الفكرة الأولى التي تقفز إلى الذهن حين يدرس المرء مستقبل الكتاب والثقافة والعلم في عصر الانترنت وثورة المعلومات هي: كم أنت عظيم، عظيم، أيها الشرق.
فلا جدوى من الحديث عن مستقبل الكتاب والثقافة في الحضارة البشرية الحديثة، من دون العودة إلى الينابيع الأولى التي أنتجتهما في الشرق القديم. من لا تاريخ له، لا معنى حقيقياً لحاضره وغده. وهذا ينطبق على الحضارات كما على أدواتها وعلى رأسها الكتابة والثقافة.
رب معترض هنا: ماذا يمكن أن تفيد دراسة اللوحات الصلصالية السومرية قبل أربعة آلاف سنة، أو الكتابات الهيروغليفية على ورق البردى قبل ثلاثة آلاف سنة، أو الأبجدية المصرية والفينيقية والصينية قبل 1800 سنة، في سباحتنا الرائعة الراهنة في بحر الانترنت اللجب؟
وقد يضيف آخر: الكتب الورقية نفسها التي سيطرت على الساح العالمي منذ القرن الخامس عشر بعد الميلاد، والتي كانت في أساس كل الثورات العلمية والاجتماعية والدينية (بدءاً من بروتستانتية مارتن لوثر)، عرضة الآن لتهديد حقيقي على يد الكتب الإلكترونية، فكيف يمكن أن يكون الأمر مع أساليب كتابات قديمة لا تجد مثوى لها الآن سوى في المتاحف أو تحت الأرض؟
أسئلة مشروعة، لكنها ليست دقيقة. فطبيعة الثورة المعلوماتية الكبرى الراهنة، تجعل من عملية الوصل بين الماضي والحاضر حاجة قصوى، إن لم تكن وجودية أيضاً. هذه الثورة، وبسبب الطوفان الهائل من المعلومات التي تطلق، تهدد بجعل الإنسان أشبه برائد فضاء انقطع فجأة الحبل الذي يربطه بمركبته، فبات هائماً على وجهه لا يعرف إلى أين يسير أو يسيّر. كما انها (الثورة) تحمل في طياتها احتمال إصابة البشر بمزيد من وباء الغرور، وبالتالي الصلف والتطرف، بسبب الإمكانات الهائلة التي باتت المتوافرة.
الأصالة هنا باتت سلعة مطلوبة بإلحاح كما التواضع، لتمكين الإنسان من تمرير هذه المرحلة الانتقالية، (والتي بدأت بتمزيق كل المجتمعات بلا استثناء)، بأكثر ما يمكن من التوازن، وبأقل ما يمكن من الخلل.
هنا تبرز أهمية الغوص مجدداً في أصالة الشرق بشطريه الأدنى والأقصى. فحين يرسم خط رفيع واحد يربط بين ذلك المصري القديم المنكب على أوراق البردى وبين الإنسان الحديث المبحر في فضاء شبكات الإنترنت، يمكن أن تتبلور هوية حضارة بشرية جديدة رأسها يعانق السماء، لكن رجليها ثابتتان على الأرض. حضارة لا تعاني من التمزقات الاجتماعية العنيفة لأنها لا تعاني من الانقطاعات التاريخية العنيفة.
هذا الآن هو دور الشرق الأهم في التاريخ العالمي: الحاضنة الأم للمغامرة البشرية الجديدة. لكن هذا ليس كل شيء: فبعد أن اقتحمت الصين واليابان والهند وبقية النمور والتنانين الآسيوية العصر التكنولوجي بقوة وزخم، أصبح بإمكان الشرق أن يلعب وحده دور البوصلة التاريخية للوصول إلى هذه الحضارة.
أين موقع شرقنا الأدنى من كل ذلك؟
إنه آت لا ريب فيه، وإن بعد عذابات مضنية ومخاضات مؤلمة. فدوره لا غنى عنه في هذه السيرورة الجديدة، ليس فقط لأنه (مع الصين) مهد الكتابة والحضارة والعلم، ولا أيضاً لأنه حاضن كل “الكتب السماوية”، بل أولاً وأساساً لأن الشرق لم يحلّق تاريخياً إلا بجناحين.
الجناح الأول تحرك، وهو إما سينتظر الثاني، أو يدفعه بقوة الجاذبية إلى الحركة. وحتى الآن، الاحتمال الثاني هو الأرجح للأسباب التي نعرفها جميعاً.