هكذا نعرفها وهكذا نؤمن بها لأنها أكثر ماتكون وضوحاً في ذلك الصراع الحاد الذي يدور في الخفاء والعلن بين الحرية ونقيضها وبين العدل وعدمه وبين السلام والحرب ،
هناك تتجلى قيم الليبرالية في عقول الناس وفي ضمائرهم ، ولهذا حين نتعمد التذكير بهذه القيم بين الفيّنة والأخرى إنما نتعمد التذكير بقيم الخير للجميع والتذكير بحجم هذا الصراع وبطبيعته ، فالليبراليية الديمقراطية هي حركة وعي إجتماعي و هي فكر عام وشامل يستهدف بناء الإنسان وحمايته ، والإستهداف المقصود يكون في جميع الحالات والظروف .
وما يجري الآن في البلاد العربية والشرق أوسطية من ثورات وحراك وصدامات وقلق وفوضى وتكتلات وأحزاب ، هو تعبير عن إرادة الواقع وقلقه وضغوطاته الفكرية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية وحتى الثقافية ، هو إذن نضال مستديم من أجل قيم الإنسان التي فقدها الإنسان العربي بفعل قوى السلطة والقوى المغامرة الأخرى .
وكنا في السابق نبشر بالتغيير وبشرنا به بعد سقوط بغداد ، لأننا نعلم إن العرب يريدون ذلك ويرغبون به ، وهم يمتلكون الإرادة الذاتية والنفسية والفكرية كما ويمتلكون المقومات ، لأنهم جميعاً سئموا حكم القائد الفرد الصمد الذي لا يأتيه الباطل ، وهذا الملل مركوز في وعيهم وفي لاوعيهم يغذيه دائماً واقع موضوعي و شروط موضوعيه قاهرة ، لذلك كان قرار الثورة ضد الحاكم ليس قراراً خارجياً أو مستورداً ، نعم ربما ساعد في ذلك العالم الحر على نحو غير مباشر من خلال شروط حياته وتطوره ووسائل إتصالاته ، لكن الثورة والقيام بوجه الحاكم المستبد هو إيمان ذلك العربي المعدم لتغيير الواقع والمعيشة الضنكا وطموحه وأمله بحياة أكثر أمن وعدالة ورخاء ، وذلك هو الشرط المسبق الذي برر له قيامه وثورته ككونها سنة طبيعية وتاريخية تتحكم بها الظروف الواقعية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والنفسية التي تميز وتطبع الوضع الذي يستدعي الثورة والتغيير ، يضاف الى هذا حكام أغبياء ومستبدون حولوا البلاد والعباد إلى مجرد حظيرة قطيع .
هذه هي الحقيقة التي بدأت بصدام حسين والتي لم يستطع فهمها ومواجهتها بحكمة وروية ، كذلك هي مع كل الحكام الذين سقطوا ويسقطون بعده ، لأنهم جميعاً لا يمتلكون الأدوات ولا الرؤية التي تؤهلهم للإبتعاد عن السقوط فظلوا الطريق وسقطوا وأنهدم ظلهم ، فالمشكلة بالنسبة للحكام العرب جميعاً هي مشكلة فكرية ونفسية هي بهذا الجنون السلطوي الذي يجعل من مهمة التعايش معهم غير ممكنة ، إذن فالشعب العربي في حركته الحاليه إنما عبر عن إرادته التواقه للإنعتاق وإلى الخلاص من هذا الظلم وهذا التسفيه المقصود لعقله وإرادته .
قد يقول قائل : لكن هذه الحركة ولدت لدينا حركات وأحزاب دينية فاشية هي أشد تطرفاً من الديكتاتورية التقليدية .
وأقول : نعم هذا صحيح ، لكن الصحيح هو إن هذه الحركات وهذه الأحزاب أستطاعت التسلل إلى الواجهة بفضل تنظيمها الشديد الذي جاء على حساب قوى الثورة الحقيقية ، إذن ففشل الثوار في حماية الثورة كان سببه واقعي موضوعي كان بفعل النقص في التنظيم والإعداد ، وأقول ذلك مكرراً ، وفي الفرق بين الثورة والسلطة تبدو الجدلية اللينينية والخمينية أكثر منطقية ومقبولة في هذا المجال .
إن تراجع الوعي الثوري وسيادة نزعة البحث عن السلطة هي حتمية منطقية و طبيعية تؤدي إلى الإشكال الذي قيل عنه قبل قليل ، كما إن البحث عن السلطة في ظل غياب التنظيم سبب كاف في التخبط السياسي وفقدان الرؤية ، نجد هذا في معظم البلدان التي حدث فيها تغيير نسبي ، هذا التراجع أدى إلى تعزيز مكانة وقدرة القوى الراديكالية ، هذه القوى هي نفسها التي نجدها تقوي الفساد وتدعمه ، لأنها في الاصل كانت فاسدة أو ترغب في الفساد، وقد أستفادت من الظروف اللامنطقية التي صنعتها القوى المضادة من المغامرين وأنصاف الوطنيين من أدعياء الديمقراطية .
وفي هذا المجال نتذكر دوماً الحالة التي يمر بها العراق وتمر بها مصر من الناحية الفكرية والسلوكية في مستوى القضية التي تحاول إقناع المواطنين فيها ، وهذا يعني ان التفكير الذي تتبناه القوى المضادة للثورة لم يكن وطنياً ولا أخلاقياً حتى ، ولذلك صرنا نشاهد ونرى مدى المعانات التي يعانيها الوطن في حياته السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية ، بل وتراكمت لديه جملة مشاكل وإشكاليات جديدة لا نجد في الأفق إمكانية حلها إلاّ عبر تدمير الوطن وسحق هويته الوطنية ، من هنا أعتقد إن الحل يكمن في تفكيك هذا الوضع السياسي من خلال تبني مشروع الدولة الجديد الذي ننادي به ، فنحن منذ زمن قد شخصنا سبب وأسباب هذه المشكلات وقلنا : إن الحل في تبني الليبرالية الديمقراطية كخيار لا بد منه لمعالجة أزمة العدالة والحرية والسلام المجتمعي .
وقولنا هذا يرتكز على المضمون الليبرالي في تعميم ذلك من خلال الفكر العام ومن خلال الممارسة اليومية ومن خلال الحياة التي يرغبون بها ، فليس ثمة مخالف في هذا غير أولئك العصبويون ودعاة الفكر المتطرف والشمولي ، ولكي يكون ذلك ممكناً علينا أن نقوم بتوثيق ذلك على اساس فكري واقعي حيوي ينصب على المشاكل الأساسية ، كذلك يجب أن نكون قريبين من حياة الشعب ومن الفقراء منهم والمعدمين الذين يمثلون ثلثي المجتمع .
إن أساس الليبرالية الديمقراطية كما هو وكما نفهمه قائم على قواعد ثلاث لا تنفك ولا تنفصل ، تمثل فكرها وعمقها ووعيها في العدل والحرية والسلام هذه الثلاثية المتقدمة هي الشعار وهي الهدف وهي الدعائم للتنظيم المجتمعي الصحيح ، فالمجتمع الصحيح هو ذلك المجتمع الذي يؤوسسه الوعي والارادة وحسن الإنتماء للوطن .
وحين يقوم المعاندون في جملة دعايتهم ضد الليبرالية الديمقراطية بأنها خيالية أو شيء من هذا القبيل، انما يتجاهلون عن عمد طبيعة الليبرالية الديمقراطية وحقيقتها والغاية التي تلاحقها وتدعمها ، يتجاهلون معنى العدالة ومعنى الحرية ومعنى السلام الذي يطلبه الجميع وينادي به .
نعم لا يكفي ان نقول ان الليبرالية الديمقراطية بهذه المبادىء تستطيع أن تحقق الإنقلاب في حياة المجتمعات العربية ، بل يجب أن نتبع التحليل المنطقي للواقع ومن خلال ما تمثله الليبرالية لهم في المستقبل كحياة حرة ومتطورة وقادرة على خلق المجتمع المنشود ، وكما أمن أباء الليبرالية القدامى كذلك نحن نؤمن بأن الزمن هو ماضي ومستقبل ، ولا وجود للحاضر إلاّ بلحاظ الماضي ، وفي ذلك كان التطور وكان العمل وكان الإنتاج وكانت الدولة االواقعية وحماية الإنسان ، وهذا ما نطمح إليه بالضبط في منطقتنا العربية .
اننا إذن نركز جهودنا وثقافتنا على مايمكن ان تمثله حركتنا الليبرالية فيما لو تسنى لها التغيير الذي تنشده ، وأستطيع القول : إن الليبرالية الديمقراطية ليست حركة إحتجاج من أجل التطوير المجتمعي وحسب بل هي أخلاق وقيم ونظرة فلسفية للحياة ، فالتغيير المجتمعي والسلوكي لازمه تغيير في ثقافة الناس وتغيير ماهو شائع وغير منطقي والذي وفد إلينا من خلال سنوات القحط والضيم .
إننا إذن نؤمن بان تغيير الوضع الفاسد هو بتغيير المفسدين وهم قلة ولكنهم متنفذين ، لذلك يجب ان نقول أن الأكثرية من أبناء الشعب لا يطلبون الظلم وانما يطلبون الحياة الحرة الطبيعية اي يطلبون الكرامة والعيش الأبي ، ولكي يكون ذلك مشروعاً يلزمه منا التأكيد والعمل على تحقيق ذلك للمجتمع في المدى القريب ، من قبل حدوث الكارثة في المجتمع وفي الحياة .