الأحكام المسبقة التي باتت تتغذى منها وسائل الإعلام الغربية اليوم “الإذاعات، القنوات الفضائية، الصحف المنشورة…” وصلت إلى مستوى أكثر من سلبي بل مؤلم وسيئ، لأنهم يصرحون بان العامل الديني لا يسمح للعالم الإسلامي بالدخول للعصرية السياسية،
ونجد أن أغلب هذه الوسائل لم تعد تكتفي بالحديث عن مجموعة الاكراهات التي يعاني منها جسد الربيع العربي لكنها باتت تحكي عن الموت الفظيع للربيع، وخصوصا بعد الانتصارات التي حققتها الأحزاب الدينية خلال الانتخابات الأخيرة ” حزب العدالة والتنمية بالمغرب، حركة النهضة بتونس، والإخوان المسلمون بمصر” والتحليل السياسي الذي تبنى عليه هذه القراءات يضعنا أمام أزمة جديدة للفكر: بحيث انه من المحيط الأطلسي إلى الخليج، هذه المسافة التي تمثل 375 مليون مواطن، رغم ذلك فمن خلال تحليلاتهم خلصوا إلى أن الصراع لا يخرج عن عنصرين فقط، أنظمة دكتاتورية فاسدة “ملكيات وجمهوريات” أو حركات إسلامية “الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية وأعضاء تنظيم القاعدة”. وبصفة مدهشة وصادمة يقومون بإلغاء مئات الألوف من الديموقراطيين، النساء، الشباب، المفكرون الأحرار، الفنانون، العلمانيون، المؤمنون واللامؤمنون…الذين بدورهم يقومون بمظاهرات شبه يومية ضد الأنظمة المفترسة والمهملة والغامضة.
نحن كمثقفين وشباب علماني ديموقراطي ليبرالي ومدافعين ومدافعات عن حقوق المرأة والحريات الفردية والجماعية، نرفض هذا التحليل لكن في نفس الوقت نؤمن بضرورة إثارة النقاط التالية دون الرجوع إلى البحث وطرح تاريخ حراك الربيع العربي، نجد أن الأهم هو عرض الفكرة الأساسية للربيع العربي والمغربي، الفكرة التي تعتمد الجيل الجديد من الشباب كمحور رئيسي في عملية صنع التغيير وطرح كل الامكانات والبدائل الديموقراطية، ومن داخل هذه المجموعات الواسعة نجد بأن أكثر من 65 في المئة من هذه الشعوب تتراوح أعمارهم إلى أقل من 25 سنة، وهي تطالب ببديل سياسي راديكالي، إما سيكون بديل ديموقراطي علماني -العلمانية هنا ليست دعوة إلى تكسير الدين وحظره- وشرعية حكم جديد مبنية على إرادة الشعب، أي أن مسيري الدول الذي من المفترض اختيارهم يجب أن يعينوا عن طريق انتخابات شفافة ونزيهة. ونعتقد بان هذا الجناح الشبابي الذي ينهج هذا المسار له حضوره في الساحة العربية ومن المستحيل تقديره بنسبة مئوية نظرا لانعدام وسائل الإحصاء الديموقراطية، لكننا ندرك وبيقين بأنهم موجودون ويناضلون ويقدمون التضحيات من اجل إنجاح مشروعهم. وفي نفس الوقت، إلى جانب تحركات هذا الجناح يوجد قطاع شبابي هو الأخر يطالب بالتغيير السياسي لكن على أساس نموذج متعلق بالأساس “الثقافي” و “الخصوصية” الإسلامية، لان الحركات الإسلامية وخصوصا حركات مثل العدل والإحسان، الإخوان المسلمين، النهضة، السلفيين… كانت فعلا حركات مقموعه وكانت تدعوا إلى العدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، وفي وقت الأزمات والمشاكل الطبيعية تكون جاهزة لتقديم المساعدات والمعونات للمواطنين بشكل مستقل وأحيانا فيه سبق عن تدخل الدولة، بالإضافة إلى أن أنصارها الحقوا بها عوامل جديدة من بينها تجنب الفساد، احترام الأمة والجماعة، محاصرة ومنع الحريات الفردية والدينية، الابتعاد عن تقليد الغرب في كل شيء، إضافة إلى الدعوة للحجاب، ونشر الإسلام…
وبعد تحركات الربيع العربي الأخيرة وجد الجناح الأول نفسه في أزمة مفادها انه غير قادر بعد على دعم أسس المواطنة الفردية لأنه فقد الأمل في التنظيمات والأيديولوجيات السياسية الكلاسيكية، ما دفعه ليعيش مرحلة تفكير واختراع أدوات جديدة في النشاط السياسي، وبالتالي فهم بعيدون عن الفشل لكنهم يعيشون مرحلة ديناميكية جديدة وهي تظهر من خلال النساء في الشارع معلنات حربهن ضد الحكم الذكوري، مع اتساع حرية نقاش التابوهات بشكل علني ومفتوح، بل أصبحوا في مستوى كل الشباب العالمي ويأخذون لقضاياهم شرعية أساسية من الكونية السياسية والحقوقية.الجناح الثاني أتيحت له مساحة من داخل منظماته السياسية الإسلامية للتعبير والدعاية لمشاريعهم السياسية، كحزب العدالة والتنمية بالمغرب، والبعض الأخر وجد فسحة جديدة للظهور بشكل أقوى وتحديث أدوات عمله مثل ما حصل مع حركة النهضة التي حصلت على أغلبية المقاعد في المجلس التأسيسي والحكومة التونسية المؤقتة، و جماعة الإخوان المسلمين التي أعلنت عن تأسيس حزب العدالة والحرية الذي شارك وحصل على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية الأولى بعد سقوط مبارك، وكذاك سباق الرئاسة الذي حسمته صناديق الاقتراع لصالحهم بنسب لا بأس بها، ليكون لهم في الأخير منصب رئاسة الجمهورية. وهم الآن في مرحلة تسيير الدولة ولا يمكننا أن نكون متأكدين أو متفائلين بخصوص امكانات نجاحهم، لكننا نرى ان فشلهم في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ستظهر بوادره خلال الأشهر والسنوات القليلة المقبلة.
الدكتاتوريين الذين عارضوا وحاربوا الجناحين بشكل قمعي مباشر تم إسقاطهم، “مبارك، بن علي…” باستثناء ملك المغرب، لكن إسقاط هؤلاء الدكتاتوريين لا يعني إسقاط الدكتاتوريات، ومنه نريد أن نقول بأن المرحلة التي نعيشها هي مرحلة إصلاحية جديدة وليست تاريخية أو ثورية، لكن الربيع العربي ما يزال سائرا في طريقه والأمل موجود، فلا من ناحية الأنظمة الدكتاتورية القديمة أو الجديدة، ولا الحركات الإسلامية التي انتصرت، فإنها جميعها استعملت واستغلت الدين سياسيا من أجل شرعنة الحكم، مثلا في المغرب صارت اتفاقيات ما بين حزب العدالة والتنمية والملك الذي ما يزال يعتبر و يقر له كأمير للمؤمنين وحام للملة والدين، وفي مصر قبل الإعلان الرسمي عن فوز مرسي بانتخابات الرئاسة تمت اتفاقيات سرية بين المجلس العسكري وقيادة جماعة الإخوان المسلمين. فاليوم، لا في تونس ولا في المغرب ولا في مصر… الأنظمة تعتمد على الشرعية الإسلامية أكثر وأقوى من أي شرعية أخرى وتغيب الشرعية الشعبية، ما معناه أن الدكتاتوريات موجودة ومستمرة لكن بوجه جديد، والدول الغربية وخصوصا الولايات المتحدة اعترفوا بهذه الأنظمة ويعملون على تأييدها رغم أنها سائرة في خط لا ديموقراطي ولا ليبرالي، وهذا يفرض على عناصر الربيع العربي أن يفتحوا حوار حول العلاقات مع الحركات الديموقراطية الغربية، وامكانات منح شعبية اكبر لنضالاتنا من أجل إقناع المجتمع الغربي بأننا نخطو في طريق جديدة وبأننا نحن هم أصحاب البديل الديموقراطي الحقيقي وليس حركات الإسلام السياسي، وهذه إحدى أهم مسؤولياتنا التي يجب أن نركز عليها في سبيل انتصار الديموقراطية والحرية والركيزة الأساسية لكل هذا و التي هي العلمانية التي تضمن الحريات الفردية لكل مواطن وتسمح للأقليات الدينية بالشعور بالحرية والانتماء للوطن.
وفي النهاية، وخصوصا لمستقبل الربيع العربي، نجد أن الجيل الجديد من الشباب الذي يمثل روح هذه التغيرات بالعالم العربي يجب عليه الرجوع إلى هذه النقطة وتحليلها وفق علاقاتها مع المواطنة ، الحريات الفردية والعمومية، حرية العقيدة والضمير… من اجل بناء مجتمع مفتوح ديموقراطي وعصري، وذلك قبل حلول شهر رمضان وقبل أن تتحرك الحركات الإسلامية لمنحها الفرصة لتمرير مشروعها الغامض على المجتمع من اجل تطبيق الشريعة، وفرض اضطهادهم وإقصائهم لكل الأصوات النسائية والحركات العلمانية والأقليات الدينية، فالوضع اليوم يستدعي منا إعادة إحياء نقاش قبل أن يواجهونا بالديماجوجية والعنف والتهديدات والإرهاب الخ… لأنهم يعتبروننا أعداء نقف أمام تطبيق مشروعهم الماضوي ” الشريعة الإسلامية” و مثل هذا النقاش هو أمر عاجل وملح وضروري من اجل إنقاذ الحراك والمطالب الشعبية بالعالم العربي وشمال أفريقيا.
اليوم لابد أيضا من تسليط الضوء على المرحلة الجديدة التي يمر منها الربيع العربي، والتي تمثل نوعا من الخطر القائم على المواجهة بين، من جهة الأنظمة الدكتاتورية والإقطاعية والأنظمة التي تحالفت مع الحركات الإسلامية، ومن جهة أخرى الشباب الذي ما يزال حاملا وحالما بشعارات ضد الشرعيات الإسلامية التي تحارب كل المناضلين المدافعين عن حرية التعبير والأقليات الجنسية والمعبرين عن أفكارهم بشكل مطلق وصريح، مما سيدفع بالأنظمة الجديدة والحركات الإسلامية المتحالفة معها إلى خلق نوع من القمع الخطير، وهو الأمر الذي يستدعي منا التوحد من أجل إعلاء أصواتنا ومطالبنا إلى محاربة ومحاكمة قتلة شهداء الوطن، دعم الحركة النسوية اجتماعيا وقانونيا، دعم الحرية المطلقة من خلال كل وسائل التعبير الفنية والإبداعية للذين يقولون لا لدكتاتورية السماء، رفع كل أشكال التمييز عن المواطنين بسبب هويتهم الجنسية، الوقوف ضد الأحزاب والجمعيات التي تحارب الحرية الجنسية، الوقوف ضد كل من يدعي أن هوية الدولة إسلامية وبالتالي ف “أكل رمضان علنا” ممنوع…. ومنه فالجناح الديموقراطي العلماني للربيع العربي تلقى عليه كامل المسؤولية من أجل التنسيق بين هذه الحركات والاتجاهات الجديدة التي أحيت روح الديموقراطية، من اجل التنسيق ووضع برنامج مستقبلي للدفاع والمواجهة، والدفع بأعدائنا الفكريين والسياسيين إلى الرد علينا بالكتابات والتحليلات إضافة للاحتجاجات التي يمكننا إيصالها للمؤسسات الدولية والمنظمات الغير الحكومية والمتابعات القضائية أمام المحاكم الدولية، فكل هذه هي الوسائل هي التي ستمكننا من مواجهة القمع، حتى تغرب شمس الدكتاتورية وتشرق شموس المواطنة.
مقال مشترك/ د، أحمد بناني أستاذ باحث في الانثربولوجيا الدينية
قاسم الغزالي شاب مدون وناشط علماني لاجئ بسويسرا