قد يختار الإنسان أن يكون مجرما ويسلك طريق الشر وهو يدرك انه محل ازدراء ورفض من المجتمع، ويشكل حالة نشاز في المنظومة الأخلاقية لمحيطه...
وحين يلاحقه القانون والعرف الاجتماعي سيعلم إن ما يطاله من عقاب هو استحقاق طبيعي لأخطاء اقترفها.. لكن... حين يصدر منه ضرر باتجاه المجتمع وهو يؤدي واجبا شرعيا...
وهو موقن انه ينفذ تعاليم تثيب عليها السماء ويأمر بها الدين، سنكون أمام حالة أكثر تعقيداً، إذ الدافع المعنوي لإنتاج الضرر اكبر في هذه الحالة، وهو ينتج بدوره عن سوء فهم للنصوص الدينية خصوصا تلك المتعلقة بامتلاك الحقيقة المطلقة، ومحاولة احتكارها وإقصاء الآخر... فالمتدين هنا ضحية، تنتج أضراراً من دون إدراك أو وعي... بسبب جهل وسطحية في التفكير... وبدلا من أن يتخذ الدين رسالة تسامح ومحبة وبناء سيجعله محرابا ينحر على بابه الأجساد بغير ذنب ولا جريرة... وحامل الفكر الديني هنا، لا يعدو كونه قنبلة... اشتعل فتيلها ولا يمكن درء الخطر القادم منها إلا بنزع ذلك الفتيل...
الخطاب الديني للمجتمع يشكل ابرز المتحكمات في إنتاج الثقافة الدينية لإفراده، التي تعد المحرك الأساسي لسلوكهم داخل المحيط، اذ ليس مهماً ما يعنيه الدين لغة أو اصطلاحا... وليس مهما ما يعنيه لدى الأنبياء والرسل... المهم ما يعنيه في ارض الواقع.. وما ينتجه من اثر في سلوك الإنسان وفي علاقته مع المجتمع... ومن ثم لا بد من متابعة هذه الثقافة وتحليلها والتأكد من كونها قائمة على المبادئ الإنسانية السامية التي جاءت بها الأديان، وليست مستندة إلى مجموعة من الأفكار المريضة المسمومة القاصرة عن احتواء الآخر والتعايش معه، ساهم في صناعتها ارث ثقيل من القراءات غير الواعية.
الخطاب الديني يستلزم توافر ثلاثة أطراف: المخاطب (بكسر الطاء) وموضوع الخطاب، والمتلقي... والعنصر الأساس والفعال في هذا الموضوع هو الطرف الذي يتولى توجيه الخطاب، لأنه يقوم بقراءة النصوص وتفسيرها وفق ثقافته الذاتية ومكتسباته المعرفية ويقوم بتصدير الخطاب المغلف بفهمه الخاص، إذ ان الخطاب غالبا ما يكون أسير الصفات الشخصية للخطيب، وان ما يصل منه إلى ذهن المتلقي يكون بعيدا عن قصد الشارع وعن دلالة النص. ما يصل هو وجهة نظر الخطيب ليس إلا.
وهذا ما يفسر نشوء المذاهب الفقهية واختلاف المجتهدين داخل المذهب الواحد في الحكم الواجب الاتباع في ذات المسألة (ان الدين عند الله الإسلام).. نعم... ولكن ما هو الإسلام... فمن تمسك بحرفية المفردة، ذهب إلى انه إسلام الشعائر والطقوس التي كان يؤديها الصحابة وقت النبي (ص) واصبح خطابه يتضمن تكفير أهل الأديان الأخرى... ومصادرة حقهم في الحياة... وأرسل طائراته ليفجر برج التجارة العالمية في ايلول/سبتمبر ليقتل آلاف الأبرياء باسم الإسلام...
أما من بحث عن جوهر المفردة، فقد فسر الإسلام على انه الطواف حول الذات المقدسة أيا كانت لغة ذلك الطواف، و عرف المسلم بأنه من سلم الناس من يده ولسانه، وهذا النموذج هو أكثر قدرة على التعايش مع الآخر المختلف، ويحترم أشياءه ومقدساته بقدر ما ينشده لمقدساته هو من احترام وتقدير.
اغلب من يتولون عملية تصدير الخطاب الديني يعانون من عزلة عن المحيط المجتمعي...
فهم يعيشون في بيوت الدرس اغلب حياتهم، يطالعون مناهج بالاتجاه نفسه، ويلتقون بأشخاص من المحيط نفسه، فتكون الأفكار المتبادلة والثقافة الدائرة بينهم مكرورة ومستهلكة،لا تخضع للنقاش مع الآخر ولا تستفيد من التطور الذي يعيشه المجتمع، الذي يستلزم تجديد الخطاب بما يتماشى مع الحاجات الجديدة، ويكون الخطاب الواصل للمتلقي الديني، تبعا لذلك، خطابا متطرفا، لا يلائم الواقع العصري، ولا يماشي روح الإسلام باعتباره ديناً لكل العصور وفيه من النصوص والحوادث ما تقبل القراءة والتأويل.
الحاجة كبيرة في العراق.. وفي هذه الظروف بالذات، إلى اجراء إصلاح في منظومة الخطاب الديني، إذ من دون اجرائه لا يمكن بناء ثقافة سياسية واجتماعية سليمة وخالية من العوق... خصوصا ونحن جربنا الخطاب المتطرف والمشوه خلال السنوات التي تلت سقوط النظام الذي أفرز عملية سياسية باصطفافات طائفية، خارج الحسابات والاعتبارات الوطنية.
لا بد في سبيل ذلك من إدخال رجال الدين من جميع الأديان والمذاهب في دورات تعليمية حول التركيز على المشتركات الإنسانية في خطبهم وكتبهم، وعدم الخوض في كل ما من شانه الدفع باتجاه الفرقة والاستفزاز للقضاء على الخطاب الإرهابي وتجفيف منابعه الثقافية.. مع سن القوانين التي تتابع وتراقب مثيري الفتن الدينية والطائفية لوضعهم تحت طائلة القانون... كذلك يكون الإصلاح بان تأخذ منظمات المجتمع المدني دورها في إقامة الندوات والحلقات النقاشية التي تحاول قراءة النصوص الدينية قراءة تجديدية ومحاولة تفسير النص من خلال الواقع وليس العكس...
وهناك مسؤولية ملقاة على عاتق الاعلام التلفازي تتمثل في تنظيم البرامج الحوارية التي تصب في ذات الهدف... أما الأداة الاهم في عملية الإصلاح فتكمن في إصلاح المناهج الدراسية الدينية ومحاولة إعدادها بصورة معتدلة بعيدا عن التحيز لأي دين او مذهب خصوصا وهي تستهدف فئات في طور البناء والتنشئة وتشكل نواة للمستقبل، ولو بني أساسها الثقافي بشكل سليم، حتما ستنتج ثماراً ايجابية على مستوى مستقبل الدولة العراقية... إذ ليس من المنطقي ان ينظر احد التلاميذ إلى زميله على انه كافر وخارج عن الملة...
ولا يجوز تزويجه إن كان من دين آخر وهم يدرسون منهجا دينيا لم يحسن واضعه قراءة النصوص الدينيـة قراءة إنسانية واعية