دولة أو لا دولة ... تلك هي المسألة! في كتابه القيّم والعميق، والذي لم يُقرأ – عربياً – كما ينبغي له أن يُقرأ، «مفهوم الدولة»، يتساءل المفكر المغربي عبدالله العروي، بعد أن يستعرض في فصول عدة
التصور الفلسفي لمفهوم الدولة على مدى التاريخ منذ أفلاطون وصولاً الى أرنست كاسيرر مروراً بكانت وهيغل وروسو وفيخته وغيرهم، يتساءل عما اذا كان حقيقياً ما زعمته «الدولة» العربية دائماً في دعايتها الرسمية التي تؤكد ان بناء دولة منـيـعة هو شغلها الشاغل، ملاحظاً انه «بقدر ما تكون الدولة حديثة التأسيس، بقدر ما تؤكد الدعاية اكثر ضرورة ترسيخ قواعدها وتقويتها. فيطالَب الفرد بكل التضحيات، المادية والأدبية، خصوصاً تلك التي تمس حريته. ونـحن نلاحظ بالفعل، حتى في تعاليق الصحافيين، انه كلما صودرت حريات الفرد وصفت الدولة بالقوة والجبروت». طبعاً لسنا هنا في صدد الحديث عن كتاب العروي هذا، مع انه – في عرفنا – واحد من أهم الإسهامات العربية في بحث مفهوم الدولة منذ كتابات الماوردي وابن خلدون – اللذين تتخد الدولة لديهما اسماء اخرى، من دون ان تكون وظيفتها على الاقل، مختلفة عن الوظيفة العقلانية للدولة، لكن هذه مسألة أخرى بالطبع -. ان ما نتحدث عنه هنا هو كتاب آخر لمفكر آخر، ربما كان – على الصعيد العالمي – من أهم الانجازات بالنسبة الى المسائل المتعلقة بالدولة وعلاقتها بالفرد. الكتاب هو «فلسفة الحق» والمفكر هيغل. ولسنا نعتقد ان ثمة من قد يطرح هنا سؤالاً فحواه: لماذا هيغل، دون غيره. ومع هذا حسبنا ان نشير ان هذا الكتاب الذي كان حين صدر في آخر ايام مؤلفه، انما أتى خلاصة للفكر الباحث في مسألة الدولة على مر العصور، ورحماً ولدت منه معظم النظريات الحديثة حول الدولة، سلباً او ايجاباً. ذلك ان هيغل، بقدر ما اهتم هنا بالبحث في مسائل السياسة والقانون الدولي، اهتم ايضاً – خصوصاً – بالتحليل الفلسفي العقلي لمؤسسات المجتمع: الأسرة والمجتمع المدني والدولة. ولعل ما يضيف الى اهمية هذا الكتاب انه كتب في زمن كانت مفاهيم تأسيس الدول فيه تتخبط، إثر الثورة الفرنسية والحروب النابوليونية وبداية تأسيس الدولة الألمانية، أي بداية ظهور العصور المدنية الحديثة، على انقاض العصور الاقطاعية والدينية. لقد واكب «فلسفة الحق» ظهور الدولة الحديثة موجوداً لها كل مبرراتها الفلسفية والعقلية معتبراً اياها الضامن الممكن الوحيد لحرية الفرد ونمو المجتمع، وبالتالي روح الشعب وعقله في الوقت نفسه. غير ان هذا لا يعني، بالطبع، ان هيغل «اخترع» الدولة. وهو نفسه، في معرض البحث في نشوء علاقة الفرد بالمدينة (الدولة لاحقاً) في العصر اليوناني فسر لنا كيف ان المواطن هناك انما جابه فكرة الموت والسؤال الخالد عن توقف حياة الفرد – من دون مبرر -، بإيمانه المطلق بالمدينة «لذا كان يسهم ببنائها مؤمناً بأنها ان بقيت بعد رحيله سيكون بقاؤها صورة لبقائه». من هنا كانت فكرة المدينة – الدولة تماثل فكرة الخلود والخلاص من الرعب ازاء الموت. صحيح ان الجذور تكمن ها هنا... لكن الدولة، في العرف الهيغلي، تجاوزت هذه الفكرة «الميتافيزيقية» الاصل، لتتسم ببعد علمي – يكاد في تفسيره الهيغلي يتشابه كلياً مع التفسير الخلدوني الوارد في اول صفحات «المقدمة»... فبالنسبة الى هيغل «الدولة هي التحقق الفعلي للفكرة الاخلاقية. انها العقل الاخلاقي بصفته ارادة جوهرية تظهر وتتجلى امام ذاتها. وتعرف نفسها وتعقل نفسها ايضاً». وهذا التأكيد هو الذي يجعل هيغل يستأنف هنا بحثه في مسألة الدولة كأقنوم مكمل وجامع لأقنومي الأسرة والمجتمع المدني. فاذا كانت الأسرة، كما يشرح لنا الباحث المصري د. أمام عبدالفتاح امام، استناداً الى تفسير هـ. ريبرن لهيغل، «ابرزت عنصراً من عناصر الفكرة المحورية هو عنصر الكلية، واذا كان المجتمع المدني ابرز عنصراً آخر هو الجزئية، فإن الدولة هي التي تبرز العنصر الثالث: عنصر الفردية الذي هو مركب من الكلية والجزئية». فالدولة «فرد حقيقي، انها شخص او كائن حين يميز نفسه بنفسه بطريقة تجعل حياة الكل تظهر في جميع الاجزاء، ما يعني ان الحياة الحقيقية للأجزاء – أي الافراد – انما توجد وتتحد مع حياة الكل، أي الدولة». ما يعني في نهاية الأمر ان الدولة ليست سوى الفرد نفسه وقد تموضع من طريق حذف ما هو عارض زائل، ومن ثم التركيز على ما هو كلي فيه. أي ان الدولة هي التجلي الحقيقي للفرد... للإنسان». صحيح أن هيغل يؤكد هنا ان من مصلحة كل فرد في المجتمع ان تقوم الدولة وتقوى، غير انه في اضافة لاحقة الى نصه يقول لنا: في الطبقة الوسطى التي ينتمي اليها الموظفون، يوجد وجدان الدولة والثقافة الاكثر بروزاً وأهمية. وبالتالي فإن هذه الطبقة الوسطى هي دعامة الدولة في ما يخص التشريع وعقل الأمور. اما الدولة بلا طبقة وسطى فهي، بسبب هذا تحديداً، لا يعود لها من مكانة سوى مكانة دنيا. ومن هنا فإن تشكل الطبقة الوسطى فيه مصلحة اساسية للدولة بكل افرادها. وبالنسبة الى هيغل، في هذا الاطار بالذات تنقسم فروع اهتمامات المجتمع المدني الى ثلاثة اقسام: اولاً، نسق الحاجات، أي ملكوت الاقتصاد بالمعنى الصحيح «حيث يتبادل المواطنون السلع والخدمات لإشباع حاجاتهم»، وحيث «يرتبط الافراد بعضهم ببعض من منطلق المصلحة الخاصة، لا من منطلق الحب والثقة، كما هي الحال في الأسرة (...). أما القسم الثاني فيتعلق بتنظيم العدالة حيث يتجسد الحق المجرد في القوانين التي هي تشريعات محددة ومعلنة ومعروفة «وهي مخصصة لحماية الأفراد ضد الاذى». اما القسم الثالث فيتعلق بالشرطة – التي تعني هنا قدرة احتكارية للحكومة منبثقة من الارادة العامة، وظيفتها حفظ القانون بالقوة... ثم الاشراف على شؤون المجتمع والاسعار والمعيشة وصولاً الى انشاء الملاجئ العامة والمستشفيات وإنارة الشوارع... وفي مثل هذا التنظيم الاجتماعي العقلاني (الدولة) يرى هيغل أنه لا يعود ممكناً وجود «أبطال في الدولة»: فـ «الأبطال لا يوجدون إلا في شرط غير متمدن، حتى وإن كان هدفهم – في البداية – مشروعاً وضرورياً وسياسياً... طالما أن الأبطال هم الذين أسسوا الدول وأدخلوا علاقات الزواج المضبوطة وزراعة الأرض»... غير هذا يكون دائماً قبل الدولة وقبل عقلنة المجتمع. اما بعد تشكل الدولة فإن الابطال، كما الأساطير، يصبحون جزءاً من الأدب والفولكلور، لا دخل لهم في تسيير شؤون المجتمع. وضع جورج فلهلم هيغل (1770-1831) كتاب «فلسفة الحق» في العام 1820 عندما كان يعيش ويدرّس في برلين. ولقد ظهر الكتاب في العام التالي، ليتبين ان كل ما فيه انما كان أفكاراً سياسية – حقوقية سبق لهيغل ان عبر عنها مرات عدة في السابق، لكنه هنا عاد ورتبها منظمة من جديد. وهو نفسه كتب في المقدمة ان «هذا المتن يقدم عرضاً أكمل، وأوفر تنظيماً خصوصاً للأفكار الاساسية التي كنت عرضتها من قبل». والحال ان الكتاب كما نعرفه الآن هو ذلك المتن نفسه ولكن بإضافة 194 فقرة اشتغل عليها تلميذ هيغل غانس، الذي اصدر الكتاب بحلته الجديدة في العام 1833، ليصبح من ذلك الحين واحداً من محاور النقاش من حول مسألة الدولة، بين مناصرين للكتاب منطلقين في عملهم منه، ومعارضين له من أسلاف كارل بوبر الذي كتب في القرن العشرين يقول إن «هيغل ما وضع هذا الكتاب الا لخدمة سيده ملك بروسيا».