احتفل آلاف المسيحيين في قطر، مساء الجمعة 15 مارس بالافتتاح الرسمي لأول كنيسة مسيحية للطائفة الكاثوليكية المقيمة في قطر، ومن المنتظر خلال الأشهر القادمة، افتتاح 4 كنائس أخرى لباقي الطوائف المسيحية هناك.
وتخدم هذه الكنيسة الطائفة الكاثوليكية المقدر عددها بنحو 100 ألف نسمة، وهم أغلبية المسيحيين البالغ عددهم 150 ألفاً. تقع الكنيسة ضمن مجمع الكنائس على مشارف الدوحة، بعيداً عن السكان، وقد تبرع أمير دولة قطر بأرض المجمع، وقد كلف بناء الكنيسة 20 مليون دولار واستغرق 8 سنوات.
وهكذا تصبح قطر الدولة الخليجية الخامسة التي تسمح بالكنائس في أرضها، وكانت أول كنيسة خليجية قد افتتحت بالبحرين عام 1939، وهناك الآن 7 كنائس في الإمارات و4 في عمان و3 في الكويت، أما اليمن فتضم 4 كنائس وعدداً من الأبرشيات غير الرسمية... وتبقى السعودية الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تسمح بعد بكنائس على أرضها، لكن زيارة خادم الحرمين الشريفين إلى الفاتيكان العام الماضي قد تمهد لعلاقات دبلوماسية تُفضي إلى السماح بكنيسة في المنطقة الشرقية، خاصة أن هناك حوالي 4 ملايين مسيحي في السعودية.
الشعب القطري ساند قيادته، ومرّ افتتاح الكنيسة في مناخ فرح وسلام، ولم تتحقق المخاوف الموهومة والتهديدات الإرهابية الفارغة!
لقد ظلت الطوائف المسيحية في قطر تمارس طقوس عبادتها في منازل ومدارس وأماكن خاصةٍ خلال عقد من السنين وبشكل علني، دون غضاضة أو حرج أو اعتراض من الشعب القطري الذي ألِف ذلك وقبله وفقاً لطبيعته المنفتحة والمتسامحة، إضافة إلى انفتاح قطر واحتضانها للعديد من مؤتمرات حوار الأديان ومؤتمرات التقارب الديني والمذهبي، لذلك كان من المستغرب ادعاء البعض أن الشعب القطري غير راض عن إقامة الكنائس في قطر وأن هناك ضغوطاً خارجية (أميركية) للسماح بالكنائس. لذلك تعمد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الطاقة والصناعة عبدالله العطية، أن يقول في كلمة الافتتاح: إن افتتاح أول كنيسة كاثوليكية في قطر، هو تعبير صادق لسياسة أمير دولة قطر والتي تعكس مبادئ التسامح والمحبة التي يجب أن تسود بين الناس، مؤكداً أن افتتاح الكنيسة جاء باقتناع تام من قطر التي ترفض الضغوطات من أي جهة كانت.
إذن ما هي أسباب هذا اللغط الذي أحاط ببناء الكنيسة في قطر؟
المجتمع القطري شديد الحيوية ومن الطبيعي وجود أطراف، عندها حساسية مفرطة تجاه إقامة دار عبادة لغير المسلمين بسبب هيمنة المذهب الحنبلي عقوداً من السنين، وهناك أطراف لديها عقدة التآمر الخارجي وترى في أي تقارب مع الآخر الغربي نوعاً من الخضوع للإملاءات، واستطاع هذا البعض أن يروج إعلامياً فكرة أن القطريين مستاؤون من بناء الكنيسة! ولعل أول وأشهر من عبر عن تحفظه الدكتور نجيب النعيمي -وزير العدل السابق والمحامي حالياً- والذي قال قبل 3 سنوات إن القطريين يشعرون بالإهانة لأنه لم يؤخذ رأيهم في بناء الكنيسة! وكانت بيننا حوارات إعلامية حول الموضوع وكان يمثل الاتجاه الرافض.
لكن دعونا نتعرف على مبررات رفض النعيمي والذين معه:
1- الدستور القطري ينص على أن الإسلام دين الدولة، فلا يجوز السماح ببناء كنيسة رسمية، تماماً مثلما لا تسمح "الفاتيكان" ببناء المساجد.
2- الغرب إذ يسمح بالمساجد للمسلمين، فذلك لكونهم (مواطنين) ولأن دول الغرب "علمانية"، بينما المسيحيون في قطر غير مواطنين، وبالتالي لا يحق لهم المطالبة بكنيسة رسمية.
3- إن السماح بالكنيسة في قطر تم بقرار "سياسي" غير مسنود بتوافق "شعبي"، وقد يكون ذلك نتيجة ضغوط خارجية.
4- إن هناك فتاوى تحرم إقامة الكنائس في جزيرة العرب، وقطر جزء من جزيرة العرب، وسكوت العلماء في قطر وعدم معارضتهم لا يعني موافقتهم لاحتمال حرصهم على مصالحهم أو لأنهم (فقهاء السلاطين).
5- حتى نضمن عدم حدوث رد فعل شعبي سلبي على الأمن الاجتماعي عند افتتاح الكنيسة، يجب إجراء استفتاء شعبي "سري"، والنعيمي واثق بأن 99% من الشعب القطري سيصوتون بالرفض!
هذه أبرز حجج الرافضين والتي حاولوا إثارتها عبر وسائل الإعلام المختلفة، وبخاصة الخارجية، للإيهام بأن الشعب القطري غير مؤيد لإقدام حكومته على السماح بالكنيسة، لكنه ساكت اعتقاداً بأن هناك ضغوطاً خارجية. لكن هذه الحجج والمبررات لا تقوم على أي أساس سليم وما هي إلا توهمات وظنون لدى أصحابها نتيجة وقوعهم في أسر فتاوى وأقوال فقهية ضيقة، وبسبب استحكام "نظرية المؤامرة" في عقولهم. ولمناقشة هذه المبررات نقول:
1- قطر ليست دولة دينية، وإن نص دستورها على الإسلام كمرجعية، وهي مثل بقية دول الخليج التي نصت دساتيرها على ذلك، لكنها سمحت بالكنائس، ولا يجوز قياسها على الفاتيكان التي هي دولة دينية لم تسمح بالمساجد.
2- منطلق دول الغرب في السماح بالمساجد للمسلمين، هو مواثيق حقوق الإنسان عامة، لا "حقوق المواطنة" فقط، فالغرب يؤمن بحق كافة أتباع الأديان (المواطنين وغير المواطنين) في إقامة دور للعبادة، بل تتكفل الدول الغربية بالدعم المالي، على أنه يوجد في قطر مسيحيون ومسيحيات ممن يحملون الجنسية القطرية إما بالتجنس أو بحكم الزواج.
3- الفتاوى والاجتهادات الفقهية التي منعت الكنائس في جزيرة العرب، مختلفة بناء على اختلاف الفقهاء في تحديد النطاق الجغرافي المقصود بجزيرة العرب بين موسّع ومضيق، فالجمهور يفسر حديث "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" بأن المقصود به "الحجاز" وكلمة المدينة بالذات يؤيده بقاء الكنائس في اليمن ونجران وتيماء وأماكن متعددة من جزيرة العرب على مر التاريخ الإسلامي، لذلك يقول الشيخ عبدالمحسن العبيكان، وهو فقيه سلفي كبير وعالم جليل، إن وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين من جزيرة العرب، المقصود بها "المنطقة القريبة من الحرمين الشريفين" لقدسيتهما، ولا معنى لإدخال منطقة بعيدة مثل "المنطقة الشرقية" وغيرها في الوصية، بل يضيف: إن الإخراج من المنطقة المحظورة منوط بالمصلحة كما قرره شيخ الإسلام "ابن تيمية" بدليل أن الرسول لم يخرج اليهود من خيبر لحاجته إلى مقاسمتهم وما أخرجهم إلا عمر بسبب عدوانهم وعدم الحاجة إليهم سنة 20هـ، كما يقول الشيخ العبيكان إن المخاطب بالوصية "ولي الأمر" أي أن ذلك من اختصاصه يتصرف فيه حسب المصلحة العامة ولا يجوز للأفراد التدخل فيه. لذلك لا معنى لاتهام العلماء بأنهم فقهاء السلاطين ولذلك سكتوا، لأن سكوتهم محمول على أن الإذن بالكنائس من قبيل "السياسة الشرعية" المنوطة بولي الأمر.
4- لا معنى لإجراء استفتاء شعبي في أمر هو من اختصاص ولي الأمر لمخالفته للدستور القطري نفسه ومخالفته للواقع التاريخي الممتد 14 قرناً، فضلاً عن الفقه الإسلامي، ثم إن الحقوق والحريات ليست محلاً للاستفتاء، إضافة إلى أن موافقة الحكومة لم تأت بمعزل عن الساحة المجتمعية وعن استمزاج الرأي الشعبي وعن قناعات ثابتة بمبادئ المحبة والتسامح الديني والتعايش بين الثقافات والأديان. ولذلك فإن الشعب القطري ساند قيادته وحكومته ومرّ افتتاح الكنيسة في مناخ فرح وسلام ولم يحصل أي شيء من المخاوف الموهومة أو التهديدات الإرهابية الفارغة.