يحكي الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" أن أحد شيوخ الأزهر دُعيَ ليرى بعض التجارب الكيميائية التي يقوم بها علماء الحملة الفرنسية. وبطبيعة الحال صاحب هذه التجارب حدوث فرقعات ناتجة عن تفاعل المواد الكيميائية، فما كان من الشيخ إلا أن فزع وانبهر! وهنالك توجه إليه أحدهم بالقول: هل لديكم شيء من هذا؟! فأجاب قائلا:
أنا لن أجيب على هذا التساؤل ولكن أخبرني: هل تستطيع أنت أن تتواجد بالقاهرة وتونس في نفس الآن؟! فأجاب الرجل: بالطبع لا! فقال الشيخ: أما أنا، فأستطيع إذا كنتُ من أهل الحظوة!!
والحكاية ذاتها مروية ومشهورة في كتب التاريخ القديمة عندما أهدى هارون الرشيد الملك شارلمان ساعة دقاقة عام 802 م ففزع منها الحاضرون اعتقادا منهم بأن بها "عفاريت"!! وما نود أن نخلص إليه من هذين المثالين هو أن كل حضارة تمر بأطوار متعددة من الركود إلى الازدهار أو العكس ومن الطبيعي أيضا أن يتعامل أبناؤها في كل مرحلة من مراحل تطورها بحسب السياق العام الحاكم لها. وإذا أخذنا ذلك بعين الاعتبار يمكننا فهم جدلية التخلف والتحديث من خلال هذا المنظور.
فمنذ أن استيقظ عالم الإسلام على عصر ما بعد النهضة يطرقُ الأبوابَ ويخطفُ الأبصار، إذا بحيرةِ المسلمين في شأن التعاطي مع الآخر لم تتوقف بحيث تراوحت المواقف وردود الأفعال ما بين: الاعتزال والخصام والتمرد والمقاومة، خاصة ممّن حصروا أنفسهم في مسائل اللحى وأغطية الرؤوس، والثياب القصيرة والضيقة، والمستور والمكشوف، والمسواك والسجائر، والطِيب والحِناء والتبرك بالأولياء... وما إلى ذلك، وبين الإقبال على الحياة والنهل من ينابيع حداثتها.
وبين هذا وذاك ثمة تيار ثالث حاول جاهدًا أن يقول ببساطة شديدة: إنّ القبولَ المُطلق بالحضارة الغربية الحديثة قد أدى بنا إلى الانفصال الحضاريّ عن تراثنا الإسلاميّ، كما أنّ الرفضَ المُطلق للحضارة الغربية قد تم من منطلقات سلفيةٍ تتشبثُ بالماضي دون أن تطلَ على الحاضر، فضلا عن أن تتطلع إلى المستقبل.
أضف إلى ذلك أيضا أنّ هناك ثلاثة أحداث ساهمت في إذكاء هذا الجدال بحيث صار لا ينتهي ألا وهي: هزيمة العام 1967، والتي أفرزت مجموعة من الأمور من أهمها القول بنهاية المرحلة الاشتراكية وما رافق ذلك من بحث عن بديل تمحور في تيارين رئيسين: أولهما التيار الداعي إلى ضرورة الأخذ بالبديل الإسلامي، وثانيهما التيار الداعي إلى العودة للديمقراطية الليبرالية التي ظلت غائبة طوال عهود الثورة الناصرية والجزائرية...إلخ. الأمر الثاني هو اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975وسقوط ليبرالية الطوائف بعد أن كان ينظر إلى بيروت باعتبارها عاصمة الديمقراطية في العالم العربي.
الأمر الثالث هو اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979 حيث أمكن تعميم مقدمات الثورة التي لم تكتمل في مشروع فكري عربي يقول بالإسلام بديلا، وفي مشروع آخر رأى في الأحزاب الإيرانية والصحافة الحرة والانتخابات النيابية والرئاسية بديلا ديمقراطيا يتعين الأخذ به. وبذلك يمكن اختصار هذه المرحلة في خطين رئيسين هما: الإسلام بمعناه السابق على إسلام النهضة العربية الحديثة، والديمقراطية بالمعنى الليبرالي السائد على رؤيا تلك النهضة.
يتحصل مما سبق، أنّ الانسحاب الأول في مواجهة العصر كان مُقترنا بتلك المرحلة التي استيقظ فيها المسلمون، بعد سبات دام خمسة قرون، على طلائع الحضارة الغربية تدق قلاعهم الناعسة بعنفٍ بلغ ذروته طوال القرن التاسع عشر. ففي هذه المرحلة كان الإسلام كما يفهمه الجهلاء مزيجا من الخرافة والشعوذة والطلاسم والأوهام، ومن الوثنية وعبادة الموتى. وكان بعض المتعالين من أدعياء المعرفة يحكم بكفر القائلين بدوران الكرة الأرضية، ولا يتردد في تكفير من يسميها كرة!
والواقع أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد فحسب، بل إنه امتد ليشكك في أبسط البديهيات العلمية لدرجة أنّ مجلة المنار نشرت في العام 1909 سؤالا مُوجها إلى صاحبها الشيخ محمد رشيد رضا حول الخبر المُبلغ بواسطة البَرق: هل يُعتد به عندنا في الشرع، كالصلاة على الغائب، وما يترتب على ذلك من الأمور الشرعية، كالهلال في الصوم، أو الإفطار...إلخ؟! وبطبيعة الحال، لا تزال توجد بين المجتمعات الإسلامية المعاصرة دول لا تعترف بإثبات الرؤية عن طريق الفلك وتتمسك بإثبات الصوم أو الإفطار عن طريق شهادة اثنين من مواطنيها رؤية الهلال بالعين المجردة!!
تلك الخلفية هي التي هيأت المسلمين لتلقي شعور الصدمة عند أول احتكاك بالعالم الغربي، فيما بعد عصر النهضة. وهي ذاتها التي أسهمت في النمو غير الصحي للتفكير الإسلامي حتى اللحظة الراهنة، حيث لا نزال نقف اليوم أمام تراث فكري وبناء نفسي "أخروي" بالدرجة الأولى. فكيف يمكن الوصول إلى معادلة تحل هذا الإشكال دون حدوث انفصام لا مع الماضي من جهة، ولا مع الحاضر من جهة ثانية؟! هذا ما نأمل مناقشته في مقال لاحق.
() أكاديمي وباحث مصري