بذل رجل الدِّين مفتتح طاولة أربيل جهداً في جمع الآيات الحاثة على الوئام ونبذ الفِرقة ليصبها في أسماع الفرقاء المتقابلين، لتهدئة ما في صدورهم مِنْ غِل. منها: "وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ" (هود: 88). و"وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ" (الحِجْرِ: 47). "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (الأنفال: 46).
أكتب هذا المقال قبل انتظار نتائج طاولة أربيل، فالحل على ما هو ظاهر تمديد لعهد المحاصصة الطَّائفية، وبما أن هناك قائمة شيعية فلابد أن تكون هناك قائمة سُنَّية، وإن لم تكن كذلك. فكيف يبرر وجود الأولى إذا لم تقابلها قائمة سُنَّية ولو بالاسم، لكن الصراع خرج مِنْ الطائفتين ليدخل ما بين الطَّائفة الواحدة، وهذا دليل أن الصَّراع سياسة لا ديانة، لا شأن للشِّيعة والسُنَّة فيه.
لكن، مع ذلك سمعنا في كلمة المالكي الحرص على نبذ الطَّائفية، وأن وحدة العِراق مقدسة، ولابد مِنْ تقديم الخدمات اللائقة للعراقيين، وكأنه لم يكن رئيساً للوزراء، ومحافظي المناطق الوسطى والجنوبية مِنْ حزبه، وكلُّ ما قدر عليه حزبه بالحلة منع الموسيقى، وما قدر عليه حزبه بالبصرة منع الأغنية التراثية، وهي المواساة لآلام البصريين. والحال نفسه لو تمكن "الإخوان المسلمون" من تلك المحافظات أو غيرها لفعلوا الشيء نفسه، إنه الإسلام السِّياسي، يعتقد أنه الممثل الشَّرعي لله تعالى، ويرى بقية القوى ممثلين للشَّيطان!
سمعنا رئيس الوزراء السَّابق يُلقي خطابه التَّعليمي الحماسي، وكالعادة يحاول استحضار المفردات ليلمع بها الخطاب، لكنها تبدو كحبات مسبحة غير متجانسات. فمما قاله في طاولة أربيل: "ثقافة المقروء أدنى مِنْ ثقافة المحسوس"، و"الأنا الخاطئة"، و"بصيرة الوعي"، عبارات متقاطعة لا تختلف عما كان يقوله وهو رئيس للوزراء: "الثابت الرِّياضي لا يختنق في عنق المتحولة السياسية".
اعترف مدير الطَّاولة نائب رئيس الوزراء نوري شاويس بحماسة الخطيب وقلقه على البلاد، ونهب ثروات البلاد، لكن الخطيب الذي هاجم مَنْ يبتعد عن الاعتراف بـ"الأنا الخاطئة"، كمَنْ "وضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ" (يس: 79). ألم يكن هو صاحب تلك الأنا؟ كيف يتقدم بحماسةٍ، وهو لم يتنازل عن رئاسة الوزراء إلا بشروط اعتبارية شخصية، ومنها عقد له في قصر مِنْ قصور المنطقة الخضراء لخمسين عاماً؟ ومِنْ أين الملايين لتشييد دار فخمة، وفتح قناة تلفزيونية؟
بل تفوق على السابقين أنفسهم في حب الذَّات وطلب الشُّهرة، فصدام لم يؤلف فيه كتاباً حول ذاته إلا بعد سبع سنوات مِنْ الحكم، وهو الذَّي لا يؤمن بالدِّيمقراطية بل كان يتباهى بالدِّكتاتورية، وأعني كتابي الفلسطيني فؤاد مطر والمصري أمير اسكندر، بينما لم يمض صاحبنا شهوراً في رئاسة الوزراء حتى أُلف له كتاب "زنار النَّار"، وهو أضخم مِنْ الكتابين مجتمعين بكثير.
لم نسمع أن صداماً ركبه الغرور إلى حدِّ أنه عندما يحضر له ضيوف أو مصورون يهديهم مِنْ ملابسه كتذكار، شأنه شأن كبار المغنين أو الممثلين، لكن هذا ما فعله صاحبنا مع مصورين جاؤوا لتصويره. أما البركة الجنائنية التي عملها النِّظام السَّابق ظناً أنه سيخلد فيها، وهو هاجس طلب الخلود نفسه عندما أخذ صاحبنا أحد القصور ولخمسين عاماً. تحدث ضد العنف وأسهب وهو الذَّي، وبثمن أن يكون رئيساً للوزراء، أعاد تسليح المليشيات، حتى تحولت البصرة إلى غابة ملأى بالوحوش. فعنْ أي "الأنا الخاطئة" تحدث صاحبنا.
بطبيعة الحال، ليس فلان وحده كان الباحث عن الخلود بأرائك تلك القصور، فالكل غرف وصارت له حاشية وأموال طائلة، لكن صاحبا أثار الحفيظة عندما تحدث عن عدم وجود "الأنا الخاطئة"، ويقصد أنه لا أحد يعترف بخطئه، فهل هو اعترف بخطيئة مِنْ خطايا ذاته! وإلا فالجميع يُسألون عن أموال العراق التي بلغت لأربع سنوات 311 مليار دولار، والميزانية، حسب مقال السياسي مجيد الحاج حمود مؤخراً، بلغت 72 مليار دولار ويزيد، وهي حسب المصدر نفسه، عادلت ميزانيات أربع دول مجتمعة: سوريا والأردن ولبنان واليمن.
هناك حقيقة يمكن استخلاصها مِنْ أفعال الذَّين عادوا وهيمنوا على إرث السَّابقين، ونسوا النَّاس، وما تحملوه منهم خلال هذه السنوات، مع ما تحمله عدد ليس بقليل مِنْ العراقيين مِنْ أفعالهم وهم في المعارضة، فكل تفجير كانوا يقومون به يحصد أرواح أبرياء، ولم يصب النِّظام السَّابق بضرر، وهو ما يفعله مَنْ يعتبر نفسه مقاومة حالياً، بإزهاق أرواح الأبرياء، كتفجير سفارة أو جامعة أو باب إذاعة أو خطوط طيران، أو أنابيب نِفط. ألا وهي: مَنْ يمسك بعروة السُّلطة لا يشعر بخطاياه إلا حسنات!
طاولة أربيل تُعد حدثاً يسر أي عراقي يؤمن بوحدة هذه البلاد، ويعتصر قلبه ما هب ويهب عليها مِنْ رياح هوج عاتية، لا تحمل سوى رائحة الموت، ولون الدَّم، وآهات البائسين، حتى غدت المنطقة الخضراء وما يجاورها مِنْ أمكنة محصنات، عراقاً آخر. فالاجتماع بحد ذاته في أربيل هو دلالة على أن روحاً ما زالت تخفق بين أوصال العِراق التي نراها تتقطع بمصطلحات عسيرة على التَّفسير، ومنها المناطق المتنازع عليها، وكأن الحديث يجري بين تركيا أو إيران أو الكويت مع العِراق، حتى المصطلحات اختيرت لتكون خطايا لا تغتفر.
ربما سيكون هناك حل، لكن المماطلة والتَّدافع، واستغلال سلطة القضاء، أمور أعادت العراق إلى طاولة مجلس الحكم، وهو ما يمكن توصيفه بحكم الأمر الواقع كسلطات طائفية، لا توقف الفساد ولا تمنع الرَّشى، ولا توقف الخراب. إنما كان الحل الوجيه الذَي يتناسب مع حماسة الخطباء، وإظهار حرصهم على بلادهم، وثرواتها هو أن يتفق الجميع على رئيس وزراء صاحب خبرة وكفاءة ويُشكل وزارته مِنْ وزراء تكنوقراط، ويأخذ المتقابلون على طاولة أربيل تعهداً صادقاً على أنفسهم بعدم التَّدخل في شؤون هذه الوزارة، مع مراقبتها عبر برلمان قوي خالٍ مِنْ خطيئة الطائفية والفئوية. وإلا فالخطابات عن الأخطاء بلا مخطئين، لا تكون إلا ما قاله عيسى بن مريم: "مَنْ كان مِنْكم بلا خطيئة فليكن أول مَنْ يرمها بحجر"!