نحن متهمون دائماً بأن ثقافة التسامح وقبول الآخر غائبة عن منظومتنا القيمية. نتهم بذلك مع أن البعد الأساسي في هذه المنظومة -وهو الدين الإسلامي الحنيف- موغل في التأسيس لهذه الثقافة، فنحن أبناء منطق "لا إكراه في الدين" و"اذهبوا فأنتم الطلقاء"،
ونحن أصحاب الحضارة العربية الإسلامية التي كان ذلك الدين عمادها، والتي تشهد على الحضور اللافت لأبناء الديانات السماوية الأخرى في بنائها وتعزيزها، وعلى تفوق العرب والمسلمين بما لا يقاس على الأوروبيين على سبيل المثال في تعاملهم مع المختلفين معهم دينياً وعرقياً. نتهم بذلك أيضاً، مع أننا كنا دوماً -على الأقل منذ سقطنا في براثن الاستعمار الأوروبي قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها- الضحية لأولئك الذين غابت عنهم ثقافة التسامح. تشهد على ذلك المجازر الاستعمارية على امتداد الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه، ومع أننا -في حالة رفيعة من حالات التسامح الإنساني- لم نحمل بعد أن نلنا استقلالنا ضغينة للمستعمر السابق، وأخذنا في التعامل الطبيعي معه وكأنَّ شيئاً لم يكن.
تداعت هذه الخواطر إلى ذهني وأنا أحاول أن أتجاوز المذابح الإسرائيلية الإجرامية الأخيرة في غزة إلى ما وراءها. تستطيع إسرائيل كدولة أن تدعي أن هذه المذابح تأتي في سياق السعي إلى تحقيق أمنها الذي خدشته صواريخ المقاومة الفلسطينية، غير أن الأسلوب العشوائي المتعمد الذي اتبعته في توقيع العقاب على الفلسطينيين يكشف عن أن المسألة أبعد من ذلك بكثير، فهي تريد أن تروِّع الشعب الفلسطيني وترهبه مهما بلغت فداحة الثمن الإنساني لهذا الترويع والإرهاب حتى يضغط على طليعته المقاومة، وهو أسلوب استعماري قديم ثبت إخفاقه عشرات المرات خارج الحالة الاستعمارية الإسرائيلية، ومع ذلك فإن إسرائيل تثابر على اتباعه في تأكيد واضح لتمتعها بقِصر النظر الاستعماري المألوف، الذي يجعل القوة الاستعمارية عاجزة عن أن تفهم جدلية الاستعمار والتحرر، وعن أن شيئاً لا يمكنه أن يوقف تطور هذه الجدلية حتى يتم القضاء على الظاهرة الاستعمارية نفسها.
بل إن ما تمارسه إسرائيل من قوة مفرطة تجاه المدنيين العزل في فلسطين لا يعدو أن يكون سوى آلية تعجيل بالنضال التحرري، فأثره الأساسي -كما كان في غير ذلك من الحالات الاستعمارية- هو توسيع النطاق المجتمعي لمؤيدي المقاومة على حساب معسكر المهادنين للاحتلال، سواء لأن بشاعة ممارسات الاحتلال تثبت أن التفاهم معه مستحيل بدون ممارسة القوة، أو لأن العنف المفرط يطول الكافة سواء ساهموا في النضال التحرري أم لا، أو لأن إسرائيل لا تقدم الآن حتى الفتات لمن تتفاوض معهم من الفلسطينيين المؤيدين لنهج التسوية الرافضين لنهج المقاومة، أو لهذه الأسباب جميعاً.
لن تكسر الحلقة المفرغة لغياب التسامح وسيادة الكراهية إلا بالتسليم بأن ثمة حقوقاً أصيلة لشعب فلسطين ينبغي التسليم بها، أو على الأقل ببعضها.
وفي هذه المرة جاء رد الفعل الذي يثبت التحليل السابق سريعاً ومحملاً بدلالات لا يخطئها أولو الألباب، فوقعت العملية الفدائية التي قام بها فلسطيني من سكان القدس يوم الخميس الماضي ضد مدرسة "هاراف" الدينية بالقدس الغربية التي تعد مركز انطلاق العديد من الحركات الاستيطانية منذ أوائل القرن العشرين، وأفضت هذه العملية إلى قتل ثمانية وجرح العشرات من الإسرائيليين.
وأولى الدلالات بطبيعة الحال أن العنف المفرط لا يولد أمناً أو استقراراً، وإنما على العكس يفضي كرد فعل إلى عنف مماثل، وهكذا تكتمل الحلقة المُفرغة. وثانية هذه الدلالات أن إسرائيل لا تواجه فصيلاً مقاوماً متمرداً على سيطرتها على غزة، وإنما تواجه شعباً يسمى الشعب الفلسطيني يعيش أبناؤه متناثرين في أجزاء من أرض فلسطين الطبيعية بما في ذلك القدس التي لا تتصور إسرائيل إلا أن تبقى دائماً عاصمة موحدة لها، والأخطر من ذلك على أمن إسرائيل أن أبناء فلسطين لا يعيشون في أماكن تخضع للسيطرة الإسرائيلية فحسب، وإنما هم موزعون في الشتات بين عديد من الدول العربية وغير العربية، وأعدادهم في هذا الشتات لا تقل عن ضعف عددهم على أرض فلسطين، ومعنى ذلك أن إسرائيل يتعين عليها -إن كان لها عقل تفكر به- أن تتوقع كلما أمعنت في استخدام القوة المفرطة تجاه أبناء فلسطين الذين يخضعون لسيطرتها ألا يقتصر رد الفعل على هؤلاء فحسب، وإنما يمتد إلى خارج فلسطين في كل مكان يوجد فيه فلسطيني وتوجد فيه مصلحة إسرائيلية. هكذا فإن المجازر الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لن يكون لها من تأثير على صعيد الصراع سوى زيادة تجذره والتعجيل بانتقاله إلى مستوى أعلى من مستويات التصعيد قد يفلت فيه الزمام من يديها بما يسبب لها تهديدات ومخاطر أمنية إضافية.
تؤكد هذا التحليل تلك التظاهرات التي عمت قطاع غزة والمخيمات الفلسطينية في دول الشتات العربية معلنة ابتهاجها بعملية القدس ومهنئة ضحايا المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة بوقوع العملية، ومعتبرة أنها تمثل ثأراً طبيعياً للفلسطينيين مما لحق بهم من جراء المجازر الإسرائيلية غير الإنسانية، وهي مشاعر نفهمها ولا نخجل منها لأنها تمثل رد فعل جماهيرياً عفوياً لما لحق بقطاع غزة من عمليات قتل وتدمير منهجي منظم.
ويستطيع الإسرائيليون وحلفاؤهم بطبيعة الحال أن يصوروا الفلسطينيين باعتبارهم وحوشاً آدمية. يساعدهم على ذلك خلل في النظام الإعلامي الدولي يجعل مخرجاته في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وغيرهما عاجزة عن أن تغطي مجازر غزة فلا يشعر بها أحد خارج نطاق الوطن العربي والإسلامي تقريباً، في الوقت الذي تتدفق فيه هذه المخرجات لكي تثبت وحشية الفلسطينيين ولا إنسانيتهم في عملية كعملية القدس الأخيرة، ويستطيع الإسرائيليون والمتطرفون منهم بالذات أن يطالبوا بالموت للفلسطينيين أو على الأقل بطردهم، غير أن ذلك لن يغير من الأمر شيئاً.
منذ عقود يتوعد الإسرائيليون الفلسطينيين بالويل والثبور، وفي نهاية الثمانينيات من القرن الماضي طالب إسحاق رابين بأحد عشر يوماً ليحطم عظامهم بمناسبة الانتفاضة الأولى، وفي مطلع القرن الحالي طالب أرييل شارون بمئة يوم للقضاء على انتفاضة الأقصى، وانتهى الأمر برابين إلى أن يوقع "اتفاقية أوسلو" معهم في 1993. وبشارون إلى الانسحاب من قطاع غزة وتفكيك مستوطناته في 2005، والآن يكرر أولمرت على نحو نمطي سلوك من سبقوه دون أن يمتلك قدراتهم، ولا ندري ألا يوجد من العقلاء من ينصحه بمحاولة قراءة دروس التاريخ القريب لعله يفهم؟ وخاصة أنه صاحب واحد من أهم إخفاقات دولته في تاريخ صراعها مع العرب بعد أن فشل تماماً بشهادة رسمية إسرائيلية في تحقيق أي من أهدافه في عدوان 2006 على لبنان.
لن تكسر الحلقة المفرغة لغياب التسامح وسيادة الكراهية إلا بالتسليم بأن ثمة حقوقاً أصيلة لشعب فلسطين ينبغي التسليم بها -أو على الأقل ببعضها- إن أردنا لهذه المنطقة أن يسودها الأمن والاستقرار، وقد يذكر المستعمرون أن هذا الشعب قد عاش عقداً كاملاً من الهدوء منذ "مؤتمر مدريد" في 1991 وحتى انتفاضة الأقصى في 2000 مروراً بـ"اتفاقية أوسلو" 1993 لأن ثمة أملاً في تسوية تعيد إليه جزءاً من حقوقه كان يراوده، وأنه لم ينتفض للمرة الثانية في أقل من عقدين إلا بعد أن فقد هذا الأمل تماماً، وللأسف فإن كل المؤشرات تشير إلى أن الكيان الإسرائيلي لا يمكنه أن يقدم على التسليم بحقوق الشعب الفلسطيني أو حتى بجزء منها في إطار ميزان القوى الراهن، ولذلك فإن فصائل النضال الفلسطيني مطالبة بتحمل مسؤوليتها الجسيمة المتمثلة في ضرورة إعادة بناء الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وبلورة رؤية استراتيجية سليمة للنضال الفلسطيني تستطيع عن طريقها أن تصحح ولو بعض الخلل في ميزان القوى الراهن بينها وبين إسرائيل بما يساعد على دفع عملية التسوية وكسر الحلقة المفرغة للعنف المفرط وصولاً إلى استعادة كاملة لحقوق الشعب الفلسطيني بإذن الله.