مشغولة ومهمومة بأزمة الليبرالي المصري في مواجهة نفسه ومجتمعه بما يحمله من افكار تنويرية بسبب تصاعد نبرة التطرف ووقوع العامة تحت تأثير خطاب اصولي متشدد يتشكك في النموذج الحداثي ويربطه دوما بالغزو الثقافي القادم من الغرب. وفي رأيي المتواضع فإن تأثير مثل هذا الخطاب على العقل الجمعي، وبالأخص ما يلقيه من تهم في حق كل من يعتنق الفكر الليبرالي أو العلماني عموما، يثبت قوته التدميرية كلما احتكمنا كشعب لشرعية الصناديق الانتخابية.
لقد انهكني التفكير في جزئية محددة، وهي كيف يستسلم عقل المثقف المستنير لخرافات وترهات وارهاب كتائب الجهل والتكفير؟ منذ الصغر وأنا ابجل قيمة العلماء والمفكرين. كنت شديدة التأثر بذكي نجيب محمود لأن كتبه كانت تملأ مكتبة والدي، لكني ظللت لا أعلم عن تحوله الأخير شيئا حتى تخرجت من الجامعة. حينها هالتني الصدمة! ماذا؟ أيمكن لعقل كهذا أن يتحول عن مساره مهما كانت الضغوط؟ لو أني كنت أملك جزءا بالغ الصغر من فكر وملكات ذكي نجيب محمود الفكرية واللغوية لكنت شعرت بزهو وافتخار يلف العالم كله. ما باله وقد تراجع عن افكار تعد من طفرات وتجليات العقل البشري الحديث ليتقوقع ويرتدي زيا رثا تملؤه الثقوب والرقع لا يليق به؟
صدمتي تلك دعتني للتشكك في امكانية العقل وحده على التماسك أمام الهجوم الرجعي وسعار التكفير. قرأت عن حياة المفكرين والعلماء والفلاسفة على مر العصور، فوجدت من الاضطهاد ما دفع بعضهم إلى انكار افكاره مثل جاليليو، وبعضهم من دفع الثمن وقُتِل وحُرِق ودُمِرت مؤلفاته. من أكثر الشخصيات التاريخية التي اثارت اشجاني كانت هيباتيا، معلمة الاسكندرية، التي قتلت بدعوى التكفير لتضيع كنوز ابحاثها ومؤلفاتها وتتأخر البشرية مئات السنين حتى وصلت لما اكتشفته هي في علوم الفلك والرياضيات.
اتذكر يوم ذهبت إلى احدى دور العرض بوسط البلد لمشاهدة فيلم “المصير” ليوسف شاهين، ولم استمتع بمشاهدته قط بسبب الجمهور وحديثهم المستمر ونكاتهم وسخريتهم النابعة اغلب الظن من عدم قدرتهم على متابعة الاحداث لفداحة جهلهم بالتاريخ. جمهور السينما أغلبه من الشباب المُدَمر تعليميا والكاره للمعرفة والمحتوى الجاد عموما. وكانت قد شهدت فترة عرض هذا الفيلم ظهور موجة الافلام التافهة التي اسموها بالافلام الشبابية والتي أدت إلى انتعاش السينما ماديا في وقت كادت الصناعة تصل فيه إلى حافة الانهيار. حاز يوسف شاهين على جائرة السعفة الذهبية في مهرجان كان الذي عرض فيلم “المصير” واستُقبِل في اوروبا استقبالا حافلا، ليس فقط لجودة الفيلم من الناحية الفنية ولكن ايضا بسبب اهتمام اوروبا بالمفكر الاندلسي ابن رشد الذي كان أحد أهم روافد التنوير التي اخرجت اوروبا من ظلمات عصورها الوسطى. تم اتهام المفكرين الذين نقلوا فكر ابن رشد إلى اوروبا بنفس التهم التي يواجهها العلمانيون والليبراليون في بلدنا اليوم وأكثر، وكانت معركتهم شرسة بسبب سطوة المؤسسة الدينية وسلطتها المطلقة في هذا الوقت.
هناك تجربة ليبرالية مبتورة عاشتها مصر في أوائل القرن العشرين، وكادت تثمر لولا فرملة حركتها في الثلاثينات التي شهدت عودة الفكر الاصولي مع انتعاش نشاط جماعة الاخوان المسلمين وما ترتب على ذلك من رِدة ثقافية وحضارية. نجح حسن البنا، مدرس اللغة العربية بالاسماعيلية، في تأسيس نموذجا لغزو عقل الفرد المسلم، يصل من خلاله إلى بناء الاسرة المسلمة كنواة لأسلمة المجتمع ثم الدولة. الفكر الذي اعتمد عليه حسن البنا في تشكيل عقيدة اعضاء جماعته لم يكن بالجديد، فقد اخذ من التراث القديم اكثر الاتجاهات تزمتا وجمودا ورفضا لإعمال العقل والمنطق ونبذا لكل ما نُقل عن الفلاسفة اليونان لتطوير الفكر الديني. استمد البنا افكار جماعته من المذهب الوهابي الذي طبقه محمد ابن عبد الوهاب في الحجاز واستطاع من خلاله أن يُحكم السيطرة على القبائل هناك حتى اسس الملك سعود مملكته، ومن يومها لم تنفصل الدولة عن الوهابية التي صنعتها.
سيطر البنا على اتباعه بترويج فكرة احياء الهوية الاسلامية التي رأى أنها في خطر بسبب الاجتياح الغربي. من هنا باتت لدينا عقدة الخواجة، المتفوق علميا وعسكريا، الذي يهدد هوية الضعفاء المستَعمرين بالفناء. شدد البنا على كراهية كل ما هو وافد وكل ما هو حداثي وكل ما هو مرتبط بالحضارة الغربية، ومن ثم امتدت تلك الكراهية إلى القيم الليبرالية المستمدة من ثقافة الغرب الذي تم اختزاله في صفات الانحلال والفساد وكان الحرص على إقران التحرر الليبرالي بالانحلال الاخلاقي على النمط الغربي كما يتصوره المجتمع العربي. استهدفت الجماعة الحزب السياسي الذي كان يجسد هذا الفكر حينها، وهو حزب الوفد، واخذت تضرب شخوص رموزه وتحيلها إلى شبه محاكم تفتيش. تنتقد سلوك الفرد وتربط ذلك بشبهات محاباة الانجليز ومجاراة نمط حياتهم. امتد هجومهم ليشمل المفكرين والادباء وسلوك رجال ونساء المجتمع الراقي، حفلاتهم ورقصهم وشربهم للخمر وملابسهم ذات الطراز الاوروبي. تم تقويض المجتمع واخضاعه لرقابة دينية صارمة، تزامنت مع بزوغ فكرة الجامعة العربية والتي ترتكز على العنصر العربي-الاسلامي في تحقيق نوع من التعاون وتأمين المصالح المشتركة بين البلاد العربية
الآن يمكننا أن نتصور كيف تم استغلال الظرف التاريخي لصالح بزوغ مشروع الاخوان وتواري وارهاب المشروع التحديثي لمصر. ويمكننا اعادة قراءة نفس الاحداث في ضوء الحاضر وعملية احكام الحصار على العقل الليبرالي والتوجه العلماني الذي ينادي بفصل شئون الدين عن شئون الدولة.
لا نملك كشعب قام بثورة لاسقاط نظام كان يراعي الحد الأدنى من مدنية الدولة ويسعى للتحديث بالتزامن مع تحقيق معدلات معقولة من النمو الاقتصادي رفاهية أن نقف موقف المتفرج المذهول من أهوال عبث النظام الاخواني الجديد بالدولة والمجتمع. لا نملك رفاهية الاستسلام للارهاب المادي والمعنوي الذي تمارسه جماعة الاخوان واعوانها من جماعات اسلامية وسلفية لاحتلال مصر وطمس حضارتها وتبديل هويتها. فإما أن نقف في وجه هذا الطوفان لنحمي اولادنا أو ننبطح ونقدمهم قرابين للغزاة ليدفنوا في عقود من الجهل والتخلف.