اللعبة التي بدأت ككل ألعاب الاستعراض، في دولة حولت السياسة إلى فرجة، انتهت بدهشة لن يفيق منها الكوكب.
وحتى لو تحققت النبوءة الحزينة لحاملة نوبل الإنجليزية دوريس ليسنج وتعرض أوباما لمكروه، فقد تم أخيراً ما لم يكن في الحسبان.
لنبوءة ليسنج خطورتها، ومعقوليتها؛ السيدة الحكيمة، بحكم طول العمر وعرض الخيال، تستند إلى صلافة اليمين الأمريكي وكراهيته للتغيير. ومرجعيتها في القياس هي كينيدي من دون أن تعلن ذلك، وهذه المقارنة بين كينيدي وأوباما توجد في أذهان الكثيرين فيما يبدو. ولم تتردد بعض وسائل الإعلام، بعد تلك النبوءة، في وصفه بـ 'كينيدي الأسود' ما يعني أن التربص بأوباما سيكون ضعف كينيدي: مرة لشبابه وجرأته ومرة للونه.
ذلك ما لا نرجوه، وليس هذا أوان المزاج السيء، فالتحول الذي لم نصدقه في البداية قد تم!
كان الانطباع في بداية المعركة الانتخابية الأمريكية أن الديمقراطيين قرروا إهداء الرئاسة للجمهوريين مجدداً، من خلال مراهنتهم على أحد اثنين: أسود وامرأة. وعندما حسم الديمقراطيون كلمتهم لصالح أوباما، لم نكن نصدق أن المعركة ستنتهي لصالحه، مهما كانت أخطاء الجمهوريين، لأن المجتمع الأمريكي كان قد رتب نفسه على صيغ ثقافية وإعلامية تسمح بتزيين الكعكة البيضاء بطبقة شيكولاتة، للتلوين ليس أكثر: نجوم رياضة، موسيقيون، ممثلون، مذيعات، وتشريعات تجرم التنابذ بالألوان، صارت عبئاً على السود أكثر مما هي في صالحهم.
كل هذا جعل الأمل ضعيفاً، ولكنه أضاف إلى الفرجة التي تتكرر كل ثلاث سنوات حصة إضافية من الإثارة. وبروح الفرجة تابع الناس في أمريكا وتابعنا معهم مراحل الصراع الذي انتهى إلى هذه الدهشة.
ما حدث كان ملامسة التاريخ. وفي هذه الملامسة، يكمن الفرح الكوكبي باللحظة الأمريكية. وليس مهماً ما يمكن أن تسفر عنه الخطوة.
كانت الثورة الفرنسية التي حررت الفرنسيين لحظة تاريخية، على الرغم من أن ثورة النور والحرية هي التي رفعت طموحات الأوروبيين وغذت بربريتهم الباحثة عن مزيد من الرفاهية في استعباد الآخرين.
وبالمثل كان اختيار أوباما لحظة تاريخية، لا نعرف مدى نفعها، لنا أو للأمريكيين أو لبقية سكان الكوكب.
ليس السؤال ماذا سيصنع أوباما للعرب، لا أحد يصنع لأحد شيئاً، نحن الذين سنقدم لأنفسنا لو أزحنا عن كاهلنا الجثث المتعفنة. لكننا لو نظرنا لأنفسنا كجزء من سكان الكوكب المزعزع فقد يكون اختيار أوباما عملاً ضد كل المحتفلين باختياره!
أوباما هو قوة النجدة التي وصلت في لحظة الاستغاثة، وبات واضحاً أن اختياره، سيكون سبباً في تجديد الولاء الدولي لأمريكا.
جاء أوباما في اللحظة التي بدأت فيها الصخرة الأمريكية تتزحزح عن فتحة المقبرة الكونية، وبعد أن صار واضحاً انكسار الهيبة الأمريكية، وبداية البحث عن نظام عالمي جديد. ولذلك فإن المتطلعين إلى حصة من تركة أمريكا العجوز لن يكونوا سعداء بفوز أوباما، والروس أولهم بالطبع.
الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة، يتطلع الناس إلى ما سيأتي به من تغيير، وللمفارقة فقد يكون هو الرئيس الوحيد الذي يمكنه ألا يفعل شيئاً؛ فهو بمجرد وصوله أنجز كل شيء.
جعل أوباما فكرة 'الحلم الأمريكي' النظرية واقعاً. وأصبحت أمريكا بحق أرضاً للفرص، أرضاً للتسامح يمكن أن يحكمها شاب فقير، ابن لمهاجر أفريقي، بينما يكافح الـ 'بدون' العرب من أجل نيل جواز سفر على الرغم من أن عائلاتهم أسن من الدولة التي ترفضهم!
انتخاب أوباما أيقظ النداهة الأمريكية التي تغوي الرجال وتأخذهم إلى تيهها. وهذا ليس توقعاً، لكنه خبرة شخصية عانيتها قبل يوم الاقتراع النهائي ووضعتني في صفوف أعداء أوباما. كان ابني ذو التسعة عشر عاماً قد ترك محاضراته في الهندسة وتفرغ لمطاردة المحطات التلفزيونية وإحصاء الأصوات. قبل الانتخابات قال لي بوضوح: لو فاز أوباما، سأكون قد عرفت أين يجب أن أعيش!
وإلى أن أعلن الفوز، لم أكن لأستطيع أن أكتب أو أقرأ أو أنام، لم أعرف أين يجب أن أعيش، حتى تنتهي هذه الفتنة.
في هذه الأثناء كان الشاب قد درس مناخ مختلف الولايات، فروق التوقيت، فروق التشريع، وحفظ الدستور أيضاً.
ـ تصور، دستور ينص في مادته الثانية مباشرة على الحق في السعادة؟!
النداهة الأمريكية دخلت بيتي في هيئة شاب أسود فاز رئيساً.
وبرغم الغيظ والخوف، فهي لحظة تاريخية حقيقية، من حظنا أننا عشناها؛ فالمحطات المميزة قد يمضي قطار العمر بجيل كامل ولا يعثر عليها.
بشر يولدون ويموتون من دون أن يعلموا ما هو التاريخ وما هي التاريخية. بالنسبة للمستظلين بظل الدكتاتوريات المكينة اللحظة أعمق وأكثر تأثيرا.
نحن وأمثالنا لا نعاني من عدم خبرة بكلمة 'تاريخ' أو 'تاريخي' بل مما هو أسوأ، من التزييف الذي تعرضت له الكلمة، وجعل من التعرف على التاريخ والتاريخانية مهمة أصعب بكثير من تعرف الآخرين عليها.
خطابات الحشو والإنشاء التافهة، التي لا ينتظرها أحد، توصف بالتاريخية، افتتاح مرحلة في جسر أو مشروع صرف صحي يوصف بالتاريخية.
لكن ادعاءات الآباء بأن الأطفال يجلبون من السوق لم تمنع أحداً من اكتشاف روعة فعل الحب، فإن كل التشويش على 'التاريخ' و'التاريخي' لم تمنعنا من تذوق السعادة بلحظة تاريخية حقيقية، وليكن بعدها يكون!