ترمي هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على الغناء العربي بما يكفل الوقوف على أصوله وأنواعه والقواعد الضابطة له، بما يمثل خطوة رائدة قام بها الأسلاف.
أصل الغناء وأنواعه:
حين تعرّضت المصادر العربية للحديث عن الغناء العربي منذ بداياته الأولى سارت في ثلاث مراحل، عرضت في المرحلة الأولى لأصل الغناء وأوّل أنواعه، وعرضت في المرحلة الثانية لأوّل من غنّى من الرجال والنّساء، ثمّ عرضت في المرحلة الثالثة لأوّل من اخترع آلات الموسيقى.
فأمّا أصل الغناء وأوّل أنواعه، فقد نقل المسعودي (ت 346 هـ) عن ابن خرداذبة أنّ: "الحداء في العرب كان قبل الغناء... وأنّ الحداء أوّل السّماع والتّرجيع في العرب، ثمّ اشتقّ الغناء من الحداء"، ثمّ يذكر أنّ غناء العرب كان النّصب(1)، وأنّه كان "ثلاثة أجناس: الركباني والسّناد الثقيل والهزج الخفيف"(2).
ولكن ابن رّشيق يختلف معه في الرّأي، فيذهب إلى أنّ النّصب هو غناء الركبان والفتيان "ومنه كان أصل الحداء كل"(3)، وبذلك يجعل الحداء فرعا مشتقا من النّصب، لا أصلا له، كما ذكر ابن خرداذبة.
وإذا كان المسعودي فيما نقله عن ابن خرداذبة يقرّر أوّلية الحداء، وإذا كان ابن رشيق في العمدة يقرّر أوليّة النّصب، فإنّ ابن خلدون يذكر في مقدّمته ما يفهم من أنّ الضربين نوع واحد، وأنّهما يرجعان إلى زمن واحد من حيث النشأة، فيقول: "وأمّا العرب فكان لهم أوّلا فنّ الشعر... ثمّ تغنّى الحداة منهم في حداء إبلهم، والفتيان في فضاء خلواتهم فرجّعوا الأصوات وترنّموا وكانوا يسمّون الترنّم إذا كان بالشعر غناء"(4).
وهكذا نجد أنّ ابن خرداذبة بعد أن يجعل الحداء أصلا يعود فيذكر أنّ الركباني نوع من أنواع النّصب، وأنّ ابن رشيق بعد أن يجعل النّصب أصلا يعود فيعرّف النّصب بأنّه غناء الركبان والفتيان، وأنّ ابن خلدون يجعل غناء الحداة والفتيان في فضاء خلواتهم ضربا واحدا.
والظاهر أنّ النّصب والحداء ضربان متقاربان يكاد تقاربهما يوحّد ما بينهما، فيجعل هذا الخلاف بين الرّوايات تباينا ظاهريا لا يعدو الاختلاف في اللفظ والتسمية، فقد ذكرت المعاجم العربية أنّ النصب غناء للعرب يشبه الحداء إلاّ أنّه أرقّ منه(5).
ولا يكاد المرء يخرج بمميّز يفرّق معالمهما أن تختلط، ولكنّه يحسّ مع ذلك أنّ النّصب والحداء قد يعنى بهما ضرب واحد من الغناء، أو ضربان متقاربان أشدّ القرب، تفرّع أحدهما عن الآخر وتطوّر يسيرا يجعله أرقّ وأعذب، ولعلّنا لا نغلو إذا لمحنا فيما تقدّم أنّ النّصب قنطرة تتوسّط الحداء والغناء اجتازها الغناء العربي في انتقاله من الحداء الساذج الغليظ إلى الغناء الفنّي المصنوع.
وربّما كان في النّص الآتي سند لدعوانا هذه: "فقد روى نائل مولى عثمان بن عفّان أنّه خرج في ركب مع عمر وعثمان وابن عبّاس، وكان مع نائل رهط من الشبّان فيهم رباح بن المغترف الذي كان يحدو ويجيد الغناء والحداء، فسألوه ذات ليلة أن يحدو لهم، فأبى وقال مستنكرا: مع عمر! فقالوا: أحد فإن نهاك فانته، فحدا حتّى إذا كان السّحر قال له عمر: كفّ هذه ساعة ذكر، ثمّ كانت اللّيلة الثانية فسألوه أن ينصب لهم نصب العرب فأبى وأعاد استنكاره بالأمس قائلا: مع عمر!... قالوا له كما قالوا بالأمس: انصب فإن نهاك فانته، فنصب لهم نصب العرب حتّى إذا كان السّحر قال له عمر: كفّ هذه ساعة ذكر، ثمّ كانت اللّيلة الثالثة فسألوه أن يغنّيهم غناء القيان، فما هو إلاّ أن رفع عقيرته بغنائهنّ حتّى نهاه وقال له: كفّ فإنّ هذا ينفّر القلوب(6).
ولعلّ ابن رشيق حينما قرّر أنّ النّصب سابق للغناء وأصل له غلب الدّلالة اللغوية للكلمة على الدلالة الاصطلاحية، فالمادة اللّغوية في أصلها لا تعني أكثر من الرّفع والإعلاء، ومن هنا كان النّصب هو رفع الصّوت، ويكون بهذا المعنى اللّغوي الأوّل سابقا للحداء، ولكننّا نعلم من الرّوايات التي تقدّمت أنّ هذا المعنى اللغوي اكتسى ضلالا جديدة واصطبغ بألوان مستحدثة جعلته مصطلحا فنّيا لضرب خاص من الألحان أرقّ من الحداء، كما ذكرت المعاجم، ومشتق منه متطوّر عنه، كما نقل المسعودي.
وقد عانى الأدفوي (كمال الدّين أبو الفضل جعفر بن ثعلب الأدفوي) (ت 748 هـ) من غموض هذين الضربين واختلافهما ما عنينا، فهو ينقل عن أبي العباس القرطبي المالكي (ت 626 هـ) أنّه ذكر أنّ الغناء على ضربين: ضرب جرت به العادة أن يستعمل عند مجادلة الأعمال وحمل الأثقال وقطع المفاوز لينشط به كحداء العرب... ثمّ ينقل عن ابن عبد البرّ أنّه قال في التمهيد عند الكلام على قول عائشة رضي الله عنها: "فكان بلال إذا رفعت عنه الحمّى يرفع عقيرته"، إذن اسم الغناء يشمل غناء الركباني، وهو رفع الصّوت بالشعر كالتغنّي به ترنّما، وغناء النّصب والحداء، وهذه الأوجه لا خلاف في جوازها بين العلماء، ثمّ يقابل الأدفوي بين الكلامين ويقول: إنّ كلام ابن عبد البرّ يقتضي أنّ النّصب غير الركباني لأنّه قال: هذه الأوجه، فأتى بصيغة الجمع، وكلام القرطبي يقتضي أنّ النّصب هو الركباني، فإنّه قال: غناء العرب النّصب وهو صوت فيه تمطيط، ثمّ ذكر الأدفوي أقوال الآخرين يرون أنّ النّصب هو الركباني(7).
وأيّا كان الأمر فإنّ هذه النّظرة لنشأة الغناء كانت نظرة قريبة سطحية لم بكن فيها من العمق ما يجعلها تسبر غور المسألة فتغوص إلى جذورها وترجع الفروع إلى أصلها الأولى، وسنرى أنّ الحداء والنّصب وسائر أنواع الغناء التي ذكرها القدامى من العرب إنّما هي فروع مستحدثة قريبة العهد، وأنّ لها أصلا يغوص في أعماق القدم.
أوّل من غنّى من الرّجال والنّساء:
لمّا كان الحداء - على رأيهم - أصل الغناء كان من الطبيعي أن يكون غناء أوّل من غنّى حداء، قال ابن رشيق (463 هـ): "إنّ أوّل من أخذ في ترجيعه الحداء: مضر بن نزار، فإنّه سقط عن جمل فانكسرت يده فحملوه وهو يقول: وايداه وايداه، وكان أحسن خلق الله جرما وصوتا، فأصغت الإبل إليه وجدّت في السّير". فجعلت العرب مثالا لقوله "ها يداه، ها يداه" يحدون به الإبل(8).
ويوافقه في ذلك المسعودي وغيره، ويرون لتأييد هذا الرّأي حديثا عن الرّسول (صلّى الله عليه وسلّم)، على أنّنا نجد بجانب هذا مصدرا يذكر لنا أسماء أوّل من غنّى في الجاهلية من الرّجال، فيذكر لنا ابن الطحّان أنّ الرّوايات والروّاة قد: "اتّفقت على أنّ أوّل من غنّى في الجاهلية "جنجور"، وقيل "علس ذو جدن"، وبعدهما علقمة الفحل وجذيمة بن سعد وهو المطلق وربيعة بن حرام(9).
وأمّا أوّل من غنّى من النّساء، فلا نجد عليها الاختلاف، فالمسعودي وابن عبد ربّه وابن الطحّان وغيرهم يقرّرون أنّ أوّل من غنّى من النّساء هما "الجرادتان"، وكانتا قينتين لمعاوية بن بكر على عهد عاد(10). وقد أجمعت المصادر التي بين أيدينا على أنّ أقدم القيان اللائي عرفتهنّ الجزيرة العربية هما قينتان عرفتا بجرادتي عاد، واتّفقت تلك الروايات على سرد قصّة واحدة تتكرّر فيها جميعا، نختار منها رواية ابن جرير الطبري قال: "فلمّا نزل وفد عاد على معاوية بن بكر أقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنّيهم الجرادتان، قينتان لمعاوية بن بكر، وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا، فلمّا رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتغوّثون بهم من البلاء الذي أصابهم، شقّ ذلك عليه فقال: تلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم صيفي نازلون عليّ، والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه، فيظنوا أنّه ضيق منّي بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرا نغنّيهم به لا يدرون من قاله، لعلّ ذلك أن يحركهم، فقال معاوية بن بكر، حين أشارتا عليه بذلك:
ألا يـا قيل ويحك قـم فهينـم ** لعـلّ اللّه يسقين غمام
فيسقي أرض عـاد إنّ عــادا ** قد أمسوا لا يبينون الكلام
من العطش الشّديد فليس يرجى ** به الشّيخ الكبير ولا الغلام
وقد كـانت نساؤهـم بخيـر ** فقد أمست نسـاؤهم عيامى
وإنّ الوحش تأتـيهم جهـازا ** ولا تخشى لعـاديّ سهام
وأنـتم هاهنا فـما اشـتهيتم ** نهاركـم وليلكـم الـتّـمام
فقبّـح وفـدكم مـن وفد قوم *** ولا لـقوا الـتحيّة والسّلام
فلمّا قال معاوية ذلك الشعر، غنّتهم به الجرادتان، فلمّا سمع القوم ما غنّتا به قال بعضهم لبعض: يا قوم إنّما بعثكم قومكم يتغوّثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم"(11).
غير أنّه بعد هذا الاتّفاق في جميع المظان على أنّ أقدم من غنّى من العرب هما هاتان القينتان، وعلى ذكر قصّة واحدة عنهما بعد هذا الاتّفاق اختلاف كبير في اسميهما. فالطّبري في تاريخه وابن خلدون لا يذكران لهما اسما، ولكن الطبري في تفسيره(12) يذكر أنّ اسم إحداهما "وردة" والأخرى "جرادة" فقيل جرادتان، على التغليب، وقد ذكر ابن الطحّان الموسيقي أنّ اسماهما: بعاد وثماد وأنّهما كانتا في زمان عاد الكبرى. وهكذا نرى أنّ اسم إحدى القينتين، وردة أو بعاد أو قعاد أو نفاد، والأخرى: جرادة أو ثماد أو تعاد(13).
ابن خرداذبة وتفسيره لمصطلاحات الغناء وقواعده:
سأل المعتمد على الله الخليفة العبّاسي ابن خرداذبة وكان من أشهر علماء عصره في تاريخ الغناء عن منزلة الإيقاع من الغناء وأنواع الطرق وفنون الغناء فأجابه: "قد قال في ذلك يا أمير المؤمنين من تقدّم إن منزلة الإيقاع من الغناء بمنزلة العروض من الشعر، وقد أوضحوا الإيقاع ووسموه بسمات، ولقّبوه بألقاب، وهو أربعة أجناس: ثقيل الأوّل وخفيفه، وثقيل الثاني وخفيفه، والرمل الأول وخفيفه، والهزج وخفيفه. والإيقاع هو الوزن، ومعنى أوقع: وزن، ولم يوقع حرج من الوزن والخروج: إبطاء عن الوزن أو سرعة، فالثقيل الأوّل نقرة: ثلاثة ثلاثة: اثنتان ثقيلتان بطيئتان ثمّ نقرة واحدة، وخفيف ثقيل الثاني نقرة: اثنتان متواليتان وواحدة بطيئة واثنتان مردودتان، وخفيف الرمل نقرة: اثنتان مزدوجتان، وبين كل زوج وقفة، والهزج نقرة: واحدة واحدة متساويتان ممسكة، وخفيف الهزج نقرة: واحدة واحدة متساويتان في نسق واحد أخفّ قدرا من الهزج. والطرائق ثمان: الثقيلان: الأوّل والثاني وخفيفهما، وخفيف الثقيل منها يسمّى بالماخوري وإنّما يسمّى بذلك لأنّ إبراهيم بن ميمون المولى، وكان من أبناء فارس وسكن الموصل، كان كثير الغناء من هذه المواخير بهذه الطريقة. والرمل وخفيفه ويتفرّع من كلّ واحد من هذه الطرائق: مرموم ومطلق، ويختلف مواقع الاصطلاح فيها فيحدث لها ألقابا تميّزها كالمحصور والمحبول والمخثوث والمخدوع والأرواح.
العود عند أكثر الأمم وجلّ الحكماء يوناني، صنعه أصحاب الهندسة على هيئة طبائع الإنسان، فإن اعتدلت أوتاره على الأقدار الشريفة جانس الطبائع فأطرب والطرب ردّ النّفس إلى الحال الطبيعية دفعة، وكلّ وتر مثل الذي يليه، ومثل ثلثته، والرسان الذي يلي الأنف موضوع على خط التسع من جملة الوتر.
فهذه يا أمير المؤمنين جوامع في صيغة الإيقاع ومنتهى حدوده، ففرح المعتمد في هذا اليوم وخلع على ابن خرداذبة من حصره من ندمائه وفضّله عليهم وكان يوم لهو وسرور"(14).
الهوامش:
1 - النصب: ضرب من الغناء أرقّ من الحداء.
2 - المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، سلسلة الأنيس، الجزائر 1998، 2/ 353.
3 - ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق د. محمد قزقزان، دار المعرفة، بيروت 1988، 2/ 241-242.
4 - ابن خلدون: المقدمة، دار الجيل، بيروت، (د. ت)، ص 400-405.
5 - ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، ط 3، بيروت 1994، 1/ 762.
6 - ناصر الدّين الأسد: القيان والغناء في العصر الجاهلي، دار المعارف بمصر، ط 2، 1968، ص 97.
7 - المرجع نفسه، ص 98.
8 - ابن رشيق القيرواني: العمدة، 2/ 241-242.
9 - ابن الطحّان: حاوي الفنون وسلوة المحزون، مخطوط بدار الكتب المصرية للفنون الجميلة، ص 17.
10 - هو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، كان رجلا جبّارا عظيم الخلقة، وكان يعبد القمر، وذكروا أنّه رأى من صلبه أربعة آلاف ولد، وأنّه تزوّج ألف امرأة وكانت بلاده ملتصقة باليمن وهي بلاد الأحقاف. ينظر المسعودي: مروج الذهب، 2/ 14.
11 - الطبري: تاريخ الأمم والملوك، دار صادر، بيروت 2003، 1/ 234-236.
12 - المصدر نفسه، 1/ 237-238.
13 - نفسه.
14 - المسعودي: مروج الذهب، 2/ 358.