نستهل كلامنا اليوم بالإبلاغ عن واحدة من الهرطقات الدينية التي حرفت الفكري وأخرجته مما وضع فيه ومن أجله ، هي الشفاعة والتوسل التي قيل فيهما وعنهما الكثير ، فالشفاعة كانت – ومازالت – من أهم المسائل الإعتقادية لدى جمهور أتباع محمد – ص - ، وأكثرها تعقيدا وحساسية ،
أما التعقيد : فلأن أصحاب الفرق والمذاهب جعلوها من مسائل العقيدة يكفر بعضهم بعضاً على ضوئها ،
وأما الحساسية : فلأنها أستخدمت في التلاعب وفي تفجير عواطف العوام الذين تتحكم فيهم العواطف ويعميهم التقليد .
والشفاعة : هي من الشافع سعي لدى المشفوع عنده لجلب منفعة للمشفوع له أو دفع مضرة عنه ،
وهي إصطلاحاً : تعني دعاء أو نداء للأستغاثة أو للأستجارة ، يرفعه صاحب الحاجة إلى الشافع ليتوسط له بذلك لدى المشفوع عنده ، من أجل تلبية هذه الحاجة سواء أكانت جلب منفعة أو دفع مضرة ، والأصل في الشفاعة من الشفع خلاف الوتر ، أي من الزوج الذي هو خلاف الفرد ، وكأن صاحب الحاجة كان فردا في دعائه وصار بالشفيع شفعا أي صارا زوجا .
والشين والفاء والعين - ش ، ف ، ع - مفردات وردت في خمسة وعشرين موضعا من الكتاب المجيد منها قوله تعالى :
1- (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ) البقرة 48 .
2- ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ) البقرة 123 .
3- ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة .. ) البقرة 254 .
4- ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا
بإذنه ..) البقرة 255 .
5- ( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن لها كفل منها .. ) النساء 85 .
6- ( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ) الأنعام 51 .
7- ( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها .. ) الأنعام 70 .
8- ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء .. ) الأنعام 94 .
9- ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفع لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل .. ) الأعراف 53 .
10- ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد
إذنه .. ) يونس 3 .
11- ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله .. ) يونس 18 .
12- ( لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن
عهدا .. ) مريم 87 .
13- ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ) طه 109 .
14- ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) الأنبياء 28 .
15- ( فما لنا من شافعين ) الشعراء 100 .
16- ( ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ) الروم 13 .
17- ( الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ) السجدة 4 .
18- ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له .. ) سبأ 23 .
19- ( أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون ) يس 23 .
20- ( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ) الزمر 43 .
21- ( قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون ) الزمر 44 .
22- ( وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) غافر 18 .
23- ( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) الزخرف 86 .
24- ( وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) النجم 26 .
25- ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) المدثر 48 .
لكن ذلك لا يعني أنها لم تكن موجودة قبل عصر الكتاب المجيد ، فالشفيع بمعنى المجير والمخلص موجود عند النصارى في قولهم " هناك شفيع واحد عند الأب هو يسوع المسيح " ، والشفيع بمعنى الحامي والحارس والحافظ موجود أيضا عند النصارى في قولهم " القديس نيقولاوس هو شفيع بلاد الروس" والشفيع بمعنى الوسيلة والواسطة موجود عند عبدة الأوثان يعبدونه ليقربهم إلى الله زلفى حسب قوله تعالى : ( ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى .. ) الزمر 3 .
والأطراف الداخلة في مسألة الشفاعة ثلاثة : الشافع والمشفوع له والمشفوع عنده ، فإذا كان المشفوع له هم أصحاب الحاجات والمشفوع عنده هو الله سبحانه ، وهذان طرفان لا يختلف فيهما أحد مع أحد ، فمن هو الشافع ؟
لا نحتاج للجواب على هذا السؤال إلى تأويلات ولا إلى تخريجات يكفي أن ننظر في المواضع الخمسة والعشرين من الكتاب المجيد ، لنجد أن بعضها يشير إلى وجود شفاعة في الحياة الدنيا ، ثم يأتي بعض آخر ليقرر إن هذه الشفاعات الدنيوية لا محل لها في الآخرة ، وأن شفعاء الدنيا بمختلف ألوانهم وأغراضهم لا محل لهم في الآخرة .
الأهم من ذلك كله أن بعض النصوص تقرر بلا لبس ولا مواربة أن الشفاعة يوم القيامة مقصورة حصرا على الله ، الذي لا شافع ولا شفيع غيره ، بينما يقرر البعض الآخر أن الشفعاء هم من ارتضى لهم الله من الملائكة أن يشفع وأذن له بذلك .
وتأكيدا إلى ما ذهبت إليه النصوص من أن الشافع يوم القيامة هو الله أو من يرتضيه من الملائكة يقول تعالى ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) الانفطار 19
تلك هي الشفاعة كما رأيناها وفهمناها في الكتاب المجيد ، ولكن
لنرى ماذا يقول المفسرون في هذا الشأن ؟
يقول الرازي : " أجمعت الأمة على أن لمحمد - ص - شفاعة في الآخرة ، وحمل على ذلك قوله تعالى :
( .. عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) الإسراء 79 ، وقوله تعالى : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) الضحى 5 .
ثم اختلفوا بعد هذا في أن شفاعته عليه السلام لمن تكون ؟؟ ، هل هي للمؤمنين المستحقين للثواب ؟ أم لأهل الكبائر المستحقين للعقاب ؟
قالت المعتزلة : هي للمستحقين الثواب ، في تحصيل زيادة من المنافع على ما استحقوه ، وقال أصحابنا إنها لإسقاط العذاب عن مستحقي العقاب ، إما بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار ، وإن دخلوها فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة "
[ أنظر التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي ج 3
ص 47 , 48 ] .
يستهل الرازي فقرته بالقول :
- أجمعت الأمة - ونتساءل : أي إجماع هذا الذي يتحدث عنه ومتى حصل ؟ ، وأية أمة هذه التي أجمعت من دون خلاف والتاريخ والواقع يقولان إنها أي الأمة أختلفت ولم تجتمع على أمر صغيرا كان أم كبيرا منذ أربعة عشر قرناً ؟
والكتاب المجيد في سورة الإسراء 79 يقرر إن للنبي مقاماً محموداً في الآخرة مكافأة له على تهجده في الليل ، و سورة الضحى نزلت في مكة لتطييب خاطر النبي بعد انقطاع الوحي عنه وبعد أن توهم أن الله قد تركه وجفاه ، ويتحدث النص رقم 5 عن نٍعم يعطيها الله لنبيه الكريم في الدنيا تماما كما أعطاه مأوى بعد يتم وهدى بعد ضلالة وغنى بعد عيلة ، ولا نجد ما يشير لا تصريحا ولا تلميحا إلى شفاعة تمنع دخول مستحقي النار إلى النار أو تخرجهم منها إذا هم دخلوها .
ويختم الرازي فقرته في تفسيره بالقول : ( وقال أصحابنا إنها لإسقاط العذاب عن مستحقي العقاب ، إما بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار ، وإن دخلوها فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة ) .
وأصحابه الذين قالوا قولا يتعارض عموديا مع قول الله تعالى ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) الانفطار 19 ، ومع قوله تعالى مخاطبا نبيه الكريم : ( أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ) الزمر 19 ، ولا نجد عاقلاً في الكون يترك قول الله ويتمسك بقول أصحاب الرازي .
قال الطبرسي : حكم هذه الآية [ ويعني آية البقرة 48 ] مختص باليهود ، لأنهم قالوا نحن أولاد الأنبياء وآباؤنا يشفعون لنا ، فأيأسهم الله عن ذلك ، فخرج الكلام مخرج العموم والمراد به الخصوص ، ويدل على ذلك أن الأمة اجتمعت على أن للنبي (ص) شفاعة مقبولة وإن اختلفوا في كيفيتها ، فهي عندنا مختصة بدفع المضار وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين ، وقالت المعتزلة هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين ، وهي ثابتة عندنا للنبي (ص) ولأصحابه المنتجبين وللأئمة من أهل بيته الطاهرين ولصالحي المؤمنين ، وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين ، يؤيد ذلك الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول وهو قوله (ص) : " ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " [ أنظر مجمع البيان للفضل بن الحسن الطبرسي ج 1 ص 103 , 104 ] .
والطبرسي ينطلق من ذات المسلمات التي انطلق منها الرازي ، لكنه يزيد عليه في أمرين ، الأول : أن الشفاعة عنده كما هي ثابتة للنبي فهي ثابتة أيضا لأصحابه المنتجبين وللأئمة من أهل بيته الطاهرين ولصالحي المؤمنين ، وهذا هراء يفترض صاحبه أنه سيُكون يوم القيامة مجموعات من أصحاب النبي وأحفادهم ، ومن أهل بيت النبي وذرياتهم ، ومن صالحي المؤمنين ونسلهم ، تقدر أعدادهم يومئذ بالألوف أو بعشرات الألوف ، لكل منهم حق الشفاعة للخطاة والعصاة ومرتكبي الكبائر ، وصلاحية نقض وتعطيل الأحكام الإلهية الصادرة بحقهم .
فإذا قال تعالى لملائكة العذاب عن قاتل أو سارق أو غاصب أو زان بمحارمه أو عاق لوالديه أو ظالم لرعيته أو جائر في أحكامه ( خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه
ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) الحاقة 30 ، 31 ، 32 - تصدى له أحد الشفعاء قائلا : خل عنه فأنا شفيعه وشافعه من العذاب .
ويعجب الإنسان وهو يتأمل هذه العبارات البيزنطية هل يضحك عليها - من باب شر البلية ما يضحك - أم يبكي على ما ابتلانا الله به من هذا النوع من الكتابات والتخريجات والأراء ؟؟؟
الثاني : إنه استشهد على صحة قوله بحديث نبوي من أحاديث الآحاد انفرد الطبراني بروايته بالمعجم الأوسط برقم 5842 - عن ابن عمر قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا يقول : إني ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة ، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ورجونا لهم ، - انتهى .
وهذا حديث ظني لا يصلح في مجال العقايد كما يقول علماء الأصول ، ويتعارض مع ماورد في سورة الانفطار 19 وفي سورة الزمر 19 ، والأصح منه ما رواه البخاري في صحيحه- عن عائشة أنها قالت : إن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله ؟ قالوا : ومن يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ؟ فكلمه أسامة فقال رسول الله (ص) : أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة ؟ ثم قام فاختطب ثم قال : إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف فيهم تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها - .
أما السيوطي في تفسيره " الدر المنثور " فله رأي عجيب في مسألة الشفاعة ، إذ يزعم إن آية الشفاعة اختلف المفسرون في تعيينها ، قال بعضهم هي آية البقرة 255 وقال بعضهم هي آية الطور 21 :
- ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ) البقرة 255 .
- ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امريء بما كسب رهين ) الطور 21 .
أما آية البقرة 255 ، المشهورة باسم آية الكرسي ، فالكلام فيها عن الشفاعة ورد بصيغة الإستفهام الإنكاري الذي ينفي وجود شفاعة وشافعين ..
وأما آية الطور 21 فتحكي عن ذرية مؤمنة قصر عملها بها فإن الله تعالى يلحقهم بآبائهم كرما منه وفضلا ، ولا ذكر فيها لذنوب تمحى ولسيئات تغفر ولمعاصي تشطب بشفاعة الآباء لأبنائهم ، ولم ينتبه السيوطي إلى خاتمة الآية التي توضح بما لا يقبل الشك أن شفيع المرء يوم القيامة هو عمله .
لقد فتح الطبرسي باستشهاده بأخبار الآحاد لغيره بابا واسعا أمام القائلين بثبوت الشفاعة ، فهذا البيهقي روى : - عن عبد الله بن عمر ، وقيل عن عبيد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله (ص) : من زار قبري وجبت له شفاعتي - .
راغب الركابي
الحلقة الأولى