عندما ينتقل الباحث إلى نظرية ابن خلدون في الدولة يجد نفسه، ليس فقط أمام ضرورة التعرف على نظريته في العصبية -وهذا قمنا به في المقالات السابقة بقدر ما يسمح به المقام- بل يجد نفسه أيضاً أمام ضرورة التدقيق في مفهوم "الدولة". وهذه الضرورة تصبح أكثر إلحاحاً عندما يكون البحث مؤطراً بالرغبة في "قراءة الواقع الراهن بعيون باحثين ينتمون إلى حقبة تاريخية سابقة"؛
ذلك لأن هذه الرغبة قد تجر إلى خطأ منهجي خطير هو ما يعبر عنه في اللغات الأوروبية بـ anachronisme وذلك باستعمال مفهوم في زمان غير زمانه. ذلك أن مفهوم "الدولة" كما هو رائج في الخطاب السياسي اليوم مفهوم نشأ مع التطورات التي عرفتها الحضارة الأوروبية منذ القرن السادس عشر، والتي أدت في نهاية الأمر إلى "شكل من التنظيم للشأن السياسي" أخذ يتطور ويغتني بمسيرة "النهضة" فيها.
وظاهرة استعمال المفاهيم في زمان غير زمانها ظاهرة رائجة سائدة في الخطاب العربي الحديث والمعاصر. ومن جملة هذه المفاهيم مفهوم الدولة. ذلك أن معنى هذا المفهوم في أذهاننا ليس تعبيراً صادقاً ولا انعكاساً أيديولوجياً لهذا "الشيء" الموجود في واقعنا الراهن والذي نسميه الدولة. يتجلى هذا واضحاً إذا نحن ربطنا هذا اللفظ بمجال تداوله في اللغة العربية كما تحافظ عليها المعاجم المطولة مثل معجم "لسان العرب"، الذي عاش صاحبه ابن منظور في القرن السابع الهجري، أي بعد أن بلغت الحضارة العربية أوجها وبدأت في التراجع والجمود على التقليد. ففي هذا المعجم نقرأ تفاصيل عن استعمالات لفظ الدولة أهمها ما يأتي: "الدولة: العُقْبة في المال والحَرْب سَواء". في الحرب "أَن تُدال إِحدى الفئتين على الأُخرى". في المال: "ما يُتداوَل منه فيكون لقوم دون قوم". أيضا: "الدَّوْلة للجيشين يَهْزِم هذا هذا ثم يُهزَم الهازم"، والدولة: "اسم الشيء الذي يُتداول، ومنه الإِدالة (بمعنى) الغَلَبة" يقال: "أَدالَنا الله من عدوّنا" و"اللهم أَدلْني على فلان وانصرني عليه. وقال الحجاج: يوشِك أَن تُدال الأَرضُ منّا كما أُدِلْنا منها، أَي يُجعل لها الكَرةُ والدَّوْلة علينا فتأْكل لحومَنا كما أَكلنا ثِمارها وتَشرب دماءنا كما شربنا مياهها".
المرحوم الحسن الثاني ألحَّ في خطابه التلفزيوني الذي أعلن فيه عن عزمه العمل بـ"نظام التناوب" في الحكم، على لفظ "التناوب" مستبعداً صراحة لفظ "التداول".
وحسب اطلاعنا لم يُستعمل لفظ "الدولة" في الخطاب العربي بالمعنى السياسي الذي يقترب من المعنى الحديث إلا في العصر العباسي الأول حين بدأ بعض أنصار العباسيين يستعملون عبارة "هذه دولتنا"، الشيء الذي يعني "هذه نوبتنا في الحكم"، وهذا بالمقابلة مع "نوبة الأمويين" التي كانت قد انتهت. ومما به دلالة في هذا الموضوع أن المرحوم الملك الحسن الثاني ملك المغرب السابق ألح في خطابه التلفزيوني الذي أعلن فيه عن عزمه العمل بـ"نظام التناوب" في الحكم، على لفظ "التناوب" مستبعداً صراحة لفظ "التداول"، ذلك أن معنى التداول، في ذهنه وهو المثقف الذكي، يعني ما تعنيه كلمة alternance الفرنسية أي ما نترجمه حالياً بتداول السلطة، أما "التناوب". فالمقصود منه هو التداول على الوزارات بين الأحزاب. أما السلطة فتبقى في مكانها.
هذا على صعيد المفهوم، مفهوم "الدولة" في الخطاب العربي... أما على صعيد الإشكالية التي تثيرها المقارنة بين دلالة هذا المفهوم عندنا وبين دلالته في الفكر الأوروبي فلعل أقوى تعبير عنها إنما نجده في كتاب صدر في سبعينيات القرن الماضي لباحث سوسيولوجي فرنسي بعنوان "الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام". والسؤال المركزي الذي أراد المؤلف الإجابة عنه في هذا الكتاب هو التالي: لماذا تطورت "الدولة" في أوروبا من دولة "الأمير" أي الملِك، ومن الإمبراطورية إلى الدولة الحديثة، دولة "الحداثة السياسية"، دولة القانون والمؤسسات، الدولة التي تستمد الشرعية من كونها تمثل إرادة الشعب، المعبر عنها بواسطة انتخابات حرة، وتعمل لخدمة المصلحة العامة... وبالمقابل لماذا لم تتطور الدولة في بلاد الإسلام خلال القرون الوسطى إلى دولة حديثة من هذا الطراز؟ ثم لماذا فشلت المحاولات التي قامت بها النخب العصرية في بلاد الإسلام من أجل نقل "الحداثة السياسية" الغربية تلك إلى بلدانها؟
وإذ يطرح المؤلف هذا السؤال المضاعف يصرح بأنه لا يريد أن ينطلق من وهْم عالمية النموذج الأوروبي وإنما يريد أن يكتشف خصوصية هذا النموذج من خلال مقارنته بالنموذج الذي عرفته بلاد الإسلام، مقارنة تتعامل مع النموذجين معاً على أساس أن كلاً منهما ند للآخر وليس على أساس أن أحدهما أصل والآخر فرع. ومن اكتشاف خصوصية النموذج الأوروبي من خلال قراءته بواسطة النموذج الإسلامي تظهر خصوصية هذا الأخير بدورها واضحة جلية.
وهكذا، وبتطبيق هذا "المنهج" يكتشف المؤلف، أو على الأقل يبرز بوضوح، أن الدولة الأوروبية الحديثة، دولة المؤسسات والمصلحة العليا (في مقابل دولة الطاغية من جهة ومصلحة العشيرة أو الطائفة من جهة ثانية) قد قامت في أوروبا نتيجة عملية تاريخية أسفرت عن ظهور مجال جديد في الحياة الاجتماعية هو مجال "السياسي"، مجال خاص بالممارسة السياسية، ينافس "الأمير" والكنيسة ويقدم نفسه كبديل عنهما في الحياة السياسية. لقد ظهر هذا المجال نتيجة الصراع بين "الأمير" والكنيسة خلال القرون الوسطى، ذلك النزاع الذي كان من نتائجه ظهور نظرية "التعاقد" (أو العقد الاجتماعي) قبل روسو التي تقول إن سلطة الكنيسة من الله، وبالتالي فهي أعلى، بينما سلطة الأمير من الشعب، وبالتالي فهي أدنى. وقد أدى هذا التوزيع في مصدر السلطة إلى القول إن الأمير يمكن عزله إذا لم يعمل لخدمة الشعب ولفائدة المصلحة العامة. وهكذا ظهر عنصر جديد، بل طرف ثالث، في حلبة الصراع بين الأمير والكنيسة، هو "الشعب" و"المصلحة العامة" و"بناء شرعية السلطة على التعاقد"... إلخ، مما أصبح يشكل مجالاً جديداً في الحياة العامة هو "المجال السياسي" الذي يجسم ما يعبر عنه بـ"الحداثة السياسية"، الحداثة التي تتجسم بدورها في دولة المؤسسات "التي ظهرت كنفي لدولة الأمير".
ذلك ما حصل في أوروبا، أما بلاد الإسلام (الأقطار العربية وإيران وتركيا) فهي في نظر المؤلف، لم تعرف مثل هذه العملية التاريخية، وبالتالي لم تعرف، ولا هي تعرف الآن، قطيعة مماثلة بين "الأمير" وما يسمى في هذه البلدان بـ"الدولة"، بل ما زال "الأمير فيها هو الدولة وما زالت الدولة هي الأمير. أما السبب -في نظره- فهو عدم وجود كنيسة في الإسلام، وبالتالي خلو تاريخ البلاد العربية الإسلامية من ذلك الصراع الذي عرفته أوروبا بين الكنيسة و"الأمير".
هذا عن الماضي، أما بالنسبة للحاضر فإن المؤلف يرى أن فشل النخب العصرية في البلاد العربية الإسلامية، في "استيراد" الحداثة السياسية الغربية وغرسها في بلدانها يرجع إلى عامل رئيسي هو أن المجال السياسي في هذه البلدان ما زال كما كان في القرون الوسطى مجالاً يحتله الأمير بمفرده ويحتويه الدين احتواء. وهذا ما يفسر في نظره كون الحركات الاعتراضية التي يشهدها العالم العربي والإسلامي اليوم موجهة في آن واحد ضد "الأمير" وضد النخب العصرية وحكوماتها وبرلماناتها؛ لأنه -من وجهة نظر هذه الحركات- أمام فشل جميع الأيديولوجيات المنقولة والمستوردة للحداثة السياسية الأوروبية لم يبق أمام الجماهير إلا الإسلام، ولم يبق أمام الدعاة من وسيلة لتعبئة الجماهير غير الإسلام.
بعد هذا المقال التمهيدي يمكن أن نطرح وجهة نظر ثالثة هي وجهة نظر ابن خلدون.