فى خضم الاتجاهات المتشعبة للفرق والمذاهب الإسلامية بين متكلمين وباطنية وفلاسفة ومتصوفة وغيرهم، فقد تقطعت أشلاء الحقيقة وضاعت أوصالها، مما حدا بالإمام الفيلسوف أبو حامد محمد الغزالى "450-505هـ / 1058-1111م" أن يطلع على كافة علوم زمانه الدينية والعقلية لكى يصل إليها.
الفلسفة الشكية
بادئ ذى بدء يجب أن نعلم بأن الغزالى نشأ منذ طفولته نشأة دينية ذات طابع صوفي، ولقد أستمر عليها حتى نهاية حياته. فضلاً على وضعه النفسى القلق بسبب معاصرته للانقسامات الفكرية والاضطرابات السياسية. وعندما طرق باب الفلسفة أثناء تدريسه بالمدرسة النظامية فى بغداد ما بين "1093-1095". وبعد أن تشعب فيها ازداد حيرة وقلقاً. ولكى يصل إلى بر الأمان فقد أختط لنفسه مبدأ الشك كمنهج يفرز به العلم اليقينى الذى لا جدل فيه البتة. وأول ما فعله هو شكه فى العقائد الدينية الموروثة، ولقد رد على أغلب الفِرق وقتذاك. لأن كلًا منها يزعم أنه الناجى الوحيد. بل وقد رد حتى على مذهب الأشعرية الذى تبناه، وكذلك فعل مع المغالين فى الصوفية.
يقول الإمام الغزالى فى خاتمة كتابه: "ميزان العمل" صفحة 409، أن "الشكوك هى الموصلة إلى الحق فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقى فى العمى والضلالة". وفى كتابه: "المنقذ من الضلال" صفحة 60، ينص قائلا: "أن العلم اليقينى هو الذى يكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ولا يقارنه أمكان الغلط والوهم". أما عناصر القياس لهذا العلم اليقينى فهى الأمان والثقة. حيث كل "علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني".
ومن هنا ينطلق الغزالى بمنهجه العلمى الشكى كمصباح ينير له عقله تجاه العقائد الموروثة والمشاكل الفلسفية. ففى العقيدة الدينية وجد أنها تنتقل إلى الإنسان عن طريق التقليد لا أكثر. وعليه فأن الفرد ينشأ وفقاً لملته التى يعتنقها أبواه. ولذلك قال النبى محمد صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". أذن فأن مسألة التقليد ليست يقيناً ولا تقود إلى حقيقة الفطرة الأصلية التى تميز بين الحق والباطل. أضف إلى ذلك أن هذه "الفطرة الأصلية" هى واحدة عند كل البشر.
وعلى هذا الأساس يستمر الغزالى فى بحثه عن الحقيقة فى هذا المضمار أو غيره. فعن الفلسفة فأنه شك أول الأمر فى المحسوسات ومن بين الأمثلة التى ساقها: أن حاسة البصر تنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً فى مقدار دينار. ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض فى المقدار. وعليه فأن الحسيات غير يقينية ولا توجب أن نسلم بها بصورة قاطعة.
ثم أتجه بعد ذلك إلى العقل فشك به أيضاً. إذ لا يمكن أن نسلم بالضروريات الأولية للعقل، لأن قولنا: بأن العشرة أكثر من الثلاثة. أو أن النفى والإثبات لا يجتمعان فى الشيء الواحد. أو غيرها من البراهين العقلية التى لابد وأن تكون من العلوم. ولكن هذه العلوم إن لم تكن مسلماً بها، فأن الدليل قطعاً سوف يكون عقيماً لا ثقة به ولا أمان معه. وهنا اضطرب ذهن الغزالى وثقلت عليه محنته حتى بقى فيها قرابة الشهرين على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال. حتى شفاه الله وعاد أدراجه وسلم بأوليات العقل كحقائق ضرورية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين. ولم يشك فى مقدرة العقل إلا فى عجزه عن البحث فى الماورائيات أو ما بعد الطبيعة.
هذا وينتهى المطاف الشكى عند الغزالى إلى حقيقة تشمل الشرع والعقل. حيث اعتبر العقل شرعاً داخلياً والشرع عقلاً خارجياً، وما الفرق إلا فى العجز الماورائى للعقل؛ وهنا يتدخل الوحى والإلهام فى إنقاذه ليس إلا.
ولقد اتخذ الغزالى "الشك" مذهباً ذهنياً له طالما لم يرثه عن أحد، ومن خلاله قد توصل إلى ضالته المنشودة. ولكن هذه الحقيقة لم يصلها الغزالى حسب قوله عبر العلوم الشرعية أو العقلية، بل أن الله قد بث فى صدره نور الحقيقة. هذا النور الإلهى الذى أفاض الله به عليه فانكشفت له البديهيات والحقائق الأولى، ورجع فى إيمانه فى المحسوسات والمعقولات، وانتهى دور الشك فيه. فذلك "النور هو مفتاح أكثر المعارف". ثم يستدل على جوهر هذا النور متمثلاً بالقرآن والحديث. يقول تعالى: "فمن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام". ولما سئل رسول الله "ص" عن الشرح فى هذه الآية قال: "نور يقذفه الله فى القلب". فقيل وما علامته؟ قال: "التجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود". فمن ذلك النور ينبغى أن يُطلَب الكشف، وهو ينبجس من الجود الإلهى فى بعض الأحايين، فيجب الترصد له كما قال عليه السلام: "أن لربكم فى أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها".
وإذا وصل الغزالى إلى اليقين عبر منًة من الله تعالى. فما دور الأدلة العقلية أو الفلسفة على وجه الخصوص. حسب تصور الغزالى أن الفلسفة لا طائل لها بدليل تهافت الفلاسفة فى أرائهم التى لم تستقر على وتر واحد فى التوصل إلى كنه الحقيقة فى علومهم الإلهية. لأن العقل قاصر عن إدراك العالم العلوي. لذا وجب أن يزول هذا النوع من الفكر ويُمحق لأنه إشراك فى دين الله. كما وأن هذا الفكر يبعدنا عن الحقيقة فى الوصول إلى حقيقة وجود الله.
واستناداً إلى هذا المبدأ فقد أنقض الإمام الغزالى على الفلسفة شر انقضاض حتى أبادها فى المشرق العربى عن بكرة أبيها. بعد أن كفر تعاليم أفلاطون وأرسطو وأتباعهما من الفارابى وأبن سينا. حتى أصبح المشتغلون بها يُتهمون بالزندقة. صحيح أن القاضى الفيلسوف أبن رشد "1126-1198" قد أبطل تكفير الغزالى بحق الفارابى وأبن سينا، ولقد رد اعتبار الفلسفة ودور أفلاطون وأرسطو فى المعرفة. إلا هذا حدث بعد مئة سنة من ناحية. وكان ذلك فى الأندلس من ناحية أخرى. وبالتالى لم يؤثر فعلاً على عقلية المشرق العربى تجاه تكفير الفلاسفة.
الصوفية وتطهير القلب
بما أن الحقيقة أو اليقين الذى وصل إليه الغزالى "لم يكن ذلك بنظم كلام. بل بنور قذفه الله تعالى فى الصدر". كما ذكر فى "المنقذ، ص 63". ولكن لا تحسبن هذا "النور" سهل المنال والتحقيق، ولا يستطيع أن يصله إلا الباحث الجاد عقلاً وقلباً. ويرى الغزالى بأن هناك طريقين للمعرفة الصوفية: الحدس والاكتساب. الأول خاص حيث لا يحصل لكل إنسان. والثانى يمكن أن يحصل بالاستدلال والتعلم. وهذه الحقيقة التى وصلها الإمام الغزالى بعد جهد سنين بين الشك واليقين. هى أيضاً النتيجة المنطقية لرجل دين متصوف أخذ الطريقة من أكبر مشايخها وهو الفارمدي. ولذلك نجده فى "المنقذ، ص97" يقول: "أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة وأن سيرتهم أحسن السيَر وطريقهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق". وحتى لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء كى يغيروا شيئاً ما منهم فذلك محال لأنهم يقتبسون من نور النبوة التى ما بعدها نور يستضاء به فى هذا العالم.
أن أول شروط التصوف هو تطهير القلب بالكلية عما سوى الله، وآخرُها هو الفناء بالله. فمن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات، حتى أنهم فى يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون اصواتاً ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور إلى درجات يضيق عنها النطق، فلا يحاول معبًر أن يعبًر عنها إلا أشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه.
كان وصول الغزالى إلى هذه الحقيقة بالذوق الروحى فى الملاذ الذاتى له. بعد أن قطع دابر شكوكه، ومن أجلها ترك التدريس فى بغداد كونها غير خالصة لوجه الله. إذ أنها مدعاة للجاه والمال والصيت. ولكن ماذا عن الذى يفتقر إلى هذا "الذوق". يرى الغزالى بأن عليه أن يتيقنها بالتجربة والتسامع، وذلك بإكثار مجالسته للصوفية، حتى يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقيناً. فمن جالسهم استفاد منهم هذا الإيمان. فهم القوم لا يشقى جليسهم.
ولعل من أهم ما قدمه الغزالى فى التصوف هو الاعتدال، حيث يرد على نظريات الحلول والاتحاد والوصول ووحدة الوجود، كونهم قد تخطوا فى طقوسهم تعاليم الإسلام بشكل عام، "وكل ذلك خطأ". ثم أن الشطحات التى ينطقوها بكلمات لا يقبلها الدين، بل وتعتبر ضد الشرع، مثلاً قول البسطامى "-874": "أنا الله فاعبدوني". أو قول الحلاج "-921": "ما فى الجبة إلا الله". وإذا كان الأخير يقول:
أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدَنا
فإذا أبصرتنى أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
فأن الغزالى ينصح المتصوف "الذى لابسته تلك الحالة" من الحلول، وهو نزول الله فى المتصوف كما يتخيل إليه، أو حالة الاتحاد بين الله والمتصوف، أو غيرها من الحالات، فينبغى عليه أن لا يزيد على القول التالي:
وكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
صفوة القول أن الغزالى وصل إلى مرتع الصوفية، واعتبرها حقيقة لا شك فيها بعدما وصلت معرفته إلى:
1- الحدس الصوفي، والذى يكون عند أى إنسان.
2- الدراسة والتعليم، والذى يكون أفضل استدلال.
3- العلوم الضرورية، وهى حاضرة فى النفس مكشوفة للعيان.
4- -مقومات الصوفية، وهى أربعة: الزهد، حب الله، الفناء فى الله، الإلهام.
وبهذا التصوف المعتدل ومنهجه المحافظ مع تعاليم الشريعة الدينية يكون الغزالى قد أعاد التصوف الإسلامى إلى منابعه الصحيحة كما كان عند الصحابة والأتقياء الأولين، ومن بينهم الحسن البصرى "-728" ورابعة العدوية "-801" وغيرهم.
إزاحة العجز الإنساني
إذا كان بيرون الايلسى "توفى 275 ق.م" يعتبر مؤسس الفلسفة الشكية عند اليونانيين القدماء. ورغم انه لم يضع كتاباً واحداً، إلا أنه أضاف الأخلاق والشك المنطقى كمدركات للمذهب الشكي. فأن الغزالى يعتبر أول من أتخذ الشك منهجاً لليقين. وبذلك أزاح حالة العجز الإنسانى فى الوصول إلى الحقيقة، كما كان متبعاً عند بيرون وأتباعه. كما وأن الغزالى قد سبق المنهج الشكى عند ديكارت "1596-1650" رائد الفلسفة الحديثة. وكذلك مذهب اللاأدرية الذى يعد من أقطابه هيوم "1711-1776" وكانت "1724-1804". فالأول يرى استحالة سبر غور الحقيقة. أما الثانى فقد أعتبر "أن الشيء فى ذاته" حيث لا مجال للعلم أن يكشف كنهه.
هذا وأفضل ما عمله الغزالى فى المناخ الفكرى المتوتر فى عصره، أنه قد وضع جانباً كل العقائد الدينية الموروثة والتباينات بين المذاهب والفِرق الإسلامية، بعد أن أطلع عليها ودونما أن يزج نفسه فى رحاها المضطرب وأعتنق الصوفية المعتدلة وكفى بذلك خيراً. لكنه قد أجحف الفلسفة أيما إجحاف حتى شل وريدها النابض فى بغداد. ومن بين المآخذ عليه فى هذا الشأن أنه:
أولاً: أن اليقين الذى وصله الغزالى ليس عقلياً بحتاً. بل كان هبة من الله حسبما أخبرنا به. وبالتالى فأنه لم يعالج المشكلات الفلسفية عقلياً. وإنما نظرها من زاوية دينية صرفة، وشتان بين الحكم العقلى والقلبي.
ثانياً: أن الصوفية تعتبر سلوكاً روحياً نقياً، بينما الفلسفة تكون اجتهاداً عقلياً. وبذلك فأن التقييم بينهما يجب أن لا يكون بتمشية أحداهما على حساب الآخر. وذلك بجعل العقل قاصراً فى البحث الماورائي، وأن الحدس الصوفى أكمل منه.
ثالثا: الواقع أن فيلسوفنا الإمام أبو حامد قد أطلع على الفلسفة فى أوقات فراغه عندما كان يلقى دروسه فى المدرسة النظامية فى بغداد ولمدة سنتين. ولم يكن هناك من يشرح له بعض معضلاته الفكرية حيالها، ويوضح سبب هواجسه التى قربته نحو السفسطائيين وأبعدته عن الفلاسفة المبدعين. ثم أن السنتين مدة غير كافية لدراسة الفلسفة على يد معلم، فكيف الأمر وهو وحده!
رابعاً: وجد الغزالى أن الحقيقة تكمن عند الصوفيين، ولكنه لم يذكر لنا عن كيفية التعليم لكى نصل مثله. بل كل ما قد ذكره: أنه نستطيع أن نصل بالمعرفة الذوقية. فأن كان هذا حقاً فالعقل أدرك وصولاً من الذوق.
جملة القول أن الغزالى قد غالى فى تكفيره للفلاسفة المسلمين الفارابى وأبن سينا. فالأول كان صوفياً أيضاً، والثانى اعتنقها فى أواخر حياته. وهذا يعنى أنهما قد عرفا طريقة الذوق الروحى ولكنهما لم ينكرا قدرة العقل. كما وأن أفلاطون كان يؤمن بوجود خالق لهذا العالم، وكذلك بالنسبة إلى أرسطو رغم أنهما من أمة وثنية.
هذا جانب، والآخر أن الغزالى قد ترك التدريس فى بغداد زاعماً أنها غير خالصة لوجه الله. وهذا تقصير منه حيث حبس علمه عن 300 طالب هم أحوج إلى إلية من انكبابه على نفسه متنقلاً بين سوريا وفلسطين والحجاز ومصر. هذا إن لم نشير إلى الانقلاب السياسى الذى حدث وأراد الغزالى أن يتحاشاه، بدليل أنه قد رجع للتدريس ثانية فى مدينة نيسابور عندما دعاه فخر الملك.
بيد أن هذا لا يمنعنا من القول بأن الغزالى الفيلسوف الوحيد الذى أتى بالشيء الجديد فى زمنه. ولقد قال عنه أرنست رينان "1823-1892" بأنه المفكر الوحيد الذى انتهج لنفسه طريقاً خاصاً فى التفكير. كيف لا ولقد بقى منهجه يزاول إلى يومنا هذا. وجاء فى معجم أوكسفورد: "أديان العالم" بأن الغزالى "يُعتبر أعظم عالِم دينى بعد النبى محمد" صلى الله عليه وسلم.
* كاتب وأكاديمى عراقي