- و الإثني :عرب ,أكراد ،فرس ,أتراك ,مغول ..إلخ .. ببقاء نمط الإنتاج الخراجي كنمط مهيمن يلبي إحتياجات صيغتين للتشكل الدولتي صاغ التنافس بينهما تاريخ المنطقة : الإمبراطورية الزراعية والإمبراطورية الرعوية ..بقيت البرجوازيات التجارية في الحواضر الكبرى كولادات مبكرة , جرى وأدها بأقماطها الفكرية “الاعتزال على سبيل المثال لا الحصر “..
الكتاب في الإطار الذي حصر فيه العروي حفرياته “لو كان هدفنا أوسع مما حددناه لأنفسنا لوجب علينا أن نتعرض لإجتماعيات الدول العربية..”ص-145 يتكشف عن سيطرة تميز بها العروي على المنهجيات التي تطورت في الغرب الأوربي في مجرى انفكاك بنيتيه الفوقية والتحتية عن كل من : مسيحية بولس الرسول ,و نمط الإنتاج الإقطاعي المهيمن في القارة الأوربية ..وفي هذا السياق أرغب في لفت النظر إلى أن تمايز الكنيستين : الأرثوذكسية ,والكاثوليكية كان في شطر منه استجابة لتمايز احتياجات نمط الإنتاج الخراجي المهيمن في الشطر الآسيوي عن احتياجات نمط الإنتاج الإقطاعي المهيمن في الشطر الأوربي…. تجلى تملك العروي للمنهجية الماركسية في إخراجه إياها من الاستخدام الأيديولوجي كما تعرفنا عليه في أدبيات الأحزاب الشيوعية . وإعادتها إلى موقعها الفلسفي .كتاباه المهمان :العرب والفكر التاريخي, والايدولوجيا العربية المعاصرة عنوانان على هذا التملك النقدي للماركسية من قبل العروي ..على هذا المنوال يأتي هذا الكتاب كجهد تنظيري يحرث حقل الماضي العربي –الإسلامي.لكنه يقصر شفرة المحراث على القشرة الفوقية للبنية , محاولاً التعرف على المعوقات التي حالت دون أنسنة دولة الغلبة السلطانية. ومزيحا النقاب عن الحبل السري الذي يربط معوقات الماضي “هيمنة طوبا الخلافة أو الإمامة الشرعية على الفقهاء” بمعوقات الحاضر “هيمنة الطوبويات المستحدثة: المجتمع العصري الليبرالي ,المجتمع اللاطبقي الماركسي ,المجتمع العربي الإشتراكي الموحد ” على الأنتلجنسيا العربية الراهنة.. يقول في هذا السياق :
“بوجود الطوبى , ُتنزع الشرعية عن الدولة الإقليمية ..في هذه الحال تنفصل السلطة عن الشرع ,القوة عن النفوذ الأدبي .إن أوامر الدولة تنفذ ..تجهز الدولة الإقليمية البلاد ,تعلم ,تشغل ,تنظم –هذا هو مجال اجتماعيات الدولة –إلاأن كل هذه الإنجازات لاتكسبها ولاء ولا تنشئ حولها إجماعاً ..خاصة إذا كانت دعايتها تعيد باستمرار التذكير بأنها مرحلة فقط….دعاية الكيان الإقليمي مناهضة لحقيقة وضعه وتدفع للاستخفاف به …”ص-169
لاشك أن هذه المفارقة تتجلى على نحو نموذجي في مصر وسوريا والعراق .لكنها في لب كل الكيانات الإقليمية الأخرى
ولكن هل ُتختصر الإشكالية في : امتناع السلطة عن الشرع في الماضي والقوة عن النفوذ الأدبي في الحاضر ؟..
أظن أن للحبل السري الذي يربط طوبى الخلافة بالطوبيات المستحدثة ,حبلا يوازيه في المستوى التحتي للبنية وينجدل معه . يربط الحبل الثاني : الاقتصاد الخراجي الذي هيمن في الماضي, باقتصاد رأسمالية الدولة الذي تم التحول إليه في الحاضر ..
امتناع تأنسن الدولة في الحالة العربية –الإسلامية ماضياً وحاضراً, يجد تفسيره في الشكل الهرمي لعملية بزل الثروة والتحكم بتوزيعها , الذي تربع على رأسه السلطان أو الملك في الماضي,والرئيس أو الأمين العام للحزب الحاكم في الحاضر . لا بل إن امتناع تأنسن الدولة في الحالة العربية –الإٌسلامية يندرج في الدائرة الأوسع لإجتماعيات آسيا التي هيمن على ماضيها نمط الإنتاج الخراجي. وسلك التحول الرأسمالي فيها تحت إكراه الشرط الأمبريالي : خط رأسمالية الدولة ..أنظر على سبيل المثال خارج القوس العربي –الإسلامي :الصين وروسيا وباقي الكيانات التي أفلتت من التحكم الخارجي بعملية تحولها ..
الكتاب سفينة أبحاث تمخر عباب التاريخ ملتقطة الشروط التي ولدت فيها الأشكال الأولى للدولة .وترابط هذه الأشكال بانحلال علاقات القرابة والإنتقال من الملكية الجماعية إلى الملكية الخاصة: إصلاحات صولون , تكيّف روما مع إصلاحات صولون , ثم تكيفْ الجرمان بعد استيلائهم على الإمبراطورية الرومانية مع التنظيمات السياسية المستحدثة
“كان على الأنظمة القبلية أن تتحول بسرعة تحت ضغط الظروف إلى أنظمة دولوية .فتحولت القيادة العسكرية إلى ُملك ”
هناك سياق واقعي للتحولات تستعصي بعض وقائعه على النظر العقلي لأسباب متنوعة .وهناك لهاث العقل وهو يحرث أرضاً صلدة ..غير أن العروي الذي تمّلك أساليب النظر الغربية يعيد أشكلة الماركسية لا إلى الاستخدام المبتذل من قبل المنتفعين بها سياسياً ,بل إلى شروط عصرها المعرفية..”كان ماركس ضالعاً في التاريخ الوسيط ,فبنى عليه استنتاجاته .ثم اطّلع انجلز على تاريخ أقدم ,فاستغل المعلومات المكتسبة لتبرير نفس الموقف . التاريخ عند الرجلين خاضع لفكرة مستوحاة من الاقتصاد السياسي (الملكية الفردية ) وموظفة لصالح بحث فلسفي ……بيد أن خصوصية المشكل السياسي في العهد الحديث (لم تعد الدولة موازية للمجتمع ,بل تعالت إلى أدلوجة ) لم تختف بالمرة لكن حوّرت .وسيكون لهذا التحوير تأثير خطير على مسار المدرسة الماركسية “ص-52
لقد تحول التصور الماركسي لمستقبل الدولة “انحلال الدولة في المجتمع ” إلى طوبى ..لم تستطع كل الثورات التي استلهمت ماركس أن تحققها. بل جنح سياق الأحداث إلى تغوّل الدولة ..
الكتاب بمجمله نقلة نوعية في سياق تملك النخب العربية للوعي الحديث .
|