نظراً لطول البحث آرتأ ينا أن ننشره في جزأين (ج 1) كلمة العدالة مشتقة من العدل الذي هو ضد الظلم . فقد جاء في الخبر العدل وضع الشئ في موضعه . وعلى عكسه يكون الظلم , وله معان متعددة تتصل بمفهومه اللغوي الذي لا يبعد كثيراً عن مفهومه الإصطلاحي . إذا ما أريد منه مفاهيم ترتبط با لوجود وبا لحياة
. وعلى هذا فالكلمة بمفردها توحي إلى معان خصبة . تتعلق بكل ما له علاقة بالإدارة والنظام والإقتصاد والقانون والحقوق والواجبات . فهو إذن مبدأ سام من مبادئ الإنسانية العظيمة . ولهذا فلا يعتقد أن أصل المصدر فيه يعود إلى الوضع الإنساني وتعينه . لأن الأمر فيه يتعلق بعالم الوجود . باعتباره أحد الركائز الأساسية المتعلقة بنظام المعرفة والضبط والربط . ولهذا فلا يذهب التصور باتجاه الأبداع الإنساني لذلك النظام . لما تقدم عندنا من بطلانه للنوع في الوهلة الأولى بحسب ما نراه من قوانين معقدة لها وثيق الصلة بالوجود العام ونظرياته المتعددة . التي لا يصح ان تكون هي مبدأ البداية منه للقول بعدم كماله وقد , علمت مما سبق أن المادة والصورة سببان قريبان للأمور الطبيعية . واستنتجنا من البحث في تلازمهما انه يوجد سبب فاعلي هو فوق المادة وسوف نثبت في موضوع الحركات الكلية . أن للحركات غايات نهائية هي فوق المادة فالفاعل الذي هو فوق المادة والغاية التي هي فوق المادة سببان بعيدان للموجودات المادية , ولو كان هذان السببان البعيدان كافيان لإيجاد الموجودات المادية . لكانت هذه الموجودات باقية دوماً . ولا تنالها يد الفناء والعدم . ولكانت محتوية منذ البداية على الكمالات اللائقة بها . ولأمسى أولها عين آخرها . ولكن هذين السببين البعيدين غير كافيين . وإنما هناك سببان قريبان يؤثران أيضاً . وهما المادة والصورة . فمن جهة الصورة يحكم التضاد وتقبل الكيفيات الأولية الفساد . وكل مادة لها قابلية الصور المتضادة . ولهذا فإن أي موجود يملك نوعين متضادين من القابلية ولونين متضادين من الأقتضاء . أحدهما من ناحية الصورة والثاني من جهة المادة , فالصورة تقتضي أن يكون الموجود باقياً ومحافظاً على وضعه . أما المادة فتقتضي أن تتغير حالته وتوجد فيه صورة اخرى مضادة للصورة الأولى . ولما كان من المستحيل تحقق هذين الإستحقاقين والإقتضاءين المتضادين في شئ واحد . فلهذا لا يمكن أن تكون المادة محتوية على صور متضادة في آن واحد . والعطاء الإلهي يوجب تكميل مادة هذا العالم . الذي هو أسفل العوالم بواسطة الصور . ولذا قدرت الحكمة أن تكون الحركة دورية والزمان غير منقطع والمادة متغيره ؛ بحيث تتغير الصور على امتداد الزمان ويتبدل موقعها وتحكم الضرورة أن تكون لكل صورة مدة معينة تختص بها فتستوفي كل صورة حصتها من الوجود ؛ ولما كانت المادة مشتركة فكل صورة لها حق في الصورة الأخرى ؛ بحيث يناسب أن تعاد إلى صاحبها . فالعدل يوجب أن تعطي مادة هذه الصورة لتلك ومادة تلك لهذه وعلى هذا الترتيب تنتقل المادة خلال الصورة يداً بيد . ولهذا السبب يقتضي العدل ورعاية الأستحقاق أن يقوم نظام العالم على بقاء الأنواع لا الأفراد ؛ وهذا التصور ليس خالياًمن التطبيق الفعلي لأن كل حادث موصوف بكونه سابقاً على ما بعده . وبكونه لا حقاً بما قبله . والأعتباران مختلفان . فإذا أعتبرنا الحوادث مبتدئة من الأن تارة من حث كل واحد منها سابق . وتارة من حيث هو بعينه لاحق كانت السوابق واللواحق المتبا ئنان بالإعتبار متطابقين في الوجود . ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهم تطبيق . ومع ذلك يجب كون الكل متعلقاً بحقيقة واحدة هي مصدرهما . وهذا يعزز الأتجاه المتطقي التركيبي ؛ الذي لا يتقوم بفعل كون الوجودات بنظر التقدم والتاخر دليل على ورود أحتمالات مضيقة بأصل مصدر العدل . لأن النظر على العموم إنما يولد القناعة المشتركة لكون الأصل مصدر انتظامي لكل لا يغير فيه معنى السبق أواللحق . دامت بمضان الحركة الدورية التامة التي تعتبر محوريتها الوجود التام للطبيعة , التي لا تحتمل الخرق لمجرد الترتيب المقدم واللاحق . وهذا الإيراد قد يتوهمه البعض فيظّنوا أن الحكمة في الأصل لم تقم على مبدأ الإنتظام الإرادي . مما يولد حالات من اللااتفاق يسبب بالتالي ما نطلق عليه بالاصطلاح عكسه ؛ وعليه فلا يشك أحد أن مبدأ العدالة قائم في ذاته على فكرة النظر بالتساوي إلى المجموع . وعليه فهي شرط ضروري في الحقوق الطبيعية أو في الحق العام دفعاً للأشكال والتجاوز وحاجات أخرى , ربما تؤثر في القيمة النوعية للشرط العام . وعلى الأعتبار صارت العدالة مبدأ أجتماعي يقوم على شرط التكافل الوجودي بين المجموع . فهي من حيث الأولية ؛ تعني رعاية الأصول القانونية في المساواة عند التشريع والتنفيذ . لا أنها تعني أن يظل الأفراد بمستوى واحد ويعملوا باتجاه ذلك . لأنه يعتبر مخالفة صريحة لذات المواهب بين الأفراد , لأنها تلك الحالة العاملة من أجل تهيئة الإمكانات واللوازم في سبيل الاستفادة الجمعية نحو تحقيق الأهداف الإنسانية في الرقي التكامل البشري . ولكي ترفع كل الحواجز التي من شأنها ان تؤجل العمل الطبيعي لتحقيق التساوي الأنف الذكر . لأن العمل حاجة ضرورية متعلقة بالنوع الإنساني . وليس هي من مختصات الفقراء وحدهم . فلم تكن وظيفة مصيرية ذاتية خاصة ؛ ويمكن القول بأن العدالة عبارة عن إيجاد سبل وشرائط من أجل رفع الحواجز بأتجاه التساوي في الوضع الأجتماعي المتعلق بجنسهم . وهي على شرطها أمر من مختصات الدولة ووظائفها . لأنها بلحاظ العموم أمر إجرائي عملي كي ترفع التبكيت والمعانات والتفاوت بين الأفراد وجعلهم متساويين إزاء القانون والواجبات ولعل الأعتقاد الفلسفي يؤكد على ان العدالة حق طبيعي ثابت متقرر بفعل الوجود , وهو مبدأ لا يكتسب بفعل الوجود المحض . لأنه لا يدخل في الإرادات الذاتية . بحيث يكون وهبياً منها لما تقدم تجرد الوهب دون قدرته وأنه فضيلة . والفضائل لا تتقدر بالحساب الظني الذي هو أقوى على الكسب منه إلى العطاء لما تكون فيه نظرية الحق وشرطه . لأنها تتعلق بحقوق النوع العام والحاجة الأولى فيه تتعلق بالحق الطبيعي . ومن الخطأ تعليقه بالحق المكتسب لأنه لا دليل عليه في الفلسفة العقلية لعدم الأحتمال بالكينونة . إنهما جزءان لشكل واحد . ولعدم الفرض بأن الأصل الإجتماعي هو تطبيق فلسفي للحقين وهو بالتالي يعني تناسي الميدان الفسيح للشؤون البشرية , التي تعتمد على تباين ظروف الحياة الأجتماعية . وعلى المبادأة الحرة للعقل البشري والتي يتركها الحق الطبيعي دون تحديد . ومع أننا نميل بأتجاه كون الحق الطبيعي يتناول الحقوق والواجبات والتي تتعلق بالضرورة بالمبدأ القائل ؛ وسارعوا في الخيرات , وهذا ما يحدوني للقول بأن السنن الطبيعية للمبدأ سنن عامة , ولربما لذلك يصعب أن تميز بين كون المبدأ سنة طبيعية أم أنه حاجة مكتسبه . قطعاً هناك علاقة قائمة بينهما . ولكنها لن تكون بمستوى الحد المعين . لأن ذلك يفترض تسمية الكل بأسم الجزء . ولا حاجة فضلى تعزز القول بأن المبدأ الطبيعي عام متقدم . يكتسب الأولوية الوجودية لأنه يعرف من خلال الممارسة التصورية للعقل أو المعرفة العقلية , وبهذا فهي مقدمة بحسب القانون العقلي للمبدأ المكتسب المتعلق بالمصداق التصوري العاكس للمبدأ بما هو نظام من غيره ؛ لا ذات التشريع وإنما ذات الممارسة , أن مبدأ العدالة لا ينتزع . فهو ثابت لأنه مستقر في طبيعة الفرد. وليس هناك فرد بطبيعة النشأة كان فاقدأ له . ولهذا يمكن قبوله لصورة التحديد . لأنه دونه يمتنع الوجود بالمصلحة دون حدّه المعين . بحيث يكون مفهومه طبيعياً لدى العامة , أن شيئأ من الجدية يجب القول بها . وهو أن المبدأ لا يتعلق بالمصالح القهرية والطغيانية . لأن ذلك ينافي طبيعته . ولأن ذات المصالح تلك قائم على المبدأ الإكراهي الذي مصاديقه العينية الغصب وماشابه . لذلك تقرر التفريق بين أصالة المبدأ من حيث هو ومن حيث تقرره. إذ لا يينظر إليه كونه حاجة تشريعية تستند إلى قانون الحقوق مثلاّ ؛ ـــــــ المصدر : رسالة في التوحيد والسياسة المؤلف : الشيخ الركابي بيروت مؤسسة البلاغ ــ1988م