بعد انقضاء شهرين ونيّف على الانتخابات التشريعية العراقية صار من الممكن توقّع اعلان نتائجها رسمياً من الجهات المعنية في بغداد. فالطعن الاساسي في النتائج الأولى تم النظر فيه، وثبت بـ"الوجه الشرعي" انه لم يكن في محله.
ذلك ان المخالفات التي حصلت ما كان في امكانها تعديل النتائج بحيث تتراجع كتلة نواب "القائمة العراقية" الى المرتبة الثانية، وتحلّ مكانها كتلة "ائتلاف دولة القانون". والإعلان الرسمي المشار اليه قد يحصل خلال ايام قليلة، اذا لم يكن حصل امس. ومن شأن ذلك اطلاق توقع آخر، هو بدء مجلس النواب الجديد ممارسة مهماته في الثلث الاول من شهر حزيران المقبل.
ماذا يعني ذلك؟
يعني انه سيصير في وسع مجلس النواب الجديد البحث مع المرجعيات الرسمية كما مع الائتلافات والكتل السياسية في موضوع الحكومة الجديدة رئاسة واعضاء. وهذا امر لم يكن ممكناً على نحو رسمي قبل ذلك، رغم انه كان حاصلاً بين كل المعنيين بالحكومة المقبلة. علماً انه كان بحثاً تمهيدياً الهدف منه تحديد الاهداف وترتيب التحالفات القادرة على تحقيقها. لكنه لا يعني في الوقت نفسه ان موعد ولادة الحكومة الجديدة صار ممكناً توقّعه، اذ لا يستبعد العارفون بأوضاع العراق ان تستمر المناورات والمماحكات بين الكتل النيابية الاربع الرئيسية، سنيّة وكردية وشيعيتان، وذلك نظراً الى الصراع الكبير بينها حول شخص رئيس الحكومة، والى الصراع اللاحق الذي لا بد ان ينشب حول الحقائب والحصص. وهو في الحقيقة وصراع مصالح سياسية وشخصية، صراع على "هوية" الحكم في عراق مابعد صدام حسين، وصراع على طبيعة النظام فيه، وصراع بين دول الجوار على النفوذ داخل العراق وتناقض مواقف كل منها من "الهوية" المشار اليها للحكم "الجديد".
طبعاً نحن في هذه العجالة لا نقف مع طرف عراقي ضد آخر. لكن طبيعة المعلومات التي ترد من العاصمة العراقية، يمكن ان تكوّن انطباعاً كهذا عند القارئ. لكن يُمكن في النهاية، وبعد التدقيق، التثبت من اشتراك كل الكتل السياسية – النيابية الاساسية في العراق في المصالح المشار اليها نفسها، فمثلاً يقول اخصام رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي انه وظّف موقعه وسلطاته من اجل نيل المرتبة الاولى انتخابياً، وذلك بإصداره قبل الانتخابات اوامر بالافراج عن العديد من "الصدريين" الذين اعتقلتهم حكومته عام 2008. في حين انه كان يرفض ذلك سابقاً متذرعاً بأنه لا يتدخل في القضاء. وقد دفع ذلك بعض "الخبثاء" الذين "شاهدوا" ذلك الى القول بتهكم: هل صار المالكي يتدخّل في القضاء؟ ومثلا يعزو ناشط عراقي الرفض الحازم لعودة المالكي الى رئاسة الحكومة الى الخلاف المزمن بين "حزب الدعوة" الذي ينتمي الى احد فروعه، بعدما صار ثلاثة احزاب، وبين آل الحكيم المعروفين بمرجعيتهم الدينية العريقة ونفوذهم السياسي. ومثلا يقول متبحِّرون في الموضوع العراقي ان السبب الاساسي "العام" لرفض الكتلتين الشيعيتين ترؤس الدكتور اياد علاوي الشيعي الحكومة الجديدة هو فوزه بأصوات السنّة، اذ ان 73 نائباً من كتلته ينتمون الى المذهب السني، وهذا يعني في رأيهم انه لا يمثل الجمهور الشيعي بغالبيته الكبيرة. وهذا امر يناقض ليس الدستور وانما روحيته. ويعني ذلك ان الغالبية النيابية الشيعية التي يشكلها تحالف كتلتي المالكي والحكيم – الصدر تفرض ان يكون رئيس الحكومة من صفوفهما، سواء كان نائباً او لا. ومثلاً يقول متابعون للوضع الاقليمي المؤثر في العراق ان ايران الاسلامية النافذة فيه، لن تقبل رئيس حكومة لا يمثل الشيعة بالانتخاب، ويجهر بأنه علماني، وانتمى في مرحلة واسعة من حياته السياسية الى حزب البعث.
هل يمكن ان تجد العقدة الحكومية في العراق حلاً لها؟ وكيف؟
حاولت ايران ذلك، وحققت نجاحاً اولياً تمثل في "إقناع" كتلتي المالكي والحكيم – الصدر بالتحالف، لكنها لم تحقق بعد النجاح النهائي بسبب الخلافات الشخصية والسياسية والحزبية بين القيادات داخلهما. وهي مستمرة في المحاولة. علماً انها ستوافق قطعاً على اي شخص تتفق عليه الكتلتان المذكورتان. لكن المتبحّرين في الموضوع العراقي يعتقدون ان استمرار الازمة الحكومية من دون حل مدة طويلة قد يفتح باب احتمالات تجدد العنف المذهبي في البلاد. ويعتقدون ان المرجع الشيعي العراقي الابرز آية الله السيد علي السيستاني قد يعطي الكلمة الفصل حين يرى الخطر محدقاً جدّياً بالبلاد. علماً انه نأى بنفسه عن "الاصطفاف" مع اي جهة، ودعا دائماً الى التفاهم بالحوار. واعطاء الكلمة الفصل لا يعني تخليه عن دوره المرجعي العام، ولا دخوله في التفاصيل. وعندما يعطيها يمتثل الجميع داخلاً وخارجاً وفي مقدمهم ايران وربما السعودية. الا ان همّ السيستاني يبقى، الى عدم التفريط بحق الغالبية الشيعية في الحكم، التوصل الى طريقة تؤمن دوراً فاعلاً للسنّة في الشراكة الوطنية. وهو لا يتأمن الا اذا مارسه الممثلون الحقيقيون للسنّة والمنضوون في كتلة الرئيس السابق علاوي. فهل يتخلون عنه؟ ام هل يتوصل الجميع وبرعاية مرجعية الى صيغة تضمن المشاركة السنيّة وحق الغالبية الشيعية والاقلية الكردية، وتؤمن في الوقت نفسه موقعاً مهماً لعلاوي ولكن خارج رئاسة الحكومة؟ الاجوبة عن ذلك كله لا تزال غائبة. لذلك لا بد من الانتظار.